د.مسعود صبري

كانت الأمة قديما تمتلك ثقافة شرعية، ولم تكن تلك الثقافة للخاصة، بل للعامة أيضا، ولا يعني هذا أن الأمة كانت كلها متخصصة في علوم الشريعة، فقد كان لأهل التخصص ما يجعلهم مرجعا للعوام والمقلدين، ولكن كان للمتخصصين علم، وللعوام ثقافة، وشتان ما بين الأمرين، بل إن ثقافتهم– قديما- ربما وازت علم كثير من العلماء والباحثين المعاصرين، ذلك أن المجتمع كان عنده إدراك لقيمة العلم، ليس في العلوم الشرعية فحسب، ولكن في جميع العلوم، فرأينا المبرز منهم اتسم بالموسوعية، فتراه طبيبا، وفلكيا، وفقيها، ومحدثا، وعالما باللغة والبلاغة، وعالما بالحساب وغير ذلك من العلوم.

إن ساد التقليد قرونا في حياة المسلمين، فإن هذا لا يعني انعدام العلم عندهم، أو أن يكون خلا عصر من العصور، أو مجتمع من المجتمعات من مجتهدين عظام؛ إذ تخيل خلو عصر أو مجتمع من المجتهدين يستحيل شرعا، كما أنه ممنوع عقلا، ولكن ربما تقل رتبة الاجتهاد، كما الحال مثلا في عصورنا، فرغم وجود عدد من المجتهدين– ولو بشكل من الأشكال- فإن هذا لا يعني أن علماء العصر حصلوا علوم السابقين.

ومن هنا: فإن الحملة على المذهبية الفقهية، واتهامها بأنها كانت سببا من أسباب تخلف المسلمين ضرب من الظلم والحيدة عن الحق، ذلك أن المذهبية كانت خيرا على الأمة، فجعلت مئات وآلافا في كل مجتمع في عداد العلماء الثقات، وطلبة العلم المتميزين، مما كان له أثر في انتشار الشريعة علما وثقافة عند الخاصة والعامة بقدر معين، وإن كان هذا لا يعني أن هناك ملاحظات نقدية على عصور التقليد، وعلى المذهبية أيضا.

وإن كان عصرنا قد اتسم بتوافر وسائل العلم، فقد كان للطباعة أثر كبير في انتشار الكتب العلمية بعد أن كان يجلس العالم أو الناسخ ينسخ الكتاب بيده شهورا، وربما لم يكن هناك من بعض الكتب إلا أعدادا قليلة في العالم الإسلامي كله، فانتشرت – بعد الطباعة- المكتبات ودور النشر ليجد القارئ والمطالع بغيته فيما يريد من كتب، ثم جاءت ثورة الاتصالات لتساعد أيضا في نشر الكتب على نطاق أوسع، فبدلا من الذهاب إلى المكتبة، أو التواصل معها إن كانت في غير بلد المشتري؛ أضحى من السهل أن يحصل الإنسان على نسخة الكترونية من الكتاب وهو في بيته، كما أنها أتاحت انتشار عدد كبير من الكتب النادرة، التي كان من الصعب الحصول عليها.

ورغم انتشار الكتب والطباعة، فإنه حصل تراجع في العلم والتعلم، وانطبع هذا على قادة الفكر الديني في المجتمعات المسلمة، فبعد أن كان طالب العلم يربى على يد العلماء والشيوخ، فيحصل علما حقيقيا من خلال متابعة الشيخ ومدارسته، واطمئنانه على ما حصله طلابه، أضحى تحصيل العلم من باب الثقافة، فاهتمت بعض المدارس الحديثة بالمنهجية دون تحصيل الفروع، رغم الاختلاف حول القواعد المنهجية ذاتها، كما أن هناك الدراسة النظامية في الجامعات، وهي أيضا نحت نحو مفاتيح العلم وليس تحصيل العلم، وأضحى هم الأستاذ– تحت ضغط المعيشة والترزق- أن يؤلف كتابا؛ ليتحصل من ورائه على لقمة عيش، لا أن يختار من الكتب التي رزقت شهرة، وتعد كتبا معتمدة في التعلم والتحصيل، فأضحى خريجو الجامعات لا يتخرجون بعلم، وإنما يتخرجون بثقافة أو مفاتيح علم، ربما كان العوام قديما يتحصلون على هذا القدر الذي يتحصل عليه الآن طبقة من الدكاترة في الجامعات.

وخلافا لهذا، فإن طريقة السلف الصالح في تعلم العلوم الشرعية كان يصحبها منهج تربوي، إذ يصاحب الطالب شيخه، فينهل من أدبه وسلوكه وأخلاقه، فكان القائم بالتدريس ليس مدرسا فحسب، ولكنه كان معلما ومربيا ومؤدبا، وانتهينا في نظم الدراسة الآن إلى تحصيل قشور من العلم ليس إلا.

واستغل هذا الوضع بعض من الدعاة، فاتهموا التدريس النظامي بالقصور وأنه مجرد قشور- وهو اتهام فيه بعض الشيء من الصحة-، لكنهم أخذوا شكل تحصيل العلوم الشرعية وتدريسها على طريقة السلف، دون السير على المنهج نفسه، فظهر فيهم من مدرسة السلف المظهر دون الجوهر، فيكفي إسناد الأقوال إلى ابن فلان أو ابن فلان، مع نقد المدرسة الأكاديمية لتضخيم حجم المدرسة التي ظاهرها منهج السلف ونصرته، وحقيقتها أنها تندرج تحت مدرسة القشور لا الأصول.

وهناك بقية من العلماء الذين تلقوا العلم على يد شيوخهم، ومازالوا يسندون العلم إلى أهله، بالتسلسل الذي اشتهرت به الأمة وتميزت، وهم بقية صالحة، كأنه أشير إليهم في حديث رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فيما ورد عن عبدالله بن عمرو قال: قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : «طوبى للغرباء. قلنا: وما الغرباء؟ قال: قوم صالحون قليل في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم» (1). فغالب العلماء الذين يسيرون على نهج السلف في تعليم الأمة مغمورون، وقليل من اشتهر منهم.

وتكمن من جراء ذلك مشكلة أيضا، وهي تعصب كثير من الطلاب الذي يحضرون عند هؤلاء العلماء، خاصة إذا قارنوا أنفسهم بزملائهم في المعاهد والكليات أو في محيط الدعوة، فيتولد عند البعض داء الكبر، لما يجد عنده من بعض العلم دون غيره.

أما عامة المسلمين، فقد اكتفوا بمشاهدة البرامج الدينية على الفضائيات، فهي زادهم، وربما كان مجرد ظهور شخص على التلفاز دليلا عندهم على أنه من العلماء، ولو كان غير متخصص، وهو– كما عند البعض- قد يرتقي في أحسن تقدير إلى طالب علم مبتدئ، فضلا عن تصدر البعض في غير تخصصه، ناهيك عن عدم تمكن عدد من المتخصصين في تخصصهم، مما نتجت عنه مجرد ثقافة عامة، وليس علما، ولو لاحظت كثيرا من الدعاة حين الحديث عن موضوع بعينه؛ لترى أن المادة متقاربة جدا، وأن كثيرا من الكلام مكرور، وذلك أن مصادر المعرفة والنقل تقاربت وكادت أن تكون واحدة في الغالب، وليس هناك من يتعب نفسه في البحث عن مصادر تأتي بجديد وعلم للناس، وكانت النتيجة أن كثيرا من الخاصة عندهم ثقافة وليس علما، أما العوام فعندهم مستوى أقل من تلك الثقافة، مما يعني تدهور مستوى تعلم العلوم الشرعية، ناهيك عن اضمحلال المستوى في المعاهد الدينية والجامعات الدينية المنوط بها تخريج العلماء الشرعيين.

وما أطرحه ليس نوعا من التشاؤم، بل هو نصح لهذه الأمة، والناصح يجب أن يكون أمينا، وإن كنا ندعو الأمة أن يكون عندها علم بدينها وعلومها، فإن هذا يتأتى من خلال تشجيع التجارب العلمية التي يقودها عدد من علماء الأمة من خلال الأخذ من علوم السلف دون تقديس أو تبخيس، مع تيسير تلك العلوم بما يتناسب مع لغة العصر، بالإضافة إلى اجتهاد الفقهاء المعاصرين في النوازل العصرية والمستجدات الحياتية، وإن من الحكمة أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون، لا أن نبدأ من حيث ابتدأوا.

إن الأمة بحاجة إلى الدراسة المذهبية في العلوم الشرعية، ولكنها مذهبية معاصرة، تسهل الصعب، وتقرب البعيد، وتهتم بالجوهر دون المظهر، وتقدم الفهم على الحفظ، وتربي جيلا من طلاب العلم على أمل أن يكون علماء المستقبل في الأمة، فإذا كون هذا الجيل على أسس علمية أصيلة؛ كانت البداية لانتشار العلم بين عوام الناس، وكما فتحت علوم تجريبية كثيرة أبوابها للعوام، من خلال المتخصصين عبر نوافذ متعددة، فما أحوجنا إلى هذا المنهج في العلوم التي تتعلق بدين الناس، مراعين مستويات الناس واهتمامهم، فليكن عندنا ثقافة شرعية لعوام الناس، وعلم أصيل عند المتخصصين من العلماء وطلاب العلم، فهذا أول الطريق إلى النهضة الحقيقية للأمة، إذا جمعت بين العلم والأدب والتربية، وامتزج كل هذا في شيء واحد، اهتماما بالعقل والوجدان، وتقويما للسلوك، ونشرا للأخلاق، ومن عجيب أنا رأينا أن بعض خريجي الكليات التجريبية، كالطب والهندسة وغيرهما فرغوا من أوقاتهم، وتتلمذوا على يد شيوخ ثقات، فأضحوا يعرفون من الشرع أكثر من المتخصصين، وهو أمر حسن، إذ الدين وعلومه ليست حصرا على فئة دون فئة، ولكنه سباق، كما قال تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} (المطففين: 26)، وقد كان العلماء من السلف– رضوان الله عليهم- لكل منهم مهنة وتجارة يتكسب منها بجوار انشغاله بالعلم، وقد أحرزوا السبق في هذا، أما الآن، فعندنا متخصصون لقمة عيشهم من تخصصهم، ولكن شتان بين الفريقين؛ إذ كان تعلم السلف العلم خالصا، فلما أخلصوا؛ فتح الله تعالى لهم من خزائن علمه ورحمته، كما قال سبحانه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} (الشورى: 20)، على أن هذا لا يعني أن ينفر الناس كلهم لتعلم العلوم الشرعية، بل المقصود أننا بحاجة إلى منهج السلف في تعلم كل العلوم الدينية والدنيوية، وأن تهتم الأمة كلها بالعلم في جميع التخصصات، لكن ليس على مستوى القشور والشهادات، وإنما على مستوى التمكن والقوة فيه؛ على أن يكون علما يقرب إلى الله تعالى، وينفع الأمة والبشرية، أما تلك الثقافات التافهة التي تنتشر في ساحات الفضائيات والإنترنت وغيرها من وسائل الاتصال، فلن تقيم أمة، ولن تصنع مجدا، ولن تنهض راقدا من ثباته، والإسراف في استعمال الترف لا يقود إلى خير، بل يقود إلى هلاك الأمم، كما قال سبحانه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} (الإسراء: 16)، فقبل الحديث عن الترويح على النفس والتخفيف والتيسير المدَّعى، يجب أن نقدم بين يديه عزما وقوة وعلما وعملا، كما قال سبحانه: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (القصص: 77)، فقدم طلب الآخرة من العمل الصالح أولا، ومعه لا ينسى نصيبه من الدنيا، إذ التوازن من صفات هذا الدين، وإنما جعلت الدنيا مزرعة للآخرة، والعلم طريقا إلى نهضة كل أمة تسعى إليه.

إننا اليوم مع شيوع تك الثقافة الواسعة نحتاج إلى منهج سديد لإصلاح التعليم الديني، يجمع بين الأصالة والمعاصرة، كما يجمع بين العمق والتيسير، ويراعي مقاصد العلوم دون الانشغال بحشو العقول بمعلومات، وأن يكون تعليما قادرا على إخراج متخصصين في مجالات الخطاب الديني بكافة أشكاله وأنواعه، مما يعني الحاجة إلى الاهتمام بالمناهج، والاهتمام بتكوين المعلم، والإفادة من الوسائل الحديثة في طرق التدريس مع الحفاظ على أصالة الطريقة القديمة، وتلك إشكاليات لا تحل في كلمات، بل تحتاج إلى جهد أكبر حتى نحقق ما نسميه (تجديد الخطاب الديني)، وآثاره الكبرى ليست فقط على المعاهد والجامعات الشرعية بل على المجتمع كله، لما لتأثير الدعاة والعلماء وخريجي المدارس والجامعات الشرعية على المجتمع كله.

الهوامش

1- المعجم الأوسط:ج9/ص14 ح8986

ثقافة القدماء توازي علم المتخصصين اليوم وربما تفوقها.. والجمع بين العلم والأدب والتربية طريق النهضة

باحث مصري

abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 54 مشاهدة
نشرت فى 11 يونيو 2012 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

305,706