فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم (21)

د. علي الصلابي

شــــــــــروط التمكـــــــــين (1)

تمهيد

إن الاستخلاف في الأرض, والتمكين لدين الله, وإبدال الخوف أمنًا, وعد من الله تعالى متى حقق المسلمون شروطه. ولقد أشار القرآن الكريم بكل وضوح إلى شروط التمكين, ولوازم الاستمرار فيه.

قال تعالى: "وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ  وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" [النور:56،55].

لقد أشارت الآيات الكريمة إلى شروط التمكين وهي: الإيمان بكل معانيه وبكل أركانه, وممارسة العمل الصالح, بكل أنواعه, والحرص على كل أنواع الخير وصنوف البر, وتحقيق العبودية الشاملة, ومحاربة الشرك بكل أشكاله وأنواعه وخفاياه, وأما لوازم استمرار التمكين فهي: إقامة الصلاة, وإيتاء الزكاة, وطاعة الرسول ×.

وأما ما يتعلق بأسباب التمكين, فقد أمر الله تعالى بالإعداد الشامل في قوله تعالى: "وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ" [الأنفال:60].

والإعداد في حقيقته أخذ بالأسباب, فالإعداد المطلوب من خلال مفهوم الآية إعداد شامل؛ لأن كلمة قوة جاءت نكرة في سياق الأمر, فيشمل قوة العقيدة والإيمان, وقوة الصف والتلاحم, وقوة السلاح والساعد.

إن الآية الكريمة تفتح أذهان المسلمين على الإعداد الشامل؛ المعنوي والمادي, العلمي والفقهي على مستوى الأفراد والجماعات, وتدخل في طياتها الإعداد التربوي والسلوكي والإعداد المالي, والإعلامي والسياسي والأمني, والعسكري.... إلخ.

وفي هذا الباب سنتعرض لبيان شروط التمكين في فصل مستقل وبيان أسبابه في فصل آخر بإذن الله تعالى, لكي يستفيد منها المسلمون في حركتهم الجادة لتمكين شرع الله في الأرض.

شــــــــــروط التمكـــــــــين

الإيمان بالله والعمل الصالح

لقد بين الله سبحانه لعباده حقيقة الإيمان الذي يقبل الله به الأعمال ويتحقق به وعد الله للمؤمنين.

فمن شروط الاستخلاف في الأرض تحقيق الإيمان بكل معانيه والالتزام بشروطه والابتعاد عن نواقضه.

وقد فصل القرآن الكريم والسنة النبوية موضوع الإيمان وأركانه وشروطه ولوازمه.

وقد بين علماء أهل السنة في تعاريفهم بيان حقيقة الإيمان فقالوا: بأن الإيمان هو التصديق بالقلب والنطق بالشهادتين والعمل بالجوارح والأركان, أي هو: اعتقاد وقول وعمل, فهذه الثلاثة كلها مندرجة فيه وتمثل أجزاء من حقيقته.

وقد تواترت أقوال العلماء ومن بعدهم على هذه الحقيقة, واستدلوا بأدلة كثيرة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية على صحة هذا القول في حقيقة الإيمان( ).

قال تعالى: :"إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ  الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ  أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا" [الأنفال: 2-4].

فقد جمعت هذه الآيات -وهي تعرض صفات المؤمنين- بين عمل القلب وعمل الجوارح, واعتبرت هذا كله إيمانًا, وقصرت الإيمان عليه بأداة القصر والحصر +إِنَّمَا" وعرفت المؤمنين بتلك الصفات مجتمعة, عندما ضمنتها بعبارة +أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا" وأعمال الجوارح في هذه الصفات هي: إقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله.

ومنها قوله تعالى: "إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ" [السجدة:15], فسجود المؤمنين عندما يذكَّرون بآيات الله, عبادة عملية بدنية, وتسبيحهم بحمد ربهم عبادة عملية لسانية, وعدم استكبارهم عبادة عملية سلوكية أخلاقية قلبية.. وهذه كلها أعمال مندرجة في حقيقة الإيمان.

ومنها قوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" [البقرة: 277], فمن حقيقة الإيمان في الآية عمل الصالحات على عمومها, وخصصت اثنتين منها بالذكر وهما الصلاة والزكاة, واعتبرت أداءهما عمليًا من الإيمان.

إن آيات القرآن التي قرنت بين الإيمان وعمل الصالحات واعتبرت الأمرين من حقيقة الإيمان ومن صفات المؤمنين كثيرة, منها قوله تعالى: "إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئًا" [مريم:60].

وفي قوله تعالى: "إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ" [سبأ: 37]. وكقوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً" [الكهف:30].
هذا وقد أطلق القرآن لفظ (الإيمان) على العمل في بعض الآيات ومن ذلك قوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" [البقرة: 143], والإيمان هنا يراد به الصلاة, وقد ذهب جمهور المفسرين إلى هذا, بل إن الصحابة فهموا هذا وتضافرت الروايات عنهم في سبب نزول الآية.

روى إمام المفسرين ابن جرير الطبري بسنده عن قتادة, قال: (كانت القبلة فيها بلاء وتمحيص, صلت الأنصار نحو بيت المقدس حولين قبل قدوم نهي نبي الله ×, وصلى نبي الله × بعد قدومه المدينة مهاجرًا نحو بيت المقدس سبعة عشر شهرًا..

ثم وجهه الله بعد ذلك إلى الكعبة البيت الحرام.. فقال في ذلك قائلون من الناس: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها, لقد اشتاق الرجل إلى مولده, قال الله عز وجل: +قُل للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" [البقرة:142], فقال أناس -لما صُرفت القبلة نحو البيت الحرام-: كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى؟ فأنزل الله: +وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ" [البقرة:143], ثم أورد الإمام الطبري إحدى عشرة رواية عن الصحابة والتابعين في أن المراد بالإيمان في الآية الصلاة, وأنها نزلت جوابًا على تساؤل لبعض الصحابة عن مصير الصلاة التي صلوها إلى بيت المقدس, وتساؤل آخرين منهم عن مصير صلاة إخوانهم إلى بيت المقدس الذين ماتوا قبل تحويل القبلة إلى الكعبة( ).

فمعنى قوله: +وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ" على ما تضافرت به الرواية من أنه الصلاة, وما كان الله ليضيع تصديق رسول الله × بصلاتكم التي صليتموها نحو بيت المقدس عن أمره, لأن ذلك كان منكم تصديقًا لرسولي, واتباعًا لأمري, وطاعة منكم لي) ( ).

وقد التفت الإمام الطبري إلى الربط بين الإيمان والصلاة, ولاحظ وجود التصديق في ممارسة الصلاة والتوجه فيها إلى بيت المقدس ثم إلى الكعبة المشرفة, وهذه اللفتة من الطبري لطيفة, وهذا الربط منه رائع, يشير إلى موهبته الفذة في التفسير واللغة وغيرهما( ).

ومن الآيات التي أطلقت كلمة الإيمان على الأعمال قوله تعالى: +إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ" [يونس:9].

ذهبت طائفة من المفسرين إلى أن المراد بالإيمان هنا الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا.. وقد أورد الإمام الطبري أقوال مجموعة من التابعين في هذا المعنى, منها قول ابن جريج: (يهديهم ربهم بإيمانهم قال: يمثل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة, يعارض صاحبه ويبشره بكل خير, فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك! فيجعل له نورًا من بين يديه حتى يدخله الجنة, فذلك قوله: +يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ" والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة, فيلازم صاحبه ويلازمه حتى يقذفه في النار) ( ). وهناك آيات أخرى أطلقت على الإيمان عبارات أخرى تشير إلى العمل وتتضمنه, أورد الإمام البخاري في صحيحه بعضها.

منها قوله تعالى: +قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ" [الفرقان:77].

قال البخاري: (دعاؤكم: إيمانكم... ومعنى الدعاء في اللغة: (الإيمان).

وجعل ابن عباس رضي الله عنهما الدعاء بمعنى الإيمان قال: (لولا دعاؤكم: إيمانكم) ( ).

ومن هذه الآيات قوله تعالى: +لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" [البقرة: 177].

فالآية اعتبرت هذه الخصال تصديقًا وإيمانًا, وجعلت أعمال البر هذه من الإيمان. ووجه الدلالة من الآية ما فسره رسول الله × حيث روى عبد الرزاق( ) وغيره عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه سأل رسول الله × عن الإيمان فتلا عليه هذه الآية + لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ..... " إلى آخرها.. والحديث رجاله ثقات( ).

ومن فقه الإمام البخاري وفطنته -وهو البصير في الحديث والتفسير- أنه جعل هذه الآية وما فيها من خصال البر من أمور الإيمان, وضمن باب أسماه «باب أمور الإيمان» وقرنها مع الآيات الأولى من سورة «المؤمنون» التي تتحدث عن صفات المؤمنين, ومع الحديث الذي يقرر أن الإيمان بضع وستون شعبة( ).

ومن هذه الآيات: ثلاث آيات أوردها الإمام البخاري في صحيحه ضمن باب: «من قال إن الإيمان هو العمل» وهي قوله تعالى: +وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" [الزخرف: 72] قال ابن حجر في الفتح: «وقد نقل جماعة من المفسرين أن قوله هنا +تَعْمَلُونَ" معناه: تؤمنون»( ) والثانية قوله تعالى: +فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ  عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [الحجر:93،92].

قال البخاري عن: «لا إله إلا الله» قال ابن حجر في الشرح: يدخل فيها المسلم والكافر, فإن الكافر مخاطب بالتوحيد بلا خلاف, بخلاف باقي الأعمال ففيها الخلاف.. فالسؤال عن التوحيد متفق عليه, فهذا هو دليل التخصيص, وحمل الآية عليه أولى, بخلاف الحمل على جميع الأعمال لما فيه من الاختلاف( ).

من هذه الآيات التي أوردناها يتبين لنا أن الإيمان في القرآن شامل للاعتقاد وللنطق وللعمل, ولابد من القول بهذا اتباعًا للقرآن الكريم, الذي يجب أن تؤخذ منه الأقوال والآراء, وأن يعتمد عليه في الاستدلال والاستنباط, وأن يدخله المتأمل والباحث دون مقررات مسبقة.. فما قرره القرآن قبل, وما عرضه أخذ به, وما قال به لزم المؤمنين القول به.. وإليك أخي القارئ طائفة من أحاديث رسول الله × التي اعتبرت الإيمان شاملاً للقول والعمل والاعتقاد: روى الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي × قال: «الإيمان بضع وستون شعبة.. والحياء شعبة من الإيمان» ( ).

وفي رواية للإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي × قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة, أفضلها قول لا إله إلا الله, وأدناها إماطة الأذى عن الطريق.. والحياء شعبة من الإيمان..» ( ) والشاهد في الحديث ما ذكره رسول الله ×, فالشهادة قول وإماطة الأذى عن الطريق عمل, والحياء خلق وسلوك, وجعل الثلاثة من الإيمان دليل على حقيقته, ومعظم شعب الإيمان هي أعمال( ).

وروى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنهما عن النبي × قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»( ).

وروى البخاري عن أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما أن النبي × قال: «والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين» ( ).

وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله × سئل أي العمل أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله», قيل: ثم ماذا؟ قال: «الجهاد في سبيل الله», قيل: ثم ماذا؟ قال: «حج مبرور»( ).

وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله × أمر وفد عبد القيس عندما قدموا عليه بالإيمان بالله وحده. قال: «هل تدرون ما الإيمان؟» قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: «شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمدًا رسول الله, وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان, وأن تؤدوا خمسًا من المغنم»( ).

هذه الأحاديث وغيرها من الأحاديث تجعلها شاملة للاعتقاد والعمل, وأما أقوال السلف فقد تواترت في بيان حقيقة الإيمان.

قال شارح الطحاوية: «ذهب مالك والشافعي وأحمد والأوزاعي( ) وإسحاق( ) بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين: إلى أنه تصديق بالجنان, وإقرار باللسان, وعمل بالأركان»( ).

وقال الإمام سهل بن عبد الله التستري( ): «الإيمان: قول وعمل ونية وسنة.. لأن الإيمان إذا كان قولاً بلا عمل فهو كفر, وإذا كان قولاً وعملاً بلا نية فهو نفاق. وإذا كان قولاً وعملاً ونية بلا سنة فهو بدعة»( ).

وقال الإمام عبد الرزاق: سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحابنا سفيان الثوري( ) ومالك بن أنس وعبد الله بن عمر والأوزاعي, ومعمر بن راشد( ) وسفيان بن عيينة( ) يقولون: الإيمان قول وعمل, يزيد وينقص.

وهذا قول ابن مسعود وحذيفة( ) والنخعي( ) والحسن البصري( ) وعطاء( ) وطاوس( ) ومجاهد وعبد الله بن المبارك( ).. فالمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين هو إتيانه بهذه الأمور الثلاثة: التصديق بالقلب والإقرار باللسان والعمل بالجوارح( ).

فهؤلاء مصابيح الهدى وأئمة الدين وعلماء الأمة من أهل الحجاز والعراق والشام وخراسان يرون أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان.

وقال الإمام البخاري في كتاب الإيمان في صحيحه «هو قول وفعل يزيد وينقص والحب في الله والبغض في الله من الإيمان, وقال عمر بن عبد العزيز: إن للإيمان فرائض وشرائع وحدودًا وسننًا, فمن استكملها استكمل الإيمان, ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان, فإن أعش فسأبينها لكم حتى تعملوا بها, وإن أمت فما أنا على صحبتكم بحريص( ).

وبهذا يتبين لنا أن مفهوم الإيمان وحقيقته في القرآن والسنة, وفي مفهوم السلف, تصديق بالجنان, وإقرار باللسان, وعمل بالأركان, قال سيد قطب رحمه الله في ظلاله: «إن حقيقة الإيمان التي يتحقق بها وعد الله حقيقة ضخمة تستغرق النشاط الإنساني كله, وتوجه النشاط الإنساني كله, فما تكاد تستقر في القلب حتى تعلن عن نفسها في صورة عمل ونشاط وبناء وإنشاء موجه كله إلى الله, لا يبتغي به صاحبه إلا وجه الله, وهي طاعة لله واستسلام لأمره في الصغيرة والكبيرة, لا يبقى معها هوى في النفس, ولا شهوة في القلب, ولا ميل في الفطرة إلا وهو تبع لما جاء به رسول الله × من عند الله.

فهو الإيمان الذي يستغرق الإنسان كله, بخواطر نفسه, وخلجات قلبه وأشواق روحه, وميول فطرته, وحركات جسمه, ولفتات جوارحه وسلوكه مع ربه في أهله, ومع الناس جميعًا.. يتمثل هذا في قول الله سبحانه في الآية نفسها تعليلاً للاستخلاف والتمكين والأمن»( ).

لقد تقرر أن الإيمان عند علماء السلف قول باللسان واعتقاد بالجنان وفعل بالأركان.

والقول باللسان هو النطق بشهادة الحق وهي كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
ومعناها: لا معبود بحق إلا الله, وبذلك تنفي الإلهية عما سوى الله وتثبتها لله وحده( ).

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ليس للقلوب سرور ولا لذة تامة إلا في محبة الله, والتقرب إليه بما يحبه, ولا تمكن محبته إلا بالإعراض عن كل محبوب سواه, وهذا حقيقة «لا إله إلا الله», وهي ملة إبراهيم الخليل عليه السلام وسائر الأنبياء والمرسلين صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين) ( ), أما شقها الثاني: محمد رسول الله, فمعناه تجريد متابعته × فيما أمر والانتهاء عما نهى عنه وزجر. ومن هنا كانت «لا إله إلا الله» ولاء وبراء, نفيًا وإثباتًا.

ولاء لله ولدينه وكتابه وسُنَّة نبيه وعباده الصالحين, وبراء من كل طاغوت +فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى" [البقرة: 256]. وبهذه الآية يتضح أن الإنسان لا يكون مؤمنًا إلا بالكفر بالطاغوت.

وكلمة التوحيد ولاء لشرع الله, قال تعالى: +اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ" [الأعراف:3].

وقال تعالى: +فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا" [الروم: 30].

وبراء من حكم الجاهلية: قال تعالى: +أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ" [المائدة: 50].

وبراء من كل دين غير دين الإسلام: قال تعالى: +وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ" [آل عمران: 85].

ثم هي نفي وإثبات, تنفي أربعة أمور( ) وتثبت أربعة أمور.

تنفي الآلهة, والطواغيت, والأنداد, والأرباب.

فالآلهة: ما قصدته بشيء من جلب خير أو دفع ضر, فأنت متخذه إلهًا.

والطواغيت: من عُبد وهو راضٍ, أو رُشح للعبادة.

والأنداد: ما جذبك عن دين الإسلام, من أهل, أو مسكن, أو عشيرة, أو مال فهو ند لقوله تعالى: +وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ" [البقرة: 165].

والأرباب: من أفتاك بمخالفة الحق وأطعته مصداقًا لقوله تعالى: +اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ...." [التوبة:31].

abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 99 مشاهدة
نشرت فى 9 يونيو 2012 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

306,224