32-كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبائعٌ نَفْسَهُ ، فمُعْتِقُها أو مُوبِقها

عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ تقَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ ص:«الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ ، وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَآَنِ ـ أَوْ تَمْلَأُ ـ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» (رواه مسلم).
 الطُّهورُ شَطْرُ الإيمانِ:
قوله ص:« الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ # المراد بالطهور ها هنا:التَّطهُّر بالماء من الأحداث.واختلف الناسُ في معنى كون الطهور بالماء شطرَ الإيمان.
فمنهم من قال:المرادُ بالإيمان هاهنا:الصلاة ، كما في قوله ﻷ :( وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) (البقرة:143) ، والمراد:صلاتُكم إلى بيتِ المقدس ، فإذا كان المرادُ بالإيمان الصلاةَ ، فالصلاةُ لا تُقبل إلا بطهور ، فصار الطُّهور شطر الصلاة بهذا الاعتبار.
وأيضًا فالصلاةُ تُكفّر الذنوبَ والخطايا بشرط إسباغ الوضوء وإحسانه ، فصار شطرَ الصلاة بهذا الاعتبار أيضًا ، كما في $صحيح مسلم #عن عثمان ، عن النَّبيِّ ص قال:«مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَطَهَّرُ فَيُتِمُّ الطُّهُورَ الَّذِي كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِ فَيُصَلِّي هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَاتٍ لِمَا بَيْنَهَا #.وفي روايةٍ لمسلم :$ مَنْ أَتَمَّ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى فَالصَّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَاتُ كَفَّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ #.
وأيضًا كلٌّ من الصلاة والوضوء مُوجِبٌ لفتح أبواب الجنَّة كما في (صحيح مسلم) عن عُقبة بن عامر سمع النَّبيَّ ص يقول:$مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضَّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ إِلَّا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ ».
وقال ص:« مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فُتِّحَتْ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ ».(صحيح رواه النسائي وابن ماجه).
وعن عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ تقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:« مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَابْنُ أَمَتِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ ، وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ أَدْخَلَهُ اللهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ». (رواه البخاري ومسلم).
(وَرُوحٌ مِنْهُ :أَيْ مَخْلُوقَة مِنْ عِنْده ، وَعَلَى هَذَا يَكُون إِضَافَتهَا إِلَيْهِ إِضَافَة تَشْرِيف كَنَاقَةِ اللهُ وَبَيْت الله.
فإذا كان الوضوء مع الشهادتين موجبًا لفتح أبواب الجنَّة ، صار الوضوءُ نصفَ الإيمان بالله ورسوله بهذا الاعتبار.
وأيضًا فالوضوء من خِصال الإيمان الخفيَّة التي لا يُحافِظُ عليها إلاَّ مُؤمنٌ ، كما في حديث ثوبان وغيره ، عن النَّبيِّ ص:$لا يُحافِظُ عَلَى الوُضُوءِ إلا مُؤْمِنٌ # (صحيح رواه الإمام أحمد ، وابن ماجه).
والغسل من الجنابة قد ورد أنَّه أداء الأمانة ؛ فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ تقَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ ص:« خَمْسٌ مَنْ جَاءَ بِهِنَّ مَعَ إِيمَانٍ دَخَلَ الْجَنَّةَ : مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَى وُضُوئِهِنَّ وَرُكُوعِهِنَّ وَسُجُودِهِنَّ وَمَوَاقِيتِهِنَّ ، وَصَامَ رَمَضَانَ ، وَحَجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ، وَأَعْطَى الزَّكَاةَ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ ، وَأَدَّى الْأَمَانَةَ» قَالُوا: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ ، وَمَا أَدَاءُ الْأَمَانَةِ؟» قَالَ :«الْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ». (حسن ، رواه أبو داود)
ويحتمل أنْ يُقال:إنَّ خصالَ الإيمان من الأعمال والأقوال كُلّها تُطَهِّرُ القلبَ وتُزكيه ، وأما الطهارةُ بالماء ، فهي تختصُّ بتطهير الجسدِ وتنظيفه ، فصارت خصالُ الإيمان قسمين:أحدُهما يُطهِّرُ الظاهر ، والآخر يُطهِّرُ الباطن ، فهما نصفان بهذا الاعتبار ، والله أعلم بمراده ومراد رسوله في ذلك كُلِّه.
وقوله ص:$ والحَمْدُ للهِ تَملأُ المِيزانَ ، وسُبحَانَ اللهِ ، والحَمْدُ للهِ ، تَملآنِ أوْ تَملأ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ والأرْضِ # فهذا شكٌّ مِن الراوي في لفظه.
 الحمدُ لله تملأ الميزانَ:
فأما الحمدُ لله ، فاتفقت الأحاديثُ كلُّها على أنَّه يملأ الميزانَ ، وقد قيل:إنَّه ضَرْبُ مَثَل ، وأنَّ المعنى:لو كان الحمدُ جسمًا لملأ الميزان ، وقيل:بل الله ﻷ يُمثِّلُ أعمالَ بني آدم وأقوالهم صُوَرًا تُرى يومَ القيامة وتوزَنُ ، كما قال النَّبيُّ ص:$يَأتِي القُرْآنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَقْدُمُهُ الْبَقَرَةُ وآلُ عِمْرَانَ كَأنَّهُمَا غَمَامَتَانِ أوْ غَيَايَتَانِ أوْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَّافّ# (رواه مسلم).(غمامتان أو غَيَايتانِ :كل شيء أظل الإنسان فوق رأسه كالسحابة وغيرها ، فِرْقان أي:قطعتان).
وقال ص:$كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ # (رواه البخاري ومسلم).
وأما سبحان الله ، ففي رواية مسلم:«وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَآَنِ ـ أَوْ تَمْلَأُ ـ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ » ، فشكَّ الراوي في الذي يملأ ما بين السماءِ والأرض:هل هو الكلمتان أو إحداهما؟ وفي رواية النَّسائي وابنِ ماجه:« وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ مِلْءُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ » (صحيح) ، وهذه الروايةُ أشبه ، وهل المرادُ أنَّهما معًا يملآن ما بينَ السماء والأرض ، أو أنَّ كلًا منهما يملأُ ذلك؟ هذا محتمل.
 الصلاةُ نورٌ:
وقولُه ص:$والصَّلَاةُ نُورٌ ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ # ، هذه الأنواع الثلاثةُ من الأعمال أنوارٌ كلُّها ، لكن منها ما يختصُّ بنوعٍ من أنواع النُّور:
فالصَّلاةُ نورٌ مطلق ، فهي للمؤمنين في الدُّنيا نورٌ في قلوبهم وبصائرهم ، تُشرِق بها قلوبُهم ، وتستنير بصائرُهم ولهذا كانت قرَّة عين المتقين ، كما كان النَّبيُّ ص يقول:$جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ # (حسن رواه أحمد والنَّسائي).
وروى أبو داود أنَّ النَّبيَّ ص قال:$ يَا ِبلَالُ ، أقِمِ الصَّلَاةَ ، وأرِحْنَا بِهَا#. (صحيح)
والصلاة في الآخرة نورٌ للمؤمنين في ظلمات القيامة ، وعلى الصراط ، فإنَّ الأنوارَ تُقسم لهم على حسب أعمالهم.
و عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍوبعَنْ النَّبِيِّ صأَنَّهُ ذَكَرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا فَقَالَ:« مَنْ حَافَظَ عَلَيْهَا كَانَتْ لَهُ نُورًا وَبُرْهَانًا وَنَجَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَمَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نُورٌ وَلَا بُرْهَانٌ وَلَا نَجَاةٌ ، وَكَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ قَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَأُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ » (سنده حسن رواه الإمام أحمد).
وقال ص:«بَشِّرِ الَمشّائِينَ فِي الظُلَمِ إلَى الَمسَاجِدِ بِالنُورِ التَّامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (صحيح رواه أبو داود والترمذي).
 الصدقةُ برهانٌ:
وأمَّا الصدقة ، فهي برهان ، والبرهان:هو الشُّعاعُ الذي يلي وجهَ الشَّمس ، ومنه سُمِّيَت الحُجَّةُ القاطعةُ برهانًا ؛ لوضوح دلالتها على ما دلَّت عليه ، فكذلك الصدقة برهان على صحة الإيمان ، وطيب النفس بها علامة على وجود حلاوة الإيمان وطعمه.
قال النَّبيِّ ص:$ ثَلَاثٌ مَنْ فَعَلَهُنَّ فَقَدْ طَعِمَ طَعْمَ الْإِيمَانِ:مَنْ عَبَدَ اللهَ وَحْدَهُ وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله ، وَأَعْطَى زَكَاةَ مَالِهِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ رَافِدَةً عَلَيْهِ كُلَّ عَامٍ ، وَلَا يُعْطِي الْهَرِمَةَ وَلَا الدَّرِنَةَ وَلَا الْمَرِيضَةَ وَلَا الشَّرَطَ اللَّئِيمَةَ وَلَكِنْ مِنْ وَسَطِ أَمْوَالِكُمْ فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَسْأَلْكُمْ خَيْرَهُ وَلَمْ يَأْمُرْكُمْ بِشَرِّهِ».(صحيح رواه أبو داود).
(رَافِدَة عَلَيْهِ):الرَّافِدَة فَاعِلَة مِنْ الرَّفْد وَهُوَ الْإِعَانَة ، أَيْ تُعِينُهُ نَفْسه عَلَى أَدَاء الزَّكَاة(وَلَا الدَّرِنَة) هِيَ الْجَرْبَاء ، (وَلَا الشَّرَط) هِيَ صِغَار الْمـَال وَشِرَارُهُ. (اللَّئِيمَة):الْبَخِيلَة بِاللَّبَنِ.
(وَلَكِنْ مِنْ وَسَط أَمْوَالكُمْ):فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُخْرِجَ الزَّكَاة مِنْ أَوْسَاط الْمَال لَا مِنْ شِرَارِهِ وَلَا مِنْ خِيَارِهِ.
فالمالَ تحبُّه النُّفوسُ ، وتبخَلُ به ، فإذا سمحت بإخراجه لله ﻷ دلَّ ذلك على صحَّة إيمانها بالله ووعده ووعيده ، ولهذا منعت العربُ الزكاة بعدَ النَّبيِّ ص ،
وقاتلهم الصدِّيقُ ت على منعها.
 الصبرُ ضياءٌ:
والضياءُ:هو النُّورُ الذي يحصلُ فيه نوعُ حرارةٍ وإحراقٍ كضياء الشمس بخلاف القمر ، فإنَّه نورٌ محضٌ ، فيه إشراقٌ بغير إحراقٍ ، قال الله ﻷ:( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا ) (يونس:5)ومِن هُنا وصف الله شريعةَ موسى بأنَّها ضياءٌ ، كما قال:(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْـمُتَّقِينَ ) (الأنبياء:48)وإنْ كان قد ذكر أنَّ في التوراة نورًا كما قال:( إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ ) (المائدة:44) ، ولكن الغالب على شريعتهم الضياءُ لما فيها مِنَ الآصار والأغلال والأثقال.
ووصف شريعةَ محمَّدٍ ص بأنَّها نورٌ لما فيها من الحَنيفيَّةِ السمحة ، قال تعالى: (قَدْ جَاءكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ ) (المائدة:15) وقال:( الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْـمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْـمُفْلِحُونَ ) (الأعراف:157).
ولما كان الصبر شاقًّا على النفوس ، يحتاجُ إلى مجاهدةِ النفس وحبسِها ، وكفِّها عمَّا تهواهُ ، كان ضياءً ، فإنَّ معنى الصَّبر في اللغة:الحبسُ ، ومنه قَتْلُ الصبر:وهو أنْ يُحبَسَ الرَّجلُ حتى يقتل.
والصبر المحمود أنواع:منه صبرٌ على طاعةِ الله ﻷ ، ومنه صبرٌ عن معاصي الله ﻷ ، ومنه صبرٌ على أقدار الله ﻷ.

إذا اشتمَلَتْ على اليأسِ القلـــوبُ وضاقَ بما به الصــدرُ الـــرحيبُ
وأوطنَـت المكـــارهُ واطمـــأنَّتْ وأرْسَــتْ فــي أماكنِها الخطـوبُ
ولم تَرَ لانكشافِ الضــرِّ نَفْـــــعًا وما أجْــدَى بحيلتِــه الأريـــبُ
أتاك علـــى قنوطِ منــكَ غَـوثٌ يَمُــنُّ به اللطيــفُ المستــــجيبُ
وكــلّ الحـــادثاتِ وإنْ تَنَاهَــتْ فمَوْصــــولٌ بهــــــا فَرَجٌ قَرِيبُ
والصبرُ على الطاعات وعنِ المحرَّماتِ أفضلُ من الصَّبرِ على الأقدار المؤلمة ، صرّح بذلك السَّلفُ ، منهم:سعيدُ بنُ جبير ، وميمون بن مهران.
ومن أفضل أنواع الصبر:الصيامُ ، فإنَّه يجمعُ الصبرَ على الأنواعِ الثَّلاثةِ ؛ لأنَّه صبرٌ على طاعةِ الله ﻷ ، وصبرٌ عن معاصي الله ؛ لأنَّ العبدَ يتركُ شهواتِه لله ﻷ ونفسه قد تنازعه إليها ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ تقَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ ص:« كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي» (رواه البخاري ومسلم).وفيه أيضًا صبرٌ على الأقدار المؤلمة بما قد يحصُلُ للصَّائم من الجوع والعطشِ.
إني رأيتُ ـ وفـــي الأيـــامِ تجــربةٌ ـ للصـــبرِ عاقبــةً محمــودةَ الأثرِ
وقَلّ مَن جَـــدَّ في أمــرٍ يحـــــاولهُ واستصحبَ الصبرَ إلا فازَ بالظفَرِ
 القرآنُ حجةٌ لك أو عليك :
قال الله ﻷ:(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْـمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا ) (الإسراء:82).
قال بعضُ السَّلف:ما جالسَ أحدٌ القرآنَ فقام عنه سالمًا ؛ بل إمَّا أنْ يربح أو أنْ يخسرَ ، ثمَّ تلا هذه الآية.
وقال ابنُ مسعود:$ القرآنُ شافع مُشفَّع وماحِلٌ مصدَّق ، فمن جعله أمامَه ، قادَه إلى الجنَّةِ ، ومن جعله خَلْفَ ظهره ، قاده إلى النار #.
وعنه قال:$يجيءُ القرآنُ يومَ القيامة ، فيشفع لِصاحبه ، فيكون قائدًا إلى الجنَّة ، أو يشهد عليه ، فيكون سائقًا إلى النار #.
وقال أبو موسى الأشعري:«إنَّ هذا القرآن كائنٌ لكم أجرًا ، وكائنٌ عليكم
وِزرًا ، فاتَّبِعوا القرآن ، ولا يتَّبعكُم القرآن ، فإنَّه مَنِ اتَّبعَ القرآنَ هبط به على رياضِ الجنَّةِ ، ومن اتَّبعه القرآنُ ، زخَّ في قفاه ، فقذفه في النار».
سمعتُكَ يا قرآنُ والليلُ واجمُ سرَيْتَ تهُزّ الكونَ سبحانَ مَن أسرَى
فتحْنا بك الدنيا فأشرقَ نورُها وسِرْنا على الأفلاكِ نملؤُها أجْــــرَا
 كلُّ النَّاس يغدو:
قوله ص:$ كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا #
روى الإمامُ أحمد عن النَّبيِّ ص قال:$ النَّاسُ غَادِيَانِ ، فَمُبْتَاعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا ، وَبَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا # (سنده صحيح).
وقال الله ﻷ:( وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) (الشمس:7 - 10) ، والمعنى:قد أفلح من زكى نفسَه بطاعة الله ، وخابَ من دسَّاها بالمعاصي ، فالطاعةُ تُزكي النفس وتُطهرها ، فترتفع ، والمعاصي تُدسِّي النفس ، وتقمعها ، فتنخفض ، وتصيرُ كالذي يُدسُّ في التراب.
ودلَّ الحديثُ على أن كلَّ إنسان فهو ساعٍ في هلاك نفسه ، أو في فِكاكِها ، فمن سعى في طاعة الله ، فقد باع نفسَه للهِ ، وأعتقها من عذابه ، ومن سعى في معصيةِ الله ، فقد باعَ نفسَه بالهوان ، وأوبقها بالآثام الموجبة لغضب الله وعقابه ، قال الله ﻷ:( إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) (التوبة:111) ، وقال تعالى:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ )(البقرة:207) ، وقال تعالى:( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْـمُبِينُ ) (الزمر:15).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ تأَنَّ النَّبِيَّ صقَالَ:« يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللهِ ، يَا بَنِي عَبْدِ الْـمُطَّلِبِ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنْ اللهِ ، يَا أُمَّ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ ـ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ ـ يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ اشْتَرِيَا أَنْفُسَكُمَا مِنْ اللهِ ، لَا أَمْلِكُ لَكُمَا مِنْ اللهِ شَيْئًا ، سَلَانِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمَا» (رواه البخاري ومسلم).
وقد اشترى جماعةٌ من السَّلف أنفسَهم من الله ﻷ بأموالهم ، فمنهم مَنْ تصدَّق بوزنه فضة ثلاثَ مرَّاتٍ أو أربعًا ، كخالد الطحَّان.
ومنهم من كان يجتهد في الأعمال الصالحة ويقول:إنَّما أنا أسيرٌ أسعى في فكاك رقبتي ، منهم عمرو بنُ عُتبة.
قال الحسن:المؤمن في الدنيا كالأسير ، يسعى في فكاك رقبته ، لا يأمنُ شيئًا حتّى يلقى الله ﻷ وقال:ابنَ آدم ، إنَّك تغدو أو تروحُ في طلب الأرباح ، فليكن همُّك نفسك ، فإنَّك لن تربح مثلها أبدًا.
قال أبو بكر بن عيّاش:قال لي رجل مرَّة وأنا شابٌّ:«خلِّص رقبتَك ما استطعتَ في الدنيا من رقِّ الآخرة ، فإنَّ أسيرَ الآخرةِ غيرُ مفكوكٍ أبدًا» ، قال:فوالله ما نسيتُها بعدُ.
وكان بعضُ السَّلف يبكي ، ويقول:«ليس لي نفسان ، إنَّما لي نفسٌ واحدةٌ ، إذا ذهبت لم أجد أخرى».
وقال محمد بن الحنفية:«إنَّ الله ﻷ جعل الجنَّة ثمنًا لأنفسكم ، فلا تبيعُوها بغيرها».وقال:«من كرمت نفسه عليه لم يكن للدنيا عنده قدر».
وقيل له:من أعظمُ الناس قدرًا؟ قالَ:«من لم يرَ الدُّنيا كُلَّها لنفسه خطرًا».
أثامِنُ بالنفْسِ النفيسةِ ربَّـــــَها ولَيسَ لها في الخلقِ كُلِّهمُ ثَمَـــــنْ
بها تُملَك الأخرَى فإنْ أنا بِعـتُهَا بشيءٍ مِن الدُّنيــا ، فذَاكَ هُوَ الغَبَنْ
لَئِنْ ذَهَبَتْ نفسي بدُنيا أُصــيبُها لقَدْ ذَهَبَتْ نفسي وقد ذَهَـبَ الثَّمنْ

33-كثرة النعم وكثرة طرق الشكر

 على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة:
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ تقَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ ص:«كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ ، يَعْدِلُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ ، وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ » (رواهُ البُخاريُّ ومُسلمٌ).
وعن عَائِشَةَ قالت:إِنَّ رَسُولَ اللهِ صقَالَ:« إِنَّهُ خُلِقَ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِ مِائَةِ مَفْصِلٍ ، فَمَنْ كَبَّرَ اللهَ ، وَحَمِدَ اللهَ ، وَهَلَّلَ اللهَ ، وَسَبَّحَ اللهَ ، وَاسْتَغْفَرَ اللهَ ، وَعَزَلَ حَجَرًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ أَوْ شَوْكَةً أَوْ عَظْمًا عَنْ طَرِيقِ النَّاسِ ، وَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ ، أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ عَدَدَ تِلْكَ السِّتِّينَ وَالثَّلَاثِ مِائَةِ السُّلَامَى فَإِنَّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنْ النَّارِ» (رواه مسلم).
وعَنْ أَبِي ذَرٍّ تعَنْ النَّبِيِّ صأَنَّهُ قَالَ:« يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ ، فَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ ، وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ ، وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ ، وَنَهْيٌ عَنْ الْـمُنْكَرِ صَدَقَةٌ ، وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنْ الضُّحَى» (رواه مسلم).
وعن سَعِيدُ بْنُ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ تعَنْ النَّبِيِّ صقَالَ:« عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ» ، فَقَالُوا:يَا نَبِيَّ اللهِ ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ:«يَعْمَلُ بِيَدِهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدَّقُ». قَالُوا:فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ:« يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْـمَلْهُوفَ». قَالُوا :فَإِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ:«فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيُمْسِكْ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ»(رواه البخاري ومسلم).
وروى ابن حبان في (صحيحه) أنَّ النَّبيَّ ص قال:$ لَيْسَ مِنْ نَفْسِ ابْنِ آدَمَ إلَا عَلَيْهَا صَدَقَةٌَ فِي كُلِّ يَوْمٍٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَمْسُ # ، قيل:يا رسولَ الله ، ومِنْ أيْنَ لنَا صَدَقَةٌ نَتَصَدَّقُ بِهَا؟ قال:$ إنَّ أبْوَابَ الخَيْرِ لَكَثِيرَةٌ:التَّسْبِيحُ ، والتَّحْمِيدُ ، والتَّكْبِيرُ ، والتَّهْلِيلُ ، والأمْرُ بِالمَعْرُوفِ ، والنَّهْيُ عَنِ المُنْكَرِ ، وتُميطُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ ، وتُسْمِعُ الأصَمَّ ، وتَهْدِي الأعْمَى ، وتَدُلُّ المُسْتَدِلَّ عَلَى حَاجَتِهِ ، وتَسْعَى بِشِدَّة سَاقَيْكَ مَعَ اللَّهْفَانِ الْـمُسْتَغِيثِ ، وتَحْمِلُ بِشِدَّة ذِرَاعَيْكَ مَعَ الضَّعَيفِ ، فَهَذَا كُلُّهُ صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ # . (صحيح)
السلامى:جمع سلامية ، وهي الأنملة من أنامل الأصابع ، وقيل:واحده وجمعه سواء ، ويجمع على سلاميات:وهي التي بين كل مفصلين من أصابع الإنسان ، وقيل:السلامى كل عظم مجوف من صغار العظام ، ومعنى الحديث:على كل عظم من عظام ابن آدم صدقة.
ومعنى الحديث:أنَّ تركيب هذه العظام وسلامتها مِن أعظم نِعَمِ الله على عبده ، فيحتاج كلُّ عظم منها إلى صدقة يتصدق ابنُ آدم عنه ، ليكونَ ذلك شكرًا لهذه النعمة.قال الله ﻷ:( يَا أَيُّهَا الإنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ) (الانفطار:6 - 8 ) ، وقال ﻷ:( قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ) (الملك:23) ، وقال:
( وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (النحل:78) ، وقال:( أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) (البلد:8 - 9) ، قال مجاهد:هذه نِعَمٌ من الله متظاهرةٌ يقرِّرُكَ بها كيما تَشكُر.
وقرأ الفُضيلُ ليلةً هذه الآية ، فبكى ، فسئل عن بكائِهِ ، فقال:هل بتَّ ليلة شاكرًا للهِ أنْ جعل لك عينين تُبصر بهما؟ هل بتَّ ليلةً شاكرًا لله أنْ جعل لك لسانًا تنطق به؟ وجعل يعدِّد من هذا الضَرْب.(الضرب:النوع).
وعن أبي الدرداء أنَّه كان يقول:الصِّحَّةُ غِنى الجسد.
وعن يونس بن عبيد:أنَّ رجلًا شكا إليه ضِيقَ حاله ، فقال له يونس:«أيسُرُّك أنَّ لك ببصرك هذا الذي تُبصِرُ به مئة ألف درهم؟ » ، قال الرجل:لا ، قال:«فبيدك مئة ألف درهم؟» ، قال:لا ، قال:«فبرجليك؟» ، قال:لا ، قال:فذكَّره نِعَمَ الله عليه ، فقال يونس:«أرى عندك مئين ألوفٍ وأنت تشكو الحاجة».
وعن بكر المزني قال:«يا ابن آدم ، إنْ أردتَ أنْ تعلمَ قدرَ ما أنعمَ اللهُ عليك ، فغمِّضْ عينيك».
وفي بعض الآثار:كم مِنْ نِعمَةٍ لله في عِرْقٍ ساكن.
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ب قَالَ:قَالَ النَّبِيُّ ص:« نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ» (رواه البخاري)والغَبْنُ في البيع والشراء :الوَكْسُ ، غَبَنَه يَغْبِنُه غَبْنًا أَي خدَعه ، وقد غُبِنَ فهو مَغْبُونٌ.
ومَعْنَى الْحَدِيث أَنَّ الْمَرْء لَا يَكُون فَارِغًا حَتَّى يَكُون مَكْفِيًّا صَحِيح الْبَدَن فَمَنْ حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ فَلْيَحْرِصْ عَلَى أَنْ لَا يَغْبِن بِأَنْ يَتْرُك شُكْر اللهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ ، وَمِنْ شُكْره اِمْتِثَال أَوَامِره وَاجْتِنَاب نَوَاهِيه ، فَمَنْ فَرَّطَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ الْمَغْبُون.
وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ « كَثِيرٌ مِنْ النَّاس » إِلَى أَنَّ الَّذِي يُوَفَّق لِذَلِكَ قَلِيل.
وَقَدْ يَكُون الْإِنْسَان صَحِيحًا وَلَا يَكُون مُتَفَرِّغًا لِشُغْلِهِ بِالْمَعَاشِ ، وَقَدْ يَكُون مُسْتَغْنِيًا وَلَا يَكُون صَحِيحًا ، فَإِذَا اِجْتَمَعَا فَغَلَبَ عَلَيْهِ الْكَسَل عَنْ الطَّاعَة فَهُوَ الْمَغْبُون ، وَتَمَام ذَلِكَ أَنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَة الْآخِرَة ، وَفِيهَا التِّجَارَة الَّتِي يَظْهَر رِبْحهَا فِي الْآخِرَة ، فَمَنْ اِسْتَعْمَلَ فَرَاغه وَصِحَّته فِي طَاعَة اللهُ فَهُوَ الْمَغْبُوط ، وَمَنْ اِسْتَعْمَلَهُمَا فِي مَعْصِيَة اللهُ فَهُوَ الْمَغْبُون ، لِأَنَّ الْفَرَاغ يَعْقُبهُ الشُّغْل وَالصِّحَّة يَعْقُبهَا السَّقَم ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْهَرَم كَمَا قِيلَ:
يَسُرّ الْفَتَى طُول السَّلَامَة وَالْبَقَا فَكَيْف تَرَى طُول السَّلَامَة يَفْعَل
يَرُدّ الْفَتَى بَعْد اِعْتِدَال وَصِحَّة يَنُوء إِذَا رَامَ الْقِيَام وَيُحْمَـــــلُ
ضَرَبَ النَّبِيّ ص لِلْـمُكَلَّفِ مَثَلًا بِالتَّاجِرِ الَّذِي لَهُ رَأْس مَال ، فَهُوَ يَبْتَغِي الرِّبْح مَعَ سَلَامَة رَأْس الْـمَال ، فَطَرِيقه فِي ذَلِكَ أَنْ يَتَحَرَّى فِيمَنْ يُعَامِلهُ وَيَلْزَم الصِّدْق وَالْحِذْق لِئَلَّا يُغْبَن ، فَالصِّحَّة وَالْفَرَاغ رَأْس الْـمَال ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَامِل اللهَ بِالْإِيمَانِ ، وَمُجَاهَدَة النَّفْس ؛ لِيَرْبَح خَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَة ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِب مُطَاوَعَة النَّفْس وَمُعَامَلَة الشَّيْطَان لِئَلَّا يُضَيِّع رَأْس مَاله مَعَ الرِّبْح.
واُخْتُلِفَ فِي أَوَّل نِعْمَة اللهُ عَلَى الْعَبْد فَقِيلَ الْإِيمَان ، وَقِيلَ الْحَيَاة ، وَقِيلَ الصِّحَّة ، وَالْأَوَّل أَوْلَى فَإِنَّهُ نِعْمَة مُطْلَقَة ، وَأَمَّا الْحَيَاة وَالصِّحَّة فَإِنَّهُمَا نِعْمَة دُنْيَوِيَّة ، وَلَا تَكُون نِعْمَة حَقِيقَة إِلَّا إِذَا صَاحَبَتْ الْإِيمَان وَحِينَئِذٍ يُغْبَن فِيهَا كَثِير مِنْ النَّاس أَيْ يَذْهَب رِبْحهمْ أَوْ يَنْقُص ، فَمَنْ اِسْتَرْسَلَ مَعَ نَفْسه الْأَمَّارَة بِالسُّوءِ الْخَالِدَة إِلَى الرَّاحَة فَتَرَكَ الْـمُحَافَظَة عَلَى الْحُدُود وَالْـمُوَاظَبَة عَلَى الطَّاعَة فَقَدْ غُبِنَ ، وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ فَارِغًا فَإِنَّ الـْمَشْغُول قَدْ يَكُون لَهُ مَعْذِرَة بِخِلَافِ الْفَارِغ فَإِنَّهُ يَرْتَفِع عَنْهُ الْـمَعْذِرَة وَتَقُوم عَلَيْهِ الْحُجَّة.
اغتنِمْ في الفراغِ فضلَ ركــــوعٍ فعسَى أنْ يكونَ موتُك بغتَة
كم صحيحٍ رأيتَ مِن غيرِ سُقْمٍ ذهبَتْ نفسُـــهُ العزيزةُ فلتَة
وهذه النِّعم مما يُسألُ الإنسانُ عن شكرها يومَ القيامة ، ويُطالب بها كما قال تعالى:( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) (التكاثر:8).
قَالَ رَسُولُ اللهِ ص:«إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ـ يَعْنِي الْعَبْدَ ـ مِنْ النَّعِيمِ أَنْ يُقَالَ لَهُ :«أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ ، وَنُرْوِيَكَ مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ » (صحيح رواه الترمذي).
(مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ)أَيْ الَّذِي هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ بَقَائِك وَلَوْلَاهُ لَفَنِيَتْ بَلْ الْعَالَمُ بِأَسْرِهِ.
وقال ص:$ مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا #.(حسن رواه الترمذي).
(آمِنًا)أَيْ غَيْرَ خَائِفٍ مِنْ عَدُوٍّ(فِي سِرْبِهِ) أَيْ فِي نَفْسِهِ ، وَقِيلَ : السِّرْبُ الْجَمَاعَةُ ، فَالْـمَعْنَى فِي أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ ، وَقِيلَ بِفَتْحِ السِّينِ أَيْ فِي مَسْلَكِهِ وَطَرِيقِهِ ، وَقِيلَ : بِفَتْحَتَيْنِ أَيْ فِي بَيْتِهِ.
وَفِي الْقَامُوسِ : السَّرْبُ الطَّرِيقُ وَبِالْكَسْرِ الطَّرِيقُ وَالْبَالُ وَالْقَلْبُ وَالنَّفْسُ وَالْجَمَاعَةُ ، وَبِالتَّحْرِيكِ جُحْرُ الْوَحْشِيِّ وَالْحَفِيرُ تَحْتَ الْأَرْضِ.
والْـمُرَادُ مِنْ الْحَدِيثِ الْـمُبَالَغَةَ فِي حُصُولِ الْأَمْنِ وَلَوْ فِي بَيْتٍ تَحْتَ الْأَرْضِ ضَيِّقٍ كَجُحْرِ الْوَحْشِ أَوْ التَّشْبِيهِ بِهِ فِي خَفَائِهِ وَعَدَمِ ضَيَاعِهِ.
(مُعَافًى فِي جَسَدِهِ) أَيْ صَحِيحًا سَالِمًا مِنْ الْعِلَلِ وَالْأَسْقَامِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
(عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ)أَيْ كِفَايَةُ قُوتِهِ مِنْ وَجْهِ الْحَلَالِ.
(فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا) أَيْ جُمِعَتْ لَهُ بِتَمَامِهَا.
وقال ابن مسعود ت:النعيمُ:الأمنُ والصحة.
وقال عليُّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس في قوله:( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) (التكاثر:8) ، قال:النعيم:صحَّةُ الأبدان والأسماع والأبصار ، يسأَلُ الله العبادَ:فيما استعملوها؟ وهو أعلمُ بذلك منهم ، وهو قوله تعالى:( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا ) (الإسراء:36).
إنَّ الله تعالى قد أنعمَ على عباده بما لا يُحصونَه كما قال:( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوهَا ) (إبراهيم:34 ، والنحل:18) ، وطلب منهمُ الشُّكرَ ، ورضي به منهم.
قال سليمان التيمي:إنَّ الله أنعم على العباد على قدره ، وكلَّفهم الشكر على قدرهم حتى رَضِيَ منهم مِنَ الشُّكرِ بالاعتراف بقلوبهم بنعمه ، وبالحمد بألسنتهم عليها.
$كلُّ سُلامَى مِنَ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ #.
يعني:أنَّ الصَّدقةَ على ابنِ آدمَ عن هذه الأعضاء في كُلِّ يومٍ من أيَّامِ الدُّنيا.
 الشُّكر على درجتين:ظاهرُ الحديث يدلُّ على أنَّ هذا الشُّكر بهذه الصَّدقة واجبٌ على المسلم كلَّ يوم ، ولكن الشُّكر على درجتين:
إحداهما:واجب ، وهو أنْ يأتي بالواجبات ، ويجتنب المحارم ، فهذا لابدَّ منه ، ويكفي في شكر هذه النِّعم ، ويدلُّ على ذلك ما رواه أبو داود من حديث أبي الأسود الدِّيلي ، قال:كنا عند أبي ذرٍّ ، فقال:يُصبح على كُلِّ سُلامى مِنْ أحدكم في كُلِّ يومٍ صدقة ، فله بكلِّ صلاة صدقةٌ ، وصيام صدقة ، وحجٍّ صدقة ، وتسبيح صدقة ، وتكبير صدقة ، وتحميد صدقة ، فعدَّ رسول الله ص مِنْ هذه الأعمال الصالحات قال:$ وَيُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ يَرْكَعُهُمَا مِنْ الضُّحَى # (رواه مسلم).
وفي حديث أبي موسى: «فَلْيَعْمَلْ بِالْمَعْرُوفِ وَلْيُمْسِكْ عَنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا لَهُ صَدَقَةٌ» (رواه البخاري ومسلم).وهذا يدلُّ على أنَّه يكفيه أنْ لا يفعل شيئًا من الشرِّ ، وإنَّما يكون مجتنبًا للشرِّ إذا قام بالفرائض ، واجتنبَ المحارمَ ، فإنَّ أعظمَ الشرِّ تركُ الفرائض ، ومن هنا قال بعضُ السَّلف:الشُّكرُ ترك المعاصي.
وقال بعضهم:الشُّكرُ أنْ لا يُستعانَ بشيءٍ مِنَ النِّعَمِ على معصية.
وذكر أبو حازمٍ الزاهد شُكْرَ الجوارح كُلِّها ، وأنْ تُكفَّ عن المعاصي وتُستعمل في الطاعات ، ثم قال: وأمَّا مَن شكر بلسانه ، ولم يشكر بجميع أعضائه ، فمثله كمثل رجل له كِساءٌ ، فأخذ بطرفه ، فلم يلبسه ، فلم ينفعه ذلك من الحر والبرد والثلج والمطر.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم:لينظر العبدُ في نعم الله عليه في بدنه وسمعه وبصرِه ويديه ورجليه وغير ذلك ، ليس من هذا شيءٌ إلاَّ وفيه نعمةٌ من الله ﻷ ، حقٌّ على العبد أنْ يعملَ بالنِّعم التي في بدنه لله ﻷ في طاعته ، ونعمة أخرى في الرزق ، حق عليه أنْ يعمل لله ﻷ فيما أنعم عليه مِنَ الرِّزق في طاعته ، فمن عمل بهذا ، كان قد أخذ بحزم الشّكر وأصله وفرعه.
ورأى الحسن رجلًا يتبختر في مشيته ، فقال:للهِ في كُلِّ عُضوٍ منه نعمة ، اللهمَّ لا تجعلنا ممن يتقوَّى بنعمك على معصيتك.
همومُكَ بالعيشِ مقرونــةٌ فما تقطعُ العيشَ إلا بِهَمّ
حلاوَةُ دُنياكَ مسمــومــةٌ فما تأكلُ الشهدَ إلا بِسُمّ
إذا كُنتَ في نعمةٍ فأرْعَهــا فإنَّ الذنوبَ تزيلُ النِّعَمْ
وحافِظْ عليها بتقوَى الإلَه فإنَّ الإلَهَ ســـريعُ النِّقَمْ
فإنْ تُعْطِ نفسَكَ آمــــالَها فعندَ مُنَاها تَحِـــلّ النِّقَمْ
فأينَ القرونُ ومَن حولهمْ تفانَوا جميعًا وربِّي الحَكَمْ
الدرجة الثانية من الشكر:الشكر المستحبُّ:
وهو أنْ يعملَ العبدُ بعد أداءِ الفرائض ، واجتنابِ المحارم بنوافل الطَّاعات ، وهذه درجةُ السَّابقين المقرَّبين ، وهي التي أرشد إليها النَّبيُّ ص ، وكذلك كان النَّبيُّ ص يجتهد في الصَّلاة ، ويقوم حتَّى تتفطَّر قدماه ، فإذا قيل له:أتفعلُ هذا وقد غَفَرَ الله لك ما تقدَّم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول:$أفَلَا أكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟# (رواه البخاري ومسلم).
وقال بعضُ السَّلف:لما قال الله ﻷ:( اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا ) (سبأ:13) ، لم يأتِ عليهم ساعةٌ من ليلٍ أو نهارٍ إلاَّ وفيهم مصلٍّ يُصلي.
إذا كان شكرِي نعمةَ الله نعمةً عليَّ له في مِثلِها يجــبُ الشــكرُ
فكيف بلوغُ الشكرِ إلا بفضـلِهِ وإنْ طالتْ الأيامُ واتصلَ العُمرُ
إذا مَسّ بالسراءِ عَمَّ ســرورُها وإنْ مَسَّ بالضراءِ أعقبَها الأجرُ
فما مِنهُما إلا له فيه نِعمَــــــــةٌ تضيقُ بها الأوهامُ والسرُّ والجهرُ
 أنواع الصدقة :
هذه الأنواع التي أشار إليها النَّبيُّ صمن الصدقة ، منها:
1- ما نفعُهُ متعدٍّ كالإصلاح ، وإعانةِ الرَّجُلِ على دابته يحمله عليها أو يرفع متاعه عليها ، والكلمة الطيبة ، ويدخل فيها السلام ، وتشميتُ العاطس ، وإزالة الأذى عن الطَّريق ، والأمر بالمعروف ، والنَّهيُ عن المنكرِ ، ودفنُ النُّخامة في المسجد ، وإعانة ذي الحاجة الملهوف ، وإسماع الأصمّ ، والبصر للمنقوص بصره ، وهداية الأعمى أو غيره الطريق.
2- منه ما هو قاصرُ النَّفع:كالتَّسبيحِ ، والتَّكبير ، والتَّحميد ، والتَّهليل ، والمشي إلى الصَّلاةِ.
وصلاة ركعَتَي الضُّحى إنَّما كانتا مجزئتين عن ذلك كلِّه ؛ لأنَّ في الصَّلاة استعمالًا للأعضاء كلِّها في الطَّاعة والعبادة ، فتكون كافيةً في شكر نعمه سلامة هذه الأعضاء. وبقية هذه الخصال المذكورة أكثرُها استعمالٌ لبعض أعضاء البدن خاصَّةً ، فلا تكمُلُ الصدقة بها حتَّى يأتيَ منها بعدد سُلامى البدن ، وهي ثلاث مئة وستون كما في حديث عائشة ل.
وقال رَسُولَ اللهِ ص:« مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ لَبَنٍ أَوْ وَرِقٍ أَوْ هَدَى زُقَاقًا كَانَ لَهُ مِثْلَ عِتْقِ رَقَبَةٍ»(صحيح رواه الترمذي وقال:وَمَعْنَى قَوْلِهِ :«مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةَ وَرِقٍ» إِنَّمَا يَعْنِي بِهِ قَرْضَ الدَّرَاهِمِ ، قَوْلُهُ:« أَوْ هَدَى زُقَاقًا» يَعْنِي بِهِ هِدَايَةَ الطَّرِيقِ).
وعَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو ب يَقُولُ:قَالَ رَسُولُ اللهِ ص:«أَرْبَعُونَ خَصْلَةً أَعْلَاهُنَّ مَنِيحَةُ الْعَنْزِ مَا مِنْ عَامِلٍ يَعْمَلُ بِخَصْلَةٍ مِنْهَا رَجَاءَ ثَوَابِهَا وَتَصْدِيقَ مَوْعُودِهَا إِلَّا أَدْخَلَهُ اللهُ بِهَا الْجَنَّةَ». (رواه البخاري).
والمنيحة عند العرب على وجهين أحدهما:أنْ يعطي الرجل صاحبه صلة فتكون له ، والآخر:أنْ يعطيه ناقة أو شاة ينتفع بحليبها ووبرها زمانًا ثم يردها.
وقال ص:« لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ » (رواه مسلم) وقال النَّبيِّ ص ، قال:$ كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ وَإِنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ وَأَنْ تُفْرِغَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ أَخِيكَ #.(صحيح رواه الإمام أحمد).
وقال النَّبيَّ ص:$ لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ صِلَةَ الْـحَبْلِ ، وَلَوْ أَنْ تُعْطِيَ شِسْعَ النَّعْلِ ، وَلَوْ أَنْ تَنْزِعَ مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَاءِ الْـمُسْتَسْقِي ، وَلَوْ أَنْ تُنَحِّيَ الشَّيْءَ مِنْ طَرِيقِ النَّاسِ يُؤْذِيهِمْ ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ وَوَجْهُكَ إِلَيْهِ مُنْطَلِقٌ ، وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ فَتُسَلِّمَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ أَنْ تُؤْنِسَ الْوُحْشَانَ فِي الْأَرْضِ # (إسناده صحيح رواه الإمام أحمد).
وقال ص:$أحَبُّ النَاسِ إلَى اللهِ أنْفَعُهُمْ ، وأحَبُّ الأعْمَالِ إلَى اللهِ ﻷ سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ ، أوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً ، أوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا ، أوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا ، وَلَأَنْ أمْشِي مَعَ أخِي المسْلِمِ فِي حَاجَةٍ أحَبُّ إليَّ مِنْ أنْ أعْتَكِفَ فِي الْـمَسْجِدِ شَهْرًًا ، ومَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَلَوْ شَاءَ أنْ يُمْضِيَهُ أمْضَاهُ مَلَأ اللهُ قَلْبَهُ رِضًى يَوْمَ القِيَامَةِ ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أخِيهِ الـمُسْلِمِ فِي حَاجَتِه حَتَّى يُثْبِتَهَا لَهْ أثْبَتَ اللهُ تَعَالَى قَدَمَهُ يَوْمَ تَزِلّ الأقْدَامُ ، وإنّ سُوءَ الخُلُقِ لَيُفْسِدُ العَمَلَ كَمَا يُفْسِدُ الخَلّ العَسَلَ».(حسن رواه الطبراني)
3- ومِنْ أنواع الصَّدقة:كف الأذى عن الناس باليد واللسان:
عَنْ أَبِي ذَرٍّ تقَالَ:قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ ، أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟
قَالَ :«الْإِيمَانُ بِاللهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ».
قَالَ :قُلْتُ :أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ ؟
قَالَ :«أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا».
قَالَ :قُلْتُ :فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ ؟
قَالَ :«تُعِينُ صَانِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ».
قَالَ :قُلْتُ :يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ ؟
قَالَ :«تَكُفُّ شَرَّكَ عَنْ النَّاسِ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ».
(رواه البخاري). (الأخرق: الذي لا صنعة له).
4- ومن أنواع الصدقة:أداءُ حقوق المسلم على المسلم :
فعن أبي هريرة ، عن النَّبيِّ ص ، قال:$ حَقُّ الْـمُسْلِمِ عَلَى الْـمُسْلِمِ خَمْسٌ رَدُّ السَّلَامِ وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ» (رواه البخاري ومسلم).
وفي روايةٍ لمسلم: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَتأَنَّ رَسُولَ اللهِ صقَالَ :«حَقُّ الْـمُسْلِمِ عَلَى الْـمُسْلِمِ سِتٌّ » ، قِيلَ :مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ ؟قَالَ :«إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَسَمِّتْهُ وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ».
وعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ تقَالَ:أَمَرَنَا النَّبِيُّ صبِسَبْعٍ:بِاتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ ، وَعِيَادَةِ الـْمَرِيضِ ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي ، وَنَصْرِ الـْمَظْلُومِ ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ ، وَرَدِّ السَّلَامِ ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ ». (رواه البخاري ومسلم).
5- من أنواع الصَّدقة:إنظارُ المعسر:
عَنْ بُرَيْدَةَ الْأَسْلَمِيِّتعَنْ النَّبِيِّ صقَالَ :«مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا كَانَ لَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ ، وَمَنْ أَنْظَرَهُ بَعْدَ حِلِّهِ كَانَ لَهُ مِثْلُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ»(صحيح رواه ابن ماجه).
(وَمَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا)أَيْ أَجَّلَ دَيْنه اِبْتِدَاء
( بَعْد حِلّه) أَيْ بَعْد حُلُولِ الدَّيْن بِحُضُورِ حِلّ الْأَجَل الْأَوَّل ، أَيْ أَجَّلَ ثَانِيًا.
وقَالَ رَسُولُ اللهِ ص:«مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُظِلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ فَلْيُنْظِرْ مُعْسِرًا أَوْ لِيَضَعْ لَهُ» (صحيح رواه ابن ماجه). (فَلْيُنْظِرْ )مِنْ الْإِنْظَار(أَوْ لِيَضَعْ لَهُ )أَيْ الدَّيْن.
6- و من أنواع الصَّدقة:الإحسّان إلى البهائم ، كما قال النَّبيُّ ص لما سُئِلَ عن سقيها ، فقال:$ في كُلِّ كَبِدٍ رِطْبَةٍ أجْرٌ # (رواه البخاري ومسلم) ، وأخبر أنَّ بغيًّا سقت كلبًا يلهثُ مِن العطش ، فغفر لها »(رواه البخاري ومسلم).
وأمَّا الصَّدقة القاصرةُ على نفس العامل بها ، فمثل أنواع الذكر مِن التَّسبيح ، والتكبير ، والتحميد ، والتهليل ، والاستغفار ، والصلاة على النَّبيِّ ص ، وكذلك تلاوةُ القرآن ، والمشي إلى المساجد ، والجلوسُ فيها لانتظار الصلاة ، أو لاستماع الذكر.
ومن ذلك:التَّواضعُ في اللِّباس ، والمشي ، والهدي ، والتبذل في المهنة ، واكتساب الحلال ، والتحرِّي فيه.
ومنها أيضًا:محاسبةُ النفس على ما سلف من أعمالها ، والندم والتوبة من الذنوب السالفة ، والحزن عليها ، واحتقار النفس ، والازدراء عليها ، ومقتها في الله ﻷ ، والبكاء من خشية الله تعالى ، والتفكر في ملكوت السماوات والأرض ، وفي أمور الآخرة ، وما فيها مِنَ الوعد والوعيد ونحوِ ذلك مما يزيد الإيمانَ في القلب ، وينشأ عنه كثيرٌ من أعمال القلوب ، كالخشية ، والمحبَّةِ ، والرَّجاء ، والتوكُّل ، وغير ذَلِكَ.

 

المصدر: دليل الواعظ
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 225 مشاهدة
نشرت فى 1 ديسمبر 2011 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

313,805