إن بيان القدرة النبوية في صنع مجتمع أمن وطمأنينة لدرجة أنك لن تستطيع رؤية مثل ذلك المجتمع إلا في الكتب التي تصف المدن الفاضلة.


لقد شهد رسول الله "صلى الله عليه وسلم" الحروب أيضًا.. أولًا مع قومه وقبيلته ثم مع اليهود في المدينة وحواليها، ثم دخل حربًا مع الإمبراطورية البيزنطية، فقد كان محاطًا بالأعداء، وكان هؤلاء الأعداء مصدر مشاكل عديدة له. ولكنه كان يستطيع في كل مرة أن يستل نفسه من هذه المشاكل مثل استلال الشعرة من العجين.

1. التكتيك في معركة أُحد

لن أتناول هنا الانتصار في معركة بدر، ولا التعبئة في معركة الخندق ولا المفاخر التي سطرها الأبطال في مؤتة، ولا البطولات النادرة في معركة اليرموك بل سأتناول بإيجاز المسائل التي نتجت عن معركة أُحد التي تعد - في جانب منها - معركة كان للهزيمة فيها نصيب، والإشارة إلى تعامله مع هذه المسائل والقرارات الصائبة التي اتخذها في شأنها.

تُعد معركة أُحد أول معركة ظهرت فيها بوادر الهزيمة في صفوف المسلمين، وأنا أعوذ بالله من إسناد الهزيمة إلى أي مسلم حقيقي، ذلك لأنه كان لله تعالى تقدير خاص في ذلك أولا، إذ كان هناك أمام المسلمين أشخاص أمثال خالد بن الوليد وعمرو بن العاص من الدهاة العسكريين والسياسيين، وهؤلاء سيردون جيوشًا عديدة للأعداء على أعقابهم في المستقبل. صحيح أنهم كانوا آنذاك لسوء حظهم في صفوف المشركين، إلا أنهم كانوا صحابة المستقبل.

أجل، لقد غلب صحابة المستقبل صحابة اليوم، والمسألة الثانية هي أن الرماة - عين لهم الرسول "صلى الله عليه وسلم" موضعًا خاصًا وأعطى لهم أوامر معينة - لم يلتزموا بتوجيهات الرسول "صلى الله عليه وسلم" بل ظهر عند بعضهم حب جمع الغنائم، ولكنهم وجدوا عكس ما أملوا. والحقيقة أننا لا نرى في أنفسنا صلاحية وحق نقد هؤلاء الصحابة الأجلاء، فهم أولًا قد شرفوا برتبة المقربين، والمقربون لهم مستوى خاص من التعامل. ما أريد قوله هو أن هؤلاء الناس الشبيهين بالملائكة كانوا يعاملون معاملة خاصة، وإلا فإن حسناتنا تعد سيئات بالنسبة إليهم.

أجل، لو أننا فعلنا ما فعلوه آنذاك لاكتسبنا الثواب دون شك لكون باب الاجتهاد مفتوحًا على الثواب دائما. أما هم فقد كانوا من الرجال المخلصين المضحين الذين صافحوا يد الرسول "صلى الله عليه وسلم" ، والذين عاهدوا على نبذ الدنيا وهجرها لحساب الآخرة والذين سبقوا الملائكة المقربين، ولكون هؤلاء قد أسقطوا ظلًا على مرتبة «المقربين» عندهم فقد ظهروا بمظهر المغلوبين.. فماذا حدث؟ الذي حدث هو سقوط سبعين شهيدًا من الذين نعرف أسماءهم من بين بضع مئات من الصحابة (1).

وجرح مثل هذا العدد منهم جرحًا بليغًا حتى أنهم عجزوا عن الحركة، وقد كان بإمكان المشركين إنزال ضربة أخرى بالمسلمين لولا أن المسلمين التجأوا إلى جبل أُحد، ورأى المشركون أن أصواتهم قوية وليست واهنة، فلم يرغبوا في الدخول إلى مخاطرة أخرى، لذا تركوا ساحة القتال فورا، إذ داخل الخوف قلوب المشركين، وكان عذر المشركين لهذا الخوف ولما يشبه الهزيمة هو: لقد آذيناهم إلى درجة أنهم لن يستطيعوا التخلص سريعًا من أثر هذه الهزيمة، إذن، فلنذهب، فمن يدري ما الذي سيحصل إن هجمنا عليهم مرة أخرى، فانسحبوا على هذا الأساس وتركوا ساحة القتال، ثم حين حرض أحدهم قريشًا (أصبح هذا فيما بعد صحابيًّا وقدم خدمات جليلة) على مواصلة القتال، والذي جاء وصفه في القرآن بأن الشيطان حرض قريشًا، وقال لهم أن اذهبوا إلى المدينة مادام الوضع مساعدًا. كان من الواضح أنه يريد منهم التوجه إلى المدينة لهدمها على رؤوس أهاليها مثلما فعل الرومان بمدينة قرطاجة، ولا يبقوا فيها فردًا واحدًا، لأنه إن بقي منهم أحد تكاثروا بسرعة وأصبحوا مشكلة لهم (2).

ما أن سمع الرسول "صلى الله عليه وسلم" هذا حتى أصدر أمره بأن من كان معه يوم أُحد من الأصحاء أو الجرحى فليجتمعوا في المكان الفلاني لأنه سيذهب لملاقاة العدو (3).

فهؤلاء الجرحى والمصابون الذين التجأوا قبل يوم إلى سفح جبل أُحد كانوا يستعدون لحملة أخرى، ذلك لأنه كان من الضروري إبداء قوة معنوية كبيرة تقوم بجبر معنوياتهم وإزالة مظاهر خيبة الأمل التي أصابت المسلمين والتي سنذكرها هنا:

أول مظهر من مظاهر خيبة الأمل هو انكسار القوة المعنوية للمسلمين، ثانيًا تزايد شهية الكفار، ثالثًا تزايد شماتة المنافقين من حال المسلمين مما كان يؤثر على معنوياتهم. لذا، فإن الفكرة التي طرحها ذلك المشرك من وجوب التداعي والهجوم الجماعي على المسلمين لاستئصال شأفتهم بدأت تنتشر هنا وهناك وتتداولها الألسن، فكان هذا الأمر نذير خطر كبير على المسلمين، ولولا فطنة الرسول "صلى الله عليه وسلم" وسرعة تداركه للأمر لكان من الممكن ظهور مشكلة كبيرة وخطر عظيم يصعب على المسلمين مواجهته.. أجل، لقد أصابت المسلمين آنذاك أضرار فادحة - مثلما أصاب الجندي التركي في معركة شنق قلعة - ولكنهم استطاعوا أن يلموا شعثهم ويقلبوا الهزيمة التي كانت تلوح قريبة منهم إلى نصر بعون من الله تعالى.

أجل، فما أن أصدر الرسول "صلى الله عليه وسلم" أمره إلى هذه الجماعة بالتهيؤ والتجمع حتى تهيأوا وتجمعوا وانتقلوا إلى حالة الاستعداد للهجوم.. كان بعضهم مصابا في يده أو في رجله، وبعضهم لا يستطيع المشي إلا بمشقة، ومع ذلك فما أن سمعوا دعوة الرسول "صلى الله عليه وسلم" حتى تجمعوا في المكان المعين، فكأن أنفاس الرسول "صلى الله عليه وسلم" قد أحيتهم ونفخت فيهم القوة والعزيمة؛ فبدأوا يتسابقون في الاستجابة إليه. وكما قال الشاعر البوصيري:

لو ناسبتْ قدرَه آياتُه عِظما أحيا اسمُه حين يُدْعى دارسَ الرِّمم

أي لو كانت معجزاته على قدر قيمته "صلى الله عليه وسلم" لأحيا ذكر اسمه الرمم الدارسة في القبور.. لقد أحيت دعوته الجميع في أُحد فتسابقوا إلى إجابة دعوته.

والآن لنستمع إلى شرح هذه الحادثة من أحد الصحابة حيث يقول ما معناه:

«كان لي صديق لا يستطيع المشي فكنا نحمله على أكتافنا لأنه قال لنا أن نحمله إلى موضع القتال فإن لم يستطع رمي السهام فهو يستطيع استعمال الرمح. كان أحدنا يحمل الآخر، وربما سقط أحدنا وأغمي عليه، وهكذا حتى وصلنا إلى وادي حمراء الأسد. وهو موضع يستطيع فيه المشركون رؤية دخان مواقد المسلمين. فما أن رأى المشركون تجمع المسلمين الذين ظنوا أنهم أصابوهم إصابة بالغة لا يرجون منها شفاء حتى ذهلوا واحتاروا. وإذا بأبي سفيان الذي أصابه الفزع يصرخ فيهم: «الرحيل! الرحيل!» ذلك لأنه بدأ يخشى أن تدور الدائرة عليهم بعد أن فكروا في الإغارة على المدينة. أما الآن فإن همهم الوحيد كان هـو الإسـراع إلى مكة»(4).

فلو تأملتم لرأيتم كيف قام الرسول "صلى الله عليه وسلم" بحل جميع مشاكل الحرب بنفحة واحدة وبضربة واحدة ودون أن يخلف أي مضاعفات ولا أي مشاكل. والقرآن الكريم يشير إلى هذا الموقف الحرج فيقول: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُم فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} (آل عمران: 173).(5).

أجل، لقد تركت قريش كل شيء وهربت، أما المسلمون فقد تخلصوا من أثر الهزة التي أصابتهم أمس، ثم رجعوا إلى المدينة دون أن يصيبهم أي ضرر بنعمة من الله وفضل (6). هناك بعض من كتاب السير والمغازي يذكرون أن معركة أُحد كانت هزيمة بالنسبة للمسلمين.. أجل، إن كان هناك جانب من الهزيمة في معركة أُحد فهو يرجع إلى بعض الصحابة الذين لم يستمعوا إلى تعاليم النبي "صلى الله عليه وسلم" واستشهدوا في تلك المعركة فرحلوا إلى الآخرة طاهرين مطهرين. ولكن هناك جانب نصر في أُحد، وأنا أرى الوقوف عند هذا الجانب الذي حققه الرسول


مفكر تركي - من كتاب النور الخالد للكاتب


الرسول "صلى الله عليه وسلم" قلب هزيمة أحد إلى نصر .. وهذا عين الحكمة


"صلى الله عليه وسلم" .. أجل، فإن المهم هو القيام بقلب الهزيمة إلى نصر وهو ما فعله الرسول "صلى الله عليه وسلم" .

هناك مقولة للغرب تقال في حق الأمة التركية وهي: «هناك أوقات تنتهي فيها مقاومة كل أمة، في هذا الوقت تبدأ هذه الأمة بالهجوم».

والحقيقة أن هذه المقولة يجب أن تُقال في حق المسلمين الصادقين حيث تصبح صحيحة على الدوام، أي في الأوقات وفي الظروف التي تنتهي فيها مقاومة الأمم وتبدأ بالاستسلام يقوم المسلمون الصادقون كما قام الرسول محمد "صلى الله عليه وسلم" ببدء الهجوم. وهذا الهجوم يقوم بحل المشاكل المتراكمة الواحدة فوق الأخرى، ويهبُّ الأمل والإيمان إلى قلوب المؤمنين واليأس والقنوط إلى قلوب المنافقين، ويجعل أمنية المشركين حسرة في قلوبهم. فماذا يمكن أن يقال هنا بعد أن حول الرسول "صلى الله عليه وسلم" الهزيمة إلى نصر وأعاد المسلمين إلى المدينة فرحين غالبين، وحل بحكمته هذه المشكلة المعقدة.. سوى الشهادة بأن محمدًا "صلى الله عليه وسلم" رسول الله حقا وصدقا؟

2- الشورى

كان الرسول "صلى الله عليه وسلم" يقوم بحل بعض المشكلات التي تعرض له عن طريق التشاور، وهو مع عدم حاجته إلى المشورة إلا أنه كان يريد إرساء قضية الشورى كقاعدة مهمة لأن الذين سيأتون من بعده كممثلين للأمة الإسلامية سيكونون في حاجة للشورى. أجل، فقد كان شخصًا وهب له التأييد الإلهي، فلم يتركه الله تعالى وحده في أي مسألة من المسائل، فلو ألم به مرض لتلقى الإلهام الإلهي بطريقة العلاج والشفاء؛ فقد كان على ارتباط وثيق بعالم الملكوت، ولكنه كان يعطي أهمية كبيرة لموضوع الشورى، وكان هذا بُعدا آخر من أبعاد فطنته وجانبًا آخر من جوانب فراسته.

لقد أصبحت الشورى بعده بعدة عصور نظامًا لا يستغنى عنه في إدارة الدولة. ولكون الإدارة في الإسلام مفتوحة على الشورى ولكونها مرنة وواسعة وتستطيع أن تحتضن العصور بعالميتها فقد تخطت العصور عصرًا عصرًا حتى وصلت إلى أيامنا الحالية.

إليكم بعض الأمثلة:

1- كان "صلى الله عليه وسلم" يشاور الجميع ويأخذ وجهة نظر الكل لأنه كان يريد إشاعة فكرة الشورى في حياة المجتمع وجعلها سائدة فيه. استشار علـيًا "رضي الله عنه" ، وهو الإنسان الذي قال: «لو رُفع الغِطاء ما ازددتُ يقينًا» (7) ولكنه كان مع هذا تلميذًا في مدرسة الرسول "صلى الله عليه وسلم" ، وقد استشاره الرسول "صلى الله عليه وسلم" مع أنه كان شابًا يافعًا (8).

كان المنافقون قد افتروا على أمنا عائشة، رضي الله عنها، فيما اشتهر بحادثة «الإفك» التي برأ الله تعالى فيها أمنا عائشة، رضي الله عنها، ومع أن الرسول "صلى الله عليه وسلم" كان موقنا بأن الوحي سيقول القول الفصل في هذا الأمر، ورغم كونه غير قلق من ناحية عائشة، رضي الله عنها، فإنه قام مع هذا باستشارة أصحابه عدة مرات لأنه كانت هناك مصلحة في مثل هذه الاستشارات؛ لأن الاستشارة دائما مغانم وليس لها خسائر، وما بعث النبي "صلى الله عليه وسلم" إلا لهدايتنا لما فيه الخير لنا.

وهناك رواية ضعيفة عن حادثة جاء فيها أن الرسول "صلى الله عليه وسلم" دعا عمر "رضي الله عنه" وسأله عن رأيه في عائشة، رضي الله عنها، فقال عمر: يا رسول الله، إن عائشة بريئة وإنها طاهرة ونقية. فسأله الرسول "صلى الله عليه وسلم" كيف عرف ذلك فأجاب عمر: «لقد عرفنا فيما بعد أنك كنت تصلي مرة دون أن تعرف أن نجاسة صغيرة قد مست نعلك فنزل جبريل \ وأخبرك بالأمر. وقال لك بأن تخلع نعلك.. فإذا كان الله تعالى يخبرك عن مثل هذه النجاسة الصغيرة فكيف يرضى لك أن تكون لك زوجة تقترف – حاشاها - مثل هذا الإثم؟ لاشك أن جبريل سيأتيك ليخبرك عن مدى عفة عائشة، رضي الله عنها».

أجل، لقد قال الرسول "صلى الله عليه وسلم" : «ما ندم من استشار» (9). لذا، فقد استشار عمر. فمثل هذه الاستشارة لا تفقده شيئا، بل ربما كسب قلب عمر "رضي الله عنه" مرة أخرى. أجل، لقد كان الرسول "صلى الله عليه وسلم" يتشاور مع طلابه ويأخذ آراءهم. ولاشك أن الرابح في هذه الاستشارات كان هؤلاء الطلاب، ذلك لأن الرسول "صلى الله عليه وسلم" كان يلقن طلابه درسًا أخلاقيًا في هذا الخصوص، ثم أليس هو القائل: «ما ندم من استشار».

2- عندما خرج "صلى الله عليه وسلم" لمعركة بدر استشار المهاجرين والأنصار وأخذ بآرائهم، فتكلم المقداد بن عمرو باسم المهاجرين فقال: يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن معك. والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى بَرْكِ الغِمَاد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه. فقال له رسول الله "صلى الله عليه وسلم" خيرًا ودعا له. ثم قال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : «أشيروا عليّ أيها الناس»، وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم كانوا عدد الناس وأنهم حين بايعوه بالعَقَبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم.

فلما قال ذلك رسول الله "صلى الله عليه وسلم" قال له سـعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال "صلى الله عليه وسلم" : «أجل» قال: فقد آمنّا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامض يا رسول الله لما أردتَ فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضتَ بنا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلَّف منا رجل واحد، وما نَكْرَهُ أن تَلقى بنا عدونا غدا. إنّا لصُبُر في الحرب صُدُق عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقرّ به عينُك فسِرْ على بركة الله (10).

كان الرسول "صلى الله عليه وسلم" يقوم بالاستشارة لإظهار روح الاتفاق بين المسلمين. كان الأنصار والمهاجرون متفقين على شيء واحد.. عزمهم على القتال وعلى الاستشهاد.. أجل، لقد كان هذا هو الشيء الوحيد الذي كان عليهم أن يعملوه تجاه الجمع الحاشد لأعدائهم المملوئين حقدًا وغيظًا والمتهيئين بسيوفهم ورماحهم وسهامهم للقضاء عليهم، أما رسول الله "صلى الله عليه وسلم" فقد كان متهيئًا للدفاع عن الحق وعن الحقيقة وعن شرف الإسلام وعن كرامة الأمة الإسلامية، وكان يقوم باستشارة أصحابه ويبدي رأيه السامي على أوسع نطاق ويرسيه على أصلب أساس ويدع رأيه هذا يسري في مشاعر الصحابة وفي أحاسيسهم جميعًا دون استثناء، كما كانت الاستشارة غاية من غاياته. لقد رسم الله تعالى له الطريق وبين له ما يعمله، ولكنه إضافة إلى إرشاد ربه فقد كان يستشير أصحابه ليشاركهم وليشاركوه أفكاره ومشاعره في ذلك الموقف المهم. وما كان لأحد من أصحابه المخالفة في اتباعه والانقياد له أبدا، ذلك لأنهم أعطوه على ذلك عهدًا وميثاقًا. وسيأتي يوم يقول لكعب بن مالك "رضي الله عنه" معاتبًا: «ما خلّفك، ألم تكن قد ابتعتَ ظهرك؟» كان كعب "رضي الله عنه" قد أعطاه عهدًا في العَقَبة على أن يكون مع الرسول "صلى الله عليه وسلم" في اليسر والعسر ما تعاقب الليل والنهار (11)، لقد أعطوه عهدا، وألقوا بأنفسهم إلى الموت بملء إرادتهم.

كان الرسول "صلى الله عليه وسلم" يقوم باستشارته هذه ليتبنى المسلمون جميعًا دعوته، فكان الجميع يهرعون لمساعدته على قدر طاقتهم ويرون حمل هذه الدعوة غاية لهم وهدفا لحياتهم، ويرون في الشهادة أحلى أمانيهم.

3- عندما خرج الرسول "صلى الله عليه وسلم" يوم بدر كان عليه أن يعين المكان الذي ينزل فيه والآبار الموجودة هناك والتل الذي يجب أن يحتله، وكان عليه أن يشاور أصحابه في هذا الأمر.

قال ابن إسحاق: فخرج رسول الله "صلى الله عليه وسلم" يبادرهم إلى الماء حتى جاء أدنى ماء من بدر نزل به، فحُدّثتُ عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا أن حُباب بن المنذر بن الجموح قال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل، أمنزلًا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: «بل هو الرأي والحرب والمكيدة». قال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنـزل، فامضِ بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننـزله ثم نغور ما وراءه من القُلُب ثم نبني عليه حوضًا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون. فقال رسول الله "صلى الله عليه وسلم" : «لقد أشرت بالرأي» (12).

4. كان سلمان "رضي الله عنه" عبدًا فارسيا، كان مجوسيًا في أول الأمر ثم تنصر ثم أسلم وهو عبد، وعندما أسلم لم يكن يملك مالا أو أهلًا، وهو يدين بكل شيء إلى الإسلام، وقد عبر سلمان "رضي الله عنه" عن هذا الأمر بجملة وجيزة، فعندما سألوه مرة عن نسبه، قال:

أبي الإسلام لا أب لي سواه

إذا افتخروا بقيس أو تميم

أجل، لقد وجد نسبه الحقيقي، فهو ابن الإسلام.

وفي معركة الخندق أو معركة الأحزاب استشار الرسول "صلى الله عليه وسلم" أصحابه كما هي عادته، فأدلى كل برأيه وعندما جاء دور سلمان "رضي الله عنه" قال للرسول "صلى الله عليه وسلم" بأنهم اعتادوا في بلادهم على حفر خندق حول المدينة إن هاجمهم عدو، لذا فقد اقترح حفر خندق حول المدينة، وأعجب الرسول "صلى الله عليه وسلم" بهذا الرأي فأمر بحفر الخندق وشـارك بنفسه في أعمال الحفر وشـجع العاملين هناك (13).

5- لم يكن يستشير الرجال فقط، بل يستشير النساء أيضا، ففي الحُديبية استشار زوجته أم سلمة، رضي الله عنها، ولم ير بأسًا في تنفيذ ما اقترحت عليه (14).

لقد سلك هذا المسلك طوال حياته، واستطاع عن طريق الاستشارة تخطي مشاكل صعبة. وقد بدأنا نفهم أخيرًا مدى ضرورة الشورى وأهميتها في إدارة الدولة، أما المستبدون فقد تركوا وراءهم مئات المشاكل قبل أن يرحلوا. لقد علّم وجوب احترام الفكر والعقل، فهناك حكمة في وجود العقل، أي حكمة في التفكير وإجراء المحاكمات العقلية، وهناك حكمة من وجود الفكر البشري بحيث تتم مراجعة هذا الفكر حتى من قبل الدعوات المؤسسة على الوحي، وحتى من قبل الأشخاص المتصلين بالوحي، حيث يتم تفسيرها بهذا الفكر، لذا، فمن لا عقل له لا يعد مكلفا في شرعنا، وهذا أساس من أسس ديننا.



الهوامش

1- البخاري، المغازي، 26

2- السيرة النبوية، لابن هشام 3/128

3- البداية والنهاية، لابن كثير 4/56

4- البخاري، المغازي، 25، السيرة النبوية، لابن هشام 3/99-111، الطبقات الكبرى، لابن سعد 2/42-49

5- السيرة النبوية، لابن هشام 3/128

6- البخاري، المغازي، 25، السيرة النبوية، لابن هشام 3/99-111، الطبقات الكبرى، لابن سعد 2/42-49

7- الأسرار المرفوعة، لعلي القاري ص193

8 البخاري، المغازي، 34، السيرة النبوية، لابن هشام 3/313

9 مجمع الزوائد، للهيثمي 2/280

10- مسلم، الجهاد، 83، المسند، للإمام أحمد 3/257، السيرة النبوية، لابن هشام 2/266-267؛ البداية والنهاية، لابن كثير 3/320-322

11- البخاري، المغازي، 79؛ مسلم، التوبة، 53

12- السيرة النبوية، لابن هشام 2/272، البداية والنهاية، لابن كثير 3/326

13- السيرة النبوية، لابن هشام 3/235، الطبقات الكبرى، لابن سعد 2/66، البداية والنهاية، لابن كثير 4/109

14- انظر: البخاري، الشروط، 15

*من كتاب النور الخالد للكاتب.

فتح الله كولن


© 2012 . .

المصدر: الوعي الاسلامي
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 30 مشاهدة
نشرت فى 10 يونيو 2012 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

309,671