موقع القرضاوي
 آخر تحديث:22:05 (مكة) الجمعة 20 صفر 1433هـ -2012/01/13م
 السبت, 14 يناير 2012 06:05  موقع القرضاوي


الناس أحيانًا تبحث عن النفع المادي فقط، وتنسى النفع الروحي المعنوي.. الحق يعطيك الحلاوة كما سَّماها النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث حلاوة الإيمان؛ " ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سواهما، وأن يُحبَّ المرء لا يحبُّه إلا لله، وأن يكره أن يعودَ في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار"؛ من كانت فيه هذه الخصال الثلاث وجد حلاوة الإيمان...



د. يوسف القرضاوي

الناس أحيانًا تبحث عن النفع المادي فقط، وتنسى النفع الروحي المعنوي، الحق يعطيك الحلاوة كما سَّماها النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأحاديث حلاوة الإيمان:" ثلاثٌ مَنْ كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون اللهُ ورسولُه أحبَّ إليه ممَّا سواهما، وأن يُحبَّ المرء لا يحبُّه إلا لله، وأن يكره أن يعودَ في الكفر كما يكره أن يُقذف في النار"[1]

من كانت فيه هذه الخصال الثلاث وجد حلاوة الإيمان، هذه الحلاوة لا يحسُّها إلا من كانت عنده هذه الحاسة المعنويَّة التي تتذَّوق الأشياء، لم تفقد هذه الحاسة بالكفر ولا بالشك ولا بالريب.

فالكلمةُ الطيِّبةُ ثابتةٌ في أصولها، عاليةٌ ظاهرةٌ في فروعها: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}[2].

{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}

المقابلة في القرآن الكريم:

كما ضرب الله لنا مثل الكلمة في هذه الآية الكريمة، ثم على طريقة القرآن دائمًا يقرن الأشياء بأضدادها كما قال الشاعر:
وبضدها تتميز الأشياء    
    
والضدُّ يظهر حسنه الضدُّ


فلكي يعرِّفنا الحقَّ تمامًا يذكر الباطل، يذكر الشيء وما يقابله، يذكر الوعد والوعيد، يذكر الترغيب والترهيب، يذكر الجنَّة والنار، يذكر الطيب والخبيث.

 وبعد أن ذكر لنا وضرب لنا المثل بالكلمة الطيِّبة، ضرب لنا المثل في المقابل بالكلمة الخبيثة، لنتمسَّك بالكلمة الطيِّبة ونتجنَّب الكلمة الخبيثة. ولماذا يضرب لنا الأمثال؟ لنستفيد منها، لننتفع بها، لنهتدي بهداها، لا لمجرَّد أن نتعلَّم فقط، التعلم مهم، ولكن المهم بعد العلم: العمل. فعلمٌ بلا عمل كشجر بلا ثمر.

ولذلك ضرب لنا المثل بالكلمة الطيِّبة لنبحث عنها ونستمسك بِعُراها، وضرب لنا المثل بالكلمة الخبيثة لنبتعد عنها، فقال تعالى:{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ }

لم يُفصِّل الله في الكلمة الخبيثة وفي وصفها، كما فصَّل في الكلمة الطيِّبة؛ لأنها هي المقصود، المقصود من ذكر الكلمة الخبيثة التَّحذير منها، إنما المقصود بذكر الكلمة الطيبة التمسُّك بها.

الكلمةُ الخبيثة والشجرةُ الخبيثة:

{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } قال المفسِّرون: إنها شجرة الحنظل[3]، لأنها شجرةٌ كثيرة الشوك، شوكها يُؤْذي، وليس لها رائحة طيِّبة، ولا ثَمَر لها، لا تستفيد من ثمرها ولا تستفيد برائحتها، وأيضًا تؤذيك بشوكها، فهي مثل السوء في الأشجار، ولذلك يرى كثيرٌ من المفسِّرين على أنها شجرة الحنظل[4].

وصف الشجرة الخبيثة:

والبعض قالوا: ليس المهم أن نُحدِّد الشجرة، المهم أن نُحدِّد أوصافها؛ فهي شجرة ليس من ورائها ثمرة، شجرةٌ عائمة على وَجْه الأرض، ليس لها ثبات ولا رسوخ، الشجرة الطيِّبة أصلها ثابت، وهذه ليس لها أصل، قليلة الأصل، ليس لها أصل بالمرَّة، لذلك قال:{اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ } اجْتثت: أي اقْتُلعت. الاجتثاث: قطع الشيء من أصله، اقتطعت أي: اقتلعت فلم يبق لها من باقية في الأرض:{ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ } كما أنها أيضًا ليس لها جذورٌ ثابتة، فهي لا تُتعب الذي يريد أن يَجْتثَّها؛ لأنها من فوق الأرض:{مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}.

من شأن الباطل: الزهوق والزوال:

هكذا شأن الباطل، فإذا كانت هذه الشجرة تُمثِّل الدعوة إلى الشِّرك، وتُمثِّل تعاليم الشِّرك في مقابل تعاليم القرآن، والدعوة إلى الشرك في مقابل الدعوة إلى الإسلام، وتمثل كلمة الشرك والوثنية، في مقابل كلمة التوحيد، فهذه ليس لها أي قرار {مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ}:  وما لها من ثبات، وهكذا شأن الباطل، الباطل سريع الزوال..


من شأن الحق: الثبات:

المسلمون ظلُّوا يقاومون الباطل - الشِّرك، والوثنيَّة، وعبادة الأوثان والأحجار - ظلُّوا يقاومونها ثلاثة عشر عامًا في مكة، وثمانية أعوام في المدينة، يقاتلون المشركين والوثنيين، حتى إنَّ الوثنيين هؤلاء غزوا المسلمين - غزوا الرسول وأصحابه - في عُقْر دارهم بالمدينة في غزوة أحد وغزوة الأحزاب، كانوا يريدون استئصال شأفتهم واقتلاع جذورهم، ولكن سرعان ما ظهر الحق وانكشف الباطل في السنة الثامنة من الهجرة، دخل النبيُّ صلى الله عليه وسلم مكة فاتحًا..

مكة التي خرج منها مطاردًا دخلها فاتحًا، خرج منها ليلاً دخلها نهارًا، خرج منها سرًّا دخلها جهارًا، وأصبح هو الحاكم بأمره في أهلها، جمعهم في المسجد وقال لهم: "ما تظنُّون أني فاعلٌ بكم؟" هؤلاء الجبابرة الذين - طالما طَغَوْا في البلاد فأكثروا فيها الفساد - طالما عذَّبوا المؤمنين وأذاقوهم ما أذاقوهم من ألوان الأذى، ماذا قالوا حينما قال لهم: "ما تظنُّون أني فاعل بكم؟" قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم. فعفا عنهم وقال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"[5].


[1] - متفق عليه: رواه البخاري (16) ، ومسلم (43) كلاهما في الإيمان، كما رواه أحمد (12002)، والترمذي في الإيمان (2624)، والنسائي في الإيمان (4987)، وابن ماجه في الفتن (4033)، عن انس.

[2] - أي: رغبة في أن يتذكروا حقائق العلم النافع فيكون دافعًا لهم إلى سلوك يسعدهم. وقد تقدّم كلام شيخنا عن الحكمة من ضرب الأمثال في مطلع هذا الدرس من السورة وفي هذا المثل العظيم الذي ضربه الله تعالى لعباده تنبيهات إلهية إلى أمور هامة يجب على المؤمن أن ينبِّه لها، ويرعاها حقّها، ليكمل له الإيمان، ويحفظه من النقصان.

الأمر الأول: أنّ الشجرة لا تبقى فيها حياة النمو إلا بمادة تسقيها وتُنمّيها، فإذا انقطع عنها جفت ويبست، وهكذا شجرة الإيمان في القلب: إنْ لم ياعاهدها صاحبها بالسقيا، أوشك أن تيبس، وإذا تمكن فيها اليبس طويلاً ماتت والعياذ بالله تعالى.

فالماء الذي يُسقى به شجر الأرض ليحيا وينمو هو ماء المطر والنهر والينابيع، فيه غيثه وقوته ونموّه، وأما الذي يحيي الله تعالى به شجرة الإيمان في القلب وينمّيها ويقوّيها فهو ماء الوحي الإلهي، النازل من عند الله تعالى على سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، الوحي القرآني، والوحي النبويّ: كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

والدليل على ذلك قول الله تعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد:17].

الأمر الثاني: الذي يشير إليه ضرْب مثل الكلمة الطيبة في القلب كمثل الشجرة في الأرض، هو أنّ الزروع والأشجار قد يجتمع حولها عُشب فيه دغل ونبات غريب عنها، ليس من جنسها، فإنْ تعاهدها صاحبها وقلع تلك النباتات الغريبة، والحشائش الضارة، وأبعدها عنها، قَوِيت الشجرة وتمّ نباتها، واستوت على سوقها، وكان ذلك أوفر لثمرتها وطيبها، وإنْ ترك الحشائش والنباتات الضارة أوشك أن تتغلب على الشجرة فتحيط بها، وتتشبك بأغصانها فتُضعف من نموها، وتُفسد ثمراتها، وتُلحق بها أضرارًا كبيرة، وذلك نتيجة إهمال صاحبها.

وكذلك شجرة الإيمان في القلب إذا لم يتعهّدها صاحبها فيحافظ عليها من الأهواء الضالة، والشهوات الضارة، فإن شجرة الإيمان تضعف وتنقص ثمراتها، وربما يبِسَت على تمادي الزمان.

الأمر الثالث: هو الذي يشير إليه قوله تعالى: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء} [إبراهيم:24] ففي هذا تنبيه إلى أن فروع شجرة الإيمان في القلب وثمراتها هي على حسب ثبوت أصلها في أرض القلب، ورسوخها وتمكّنها فيه، فكلما ثبت أصلها ورسخ، كلما علا فرعها ونما ثمرها وكثر. فعلى المؤمن أن يتعهد شجرة الإيمان فيما يُمكنها ويقوّيها دائمًا، وذلك بالمواظبة على أوامر الله تعالى والبُعد عن ما نهي عنه، والإكثار من ذكره سبحانه.

روى الإمام أحمد بإسناد حسن، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "جدِّدوا إيمانكم". قيل: يا رسول الله وكيف نُجدد إيماننا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "أكثروا من قول: لا إله إلا الله".

الأمر الرابع: وهو الذي يشير إليه قوله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم:25] وهذا فيه البشارة وفيه النِّذارة.

فيه البشارة لمن كثُرت أقواله الطيبة وأعماله الصالحة، وتوالت مستمرة، يؤدي كل وقت حقّه الذي يطالبه به شرع الله تعالى في الليل وفي النهار، فكلامه الطيب يصعد إلى الله تعالى، وأعماله الصالحة تُرفع إلى الله تعالى دائمًا، وبذلك يُذكَر في الملإ الأعلى ويُثني الله تعالى عليه، ويُباهي به الملائكة الكرام، وينال الرضوان من الرحمن، وتسجل تلك الكلمات الطيبة والأعمال الصالحة في كتاب الأبرار، قال الله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:18-21]، فالهناءة والبشارة العظمى والفرحة الكبرى لمن فاز بذلك.

والنِّذارة والخيبة لمن ضَعُفت شجرة إيمانه، فضعفت ثمراتها، فليس من الكلم الطيب والعمل الصالح إلا النّزر القليل، لأنه آثر الدنيا على الآخرة، وصَرَف نشاطه الأكبر وقوة عزائمه وهممه في جمع حطام الدنيا الفانية، وشَغَل عقله ومداركه في الإكثار من أموال الدنيا والمكاثرة بها، وأغفل جانب الدين والآخرة، ولم يُقدم لتلك الحياة الأبدية ما يسعده فيها من أقوال طيبة وأعمال صالحة. وفي هذا المثل الوارد في الآية الكريمة من ا لمعاني والمفاهيم والتنبيهات ما يعجز الإنسان عن استقصائه، فثمرات شجرة الإيمان في القلب هي الكلم الطيب والعمل الصالح، وهما كريمان على الله تعالى، ولهما كرامتهما عنده في الملإ الأعلى، ولذلك يُرفعان إلى الله تعالى. قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] (من كتاب صعود الأقوال ورفع الأعمال إلى الكبير المتعال للشيخ عبد الله سراج الدين ص 16-25 بتصرف واختصار.

[3] - دلَّ على ذلك الحديث الذي رواه الترمذي (4118).

[4] - الحنظل كالبطيخ ليس له ساق، ويطلق على ما كان من نحوه: نجم. والتعبير عن نبات الحنظل بالشجرة مجازي للمشاكلة اللفظية، مقابلة لما ورد في الشجرة الطيبة.

[5] - رواه البيهقي في الكبرى كتاب السير (9/118) عن أبي هريرة.

abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 117 مشاهدة
نشرت فى 13 فبراير 2012 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

308,328