14-رُفِعَتِ الأقلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفُ

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بقَالَ:كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ ص يَوْمًا فَقَالَ:« يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ:احْفَظْ اللهَ يَحْفَظْكَ ، احْفَظْ اللهَ تَجِدْهُ تجَاهَكَ ، إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللهَ ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ ، وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ ، رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ »(صَحيحٌ رواه الترمذيُّ).
هذا الحديث رواه الإمامُ أحمد عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ بقَالَ:«كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ ص فَقَالَ:« يَا غُلَامُ ـ أَوْ يَا غُلَيِّمُ «أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ» فَقُلْتُ:« بَلَى ».
فَقَالَ:« احْفَظْ اللهَ يَحْفَظْكَ ، احْفَظْ اللهَ تَجِدْهُ أَمَامَكَ ، تَعَرَّفْ إِلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ ، قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ ، فَلَوْ أَنَّ الْـخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا ، وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» (إسناده صحيح).
 لو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر :
قوله ص:$ قَدْ جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ # وفي روايةٍ أخرى:$ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ # هو كنايةٌ عن تقدُّم كتابة المقادير كلِّها ، والفراغ منها من أمدٍ بعيد ، فإنَّ الكتابَ إذا فُرِغَ من كتابته ، ورفعت الأقلامُ عنه ، وطال عهده ، فقد رُفعت عنه الأقلام ، وجفتِ الأقلام التي كتب بها مِنْ مدادها ، وجفت الصَّحيفة التي كتب فيها بالمداد المكتوب به فيها ، وهذا من أحسن الكنايات وأبلغِها.
وقد دلَّ الكتابُ والسننُ الصحيحة الكثيرة على مثل هذا المعنى ، قال الله تعالى:
( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ
ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ ) (الحديد:22).
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِب قَالَ:سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ص يَقُولُ: $كَتَبَ اللهُ مَقَادِيرَ الْـخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ #. (رواه مسلم).
عَنْ جَابِرٍ تقَالَ:جَاءَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ بَيِّنْ لَنَا دِينَنَا كَأَنَّا خُلِقْنَا الْآنَ ، فِيمَا الْعَمَلُ الْيَوْمَ ؟أَفِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْـمَقَادِيرُ أَمْ فِيمَا نَسْتَقْبِلُ؟
قَالَ:« لَا بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ وَجَرَتْ بِهِ الْـمَقَادِيرُ».
قَالَ: فَفِيمَ الْعَمَلُ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ص :« اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ.
وفي رواية:« كُلُّ عَامِلٍ مُيَسَّرٌ لِعَمَلِهِ» (رواه مسلم).
عَنْ أَبِي حَفْصَةَ قَالَ:قَالَ عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ ؛ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ص يَقُولُ:« إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ ، فَقَالَ لَهُ :«اكْتُبْ ».
قَالَ:« رَبِّ وَمَاذَا أَكْتُبُ ؟».
قَالَ :«اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ».
يَا بُنَيَّ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ص يَقُولُ:« مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي» (صحيح رواه أبو داود)
 الضر والنفع مقَدّر:
معنى قوله ص:$ فَلَوْأَنَّ الْـخَلْقَ كُلَّهُمْ جَمِيعًا أَرَادُوا أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكْتُبْهُ اللهُ عَلَيْكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ #. أنَّ ما يُصيب العبدَ في دنياه مما يضرُّه أو ينفعه ، فكلُّه مقدَّرٌ عليه ، ولا يصيبُ العبدَ إلا ما كُتِبَ له من ذلك في الكتاب السابق ، ولو اجتهد على ذلك الخلق كلهم جميعًا.
وقد دلَّ القرآنُ على مثل هذا في قوله ﻷ:(قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا ) (التوبة:51) ، وقوله:(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ) (الحديد:22) ، وقوله:(قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) (آل عمران:154).
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِتعَنْ النَّبِيِّ ص قَالَ:« لِكُلِّ شَيْءٍ حَقِيقَةٌ ، وَمَا بَلَغَ عَبْدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ» (صحيح رواه الإمام أحمد).
وعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ تقَالَ:قَالَ رَسُولُ اللهِ ص:« لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ ، حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ وَأَنَّ مَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ» (صحيح رواه الترمذي).
وعَنْ ابْنِ الدَّيْلَمِيِّ قَالَ:وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ خَشِيتُ أَنْ يُفْسِدَ عَلَيَّ دِينِي وَأَمْرِي فَأَتَيْتُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَقُلْتُ:« أَبَا الْـمُنْذِرِ إِنَّهُ قَدْ وَقَعَ فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْقَدَرِ فَخَشِيتُ عَلَى دِينِي وَأَمْرِي فَحَدِّثْنِي مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَنْفَعَنِي بِهِ».
فَقَالَ« لَوْ أَنَّ اللهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ ، وَلَوْ كَانَ لَكَ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا ـ أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ـ تُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ ، مَا قُبِلَ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ ؛ فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَأَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَأَنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ وَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ أَخِي عَبْدَ اللهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَتَسْأَلَهُ».
فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللهِ فَسَأَلْتُهُ فَذَكَرَ مِثْلَ مَا قَالَ أُبَيٌّ وَقَالَ لِي:« وَلَا عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ حُذَيْفَةَ» ، فَأَتَيْتُ حُذَيْفَةَ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَا وَقَالَ:« ائْتِ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَاسْأَلْهُ».
فَأَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ:« سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ص يَقُولُ:« لَوْ أَنَّ اللهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ ، وَلَوْ كَانَ لَكَ مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا ـ أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ذَهَبًا ـ تُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ مَا قَبِلَهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّه ِ؛ فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ وَأَنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ» (صحيح رواه ابن ماجه).
واعلم أنَّ مدارَ جميع هذه الوصية على هذا الأصل ، وما ذُكِر قبلَه وبعدَه ، فهو متفرِّعٌ عليه ، وراجعٌ إليه ، فإنَّ العبد إذا علم أنَّه لن يُصيبَه إلا ما كتبَ الله له مِنْ خير وشرٍّ ، ونفعٍ وضرٍّ ، وأنَّ اجتهادَ الخلق كلِّهم على خلاف المقدور غيرُ مفيد البتة ، علم حينئذٍ أنَّ الله وحده هو الضَّارُّ النَّافعُ ، المعطي المانع ، فأوجبَ ذلك للعبدِ توحيدَ ربِّه
ﻷ ، وإفرادَه بالطاعة ، وحفظَ حدوده.
فإنَّ المعبود إنَّما يقصد بعبادته جلبَ المنافع ودفع المضار ، ولهذا ذمَّ الله من يعبدُ من لا ينفعُ ولا يضرُّ ، ولا يُغني عن عابدِهِ شيئًا ، فمن علم أنَّه لا ينفعُ ولا يضرُّ ، ولا يُعطي ولا يمنعُ غيرُ الله ، أوجبَ له ذلك إفراده بالخوف والرجاء والمحبة والسؤال والتضرُّع والدعاء ، وتقديم طاعته على طاعةِ الخلق جميعًا ، وأنْ يتّقي سخطه ، ولو كان فيه سخطُ الخلق جميعًا ، وإفراده بالاستعانة به ، والسؤال له ، وإخلاص الدعاء له في حال الشدَّة وحال الرَّخاء ، بخلاف ما كان المشركون عليه من إخلاص الدعاء له عندَ الشدائد ، ونسيانه في الرخاء ، ودعاء من يرجون نفعَه مِنْ دُونِه ، قال الله ﻷ:
(قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْـمُتَوَكِّلُونَ ) (الزمر:38.).
 فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ:
قوله ص:$ وَاعْلَمْ أَنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا # يعني:أنَّ ما أصاب العبدَ مِنَ المصائب المؤلمةِ المكتوبة عليه إذا صبر عليها ، كان له في الصبر خيرٌ كثير.
فحصول اليقين للقلب بالقضاء السابق والتقدير الماضي يُعين العبد على أنْ ترضى نفسُه بما أصابه ، فمن استطاع أنْ يعمل في اليقين بالقضاء والقدر على الرضا بالمقدور فليفعل ، فإنْ لم يستطع الرِّضا ، فإنَّ في الصَّبر على المكروه خيرًا كثيرًا.
فهاتان درجتان للمؤمن بالقضاء والقدر في المصائب:
إحداهما:أنْ يرضى بذلك ، وهذه درجةٌ عاليةٌ رفيعة جدًا ، قال الله ﻷ:
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ) (التغابن:11).
قال علقمة:هي المصيبة تصيبُ الرَّجلَ ، فيعلم أنَّها من عند الله ، فيسلِّمُ لها ويرضى.
وقال النَّبيِّ ص قال:$ إِنَّ عِظَمَ الْـجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ وَإِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ # (حسن رواه الترمذي).
(إِنَّ عِظَمَ الْـجَزَاءِ)أَيْ كَثْرَتَهُ(مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ ) فَمَنْ اِبْتِلَاؤُهُ أَعْظَمُ فَجَزَاؤُهُ أَعْظَمُ
( اِبْتَلَاهُمْ )أَيْ اِخْتَبَرَهُمْ بِالْمِحَنِ وَالرَّزَايَا( فَمَنْ رَضِيَ)بِمَا اِبْتَلَاهُ بِهِ(فَلَهُ الرِّضَى ) مِنْهُ تَعَالَى وَجَزِيلُ الثَّوَابِ( وَمَنْ سَخِطَ ) أَيْ كَرِهَ بَلَاءَ اللهِ وَفَزِعَ وَلَمْ يَرْضَ بِقَضَائِهِ(فَلَهُ السُّخْطُ )مِنْهُ تَعَالَى وَأَلِيمُ الْعَذَابِ ، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ، وَالْمَقْصُودُ الْحَثُّ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى الْبَلَاءِ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا التَّرْغِيبُ فِي طَلَبِهِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ.
وكان النَّبيُّ ص يقول في دعائه:$ أسأَلُكَ الرِّضَا بَعْدَ القَضَاءِ # (صحيح رواه الإمام أحمد).
وممَّا يدعو المؤمن إلى الرِّضا بالقضاء تحقيقُ إيمانه بمعنى قول النَّبيِّ ص:
$عَجَبًا لِأَمْرِ الْـمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْـمُؤْمِنِ ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ # (رواه مسلم).
قال أبو الدرداء:$إنَّ الله إذا قضى قضاءً أحبَّ أنْ يُرضى به».
وقال ابن مسعود:$إنَّ الله بقسطه وعدله جعلَ الرَّوْحَ والفرح في اليقين والرضا ، وجعل الهم والحزن في الشكِّ والسخط».
فالرَّاضي لا يتمنّى غيرَ ما هو عليه من شدَّةٍ ورخاء.
وقال عمر بن عبد العزيز:أصبحت ومالي سرورٌ إلا في مواضع القضاء والقدر.
فمن وصل إلى هذه الدرجة ، كان عيشُه كلُّه في نعيمٍ وسرورٍ ، قال الله تعالى:
( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ) (النحل:97).
قال بعض السَّلف:الحياة الطيبة:هي الرضا والقناعة.
وقال عبد الواحد بن زيد:الرضا باب الله الأعظم وجنة الدنيا ومستراح العابدين.
وأهل الرضا تارةً يلاحظون حكمة المبتلي وخيرته لعبده في البلاء ، وأنَّه غير متَّهم في قضائه ، وتارةً يُلاحظون ثوابَ الرِّضا بالقضاء ، فيُنسيهم ألم المقتضي به ، وتارةً يُلاحظون عظمةَ المبتلي وجلالَه وكمالَه ، فيستغرقون في مشاهدة ذلك ، حتى لا يشعرون بالألم ، وهذا يصلُ إليه خواصُّ أهل المعرفة والمحبَّةِ ، حتى ربَّما تلذَّذوا بما أصابهم لملاحظتهم صدوره عن حبيبهم.
سئل بعضُ التابعينَ عن حاله في مرضه ، فقال:أحَبُّه إليهِ أحَبُّه إليَّ.
وسُئلَ السريّ:هل يجد المحبُّ ألم البلاء؟ فقالَ:لا.
وقال بعضهم:
عذابُه فيكَ عَـــذْبُ وبُعْدُهُ فيكَ قُــرْبُ
وأَنْتَ عِندي كرُوحي بل أَنْتَ مِنها أَحَبُّ
حسْبي مِنَ الحُبِّ أنِّي لِمَا تُحِبُّ أُحِـــــبُّ
والدرجة الثانية للمؤمن بالقضاء والقدر في المصائب:أنْ يصبرَ على البلاء ، وهذه لمن لم يستطع الرِّضا بالقضاء ، فالرِّضا فضلٌ مندوبٌ إليه مستحب ، والصبرُ واجبٌ على المؤمن حتمٌ ، وفي الصَّبر خيرٌ كثيرٌ ، فإنَّ الله أمرَ به ، ووعدَ عليه جزيلَ الأجر.قال الله ﻷ:(إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ) (الزمر:10) ، وقال:(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْـمُهْتَدُونَ ) (البقرة:155-157).
قال الحسن:الرِّضا عزيزٌ ، ولكن الصبر معولُ المؤمن.
الفرق بين الرضا والصبر:أنَّ الصَّبر:كفُّ النَّفس وحبسُها عن التسخط مع وجود الألم ، وتمنِّي زوال ذلك ، وكفُّ الجوارح عن العمل بمقتضى الجزع.
والرضا:انشراح الصدر وسعته بالقضاء ، وترك تمنِّي زوال ذلك المؤلم ، وإنْ وجدَ الإحساسُ بالألم ، لكن الرضا يخفِّفُه لما يباشر القلبَ من رَوح اليقين والمعرفة ، وإذا قوي الرِّضا ، فقد يزيل الإحساس بالألم بالكلية.
 اعلم أنَّ النَّصر مع الصَّبر:
قوله ص:$ وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ # هذا موافق لقول الله ﻷ:(قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (البقرة:249) ، وقوله تعالى:(فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِئَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) (الأنفال:66).
وقال عمرُ لأشياخ من بني عبس:بم قاتلتُمُ الناس؟ قالوا:بالصبر ، لم نلق قومًا إلا صبرنا لهم كما صبروا لنا.وقال بعض السَّلف:كلنا يكره الموت وألم الجراح ، ولكن نتفاضل بالصَّبر.
وقال البطَّال:الشجاعةُ صبرُ ساعة.
وهذا في جهاد العدوِّ الظاهر ، وهو جهادُ الكفار ، وكذلك جهاد العدوِّ الباطن ، وهو جهاد النَّفس والهَوى ، فإنَّ جهادَهُما من أعظم الجهاد ، كما قال النَّبيُّ ص: $المجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي اللهِ # (رواه أحمد والترمذي وإسناده صحيح).
وقال عبد الله بنُ عمر لمن سأله عن الجهاد:ابدأ بنفسك فجاهدها ، وابدأ بنفسك فاغزُها.
فهذا الجهاد يحتاجُ أيضًا إلى صبر ، فمن صبر على مجاهدة نفسه وهواه وشيطانه غلبه ، وحصل له النصر والظفر ، وملَكَ نفسه ، فصار عزيزًا ملكًا ، ومن جَزِعَ ولم يَصبر على مجاهدة ذلك ، غُلِب وقُهر وأُسر ، وصار عبدًا ذليلًا أسيرًا في يدي شيطانه وهواه ، كما قيل:
إذا المَرءُ لم يَغلِبْ هواهُ أقامَه بمنْزلةٍ فيها العَزيزُ ذَليلُ
قال ابن المبارك:من صبر ، فما أقلَّ ما يصبر ، ومن جزع ، فما أقل ما يتمتع.
فقوله ص:$ وَأَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ # يشمل النصرَ في الجهادين:جهادُ العدوِّ الظاهر ، وجهادُ العدوِّ الباطن ، فمن صبرَ فيهما ، نُصِرَ وظفر بعدوِّه ، ومن لم يصبر فيهما وجَزِعَ ، قُهِرَ وصار أسيرًا لعدوّه ، أو قتيلًا له.
 الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ:
قوله ص:$وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ# يشهد له قوله ﻷ:(وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ ) (الشورى:28).
 إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا:
قولهص:$فإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا # هو منتزع من قوله تعالى:( سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ) (الطلاق:7) ، وقوله ﻷ:(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ) (الشرح:5-6).
وعن ابن مسعود قال:لو أنَّ العسر دخل في جُحر لجاء اليسر حتى يدخل معه ، ثُمَّ قال:قال الله تعالى:(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ).
وحُصِرَ أبو عبيدة فكتب إليه عمرُ يقول:مهما ينْزل بامرئٍ شدَّةٌ يجعل الله بعدها فرجًا ، وإنَّه لن يَغلِبَ عسرٌ يُسرين ، وإنَّه يقول:( اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (آل عمران:200).
ومن لطائف أسرار اقتران الفرج بالكرب واليُسر بالعسر:أنَّ الكربَ إذا اشتدَّ وعَظُمَ وتناهى ، وحصل للعبد الإياسُ من كَشفه من جهة المخلوقين ، وتعلق قلبُه بالله وحده ، وهذا هو حقيقةُ التوكُّل على الله ، وهو من أعظم الأسباب التي تُطلَبُ بها الحوائجُ ، فإنَّ الله يكفي من توكَّل عليه ، كما قال تعالى:(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) (الطلاق:3).
قال الفضيل:والله لو يئستَ مِنَ الخلق حتَّى لا تريد منهم شيئًا ، لأعطاك مولاك كُلَّ ما تُريد.
وأيضًا فإنَّ المؤمن إذا استبطأ الفرج ، وأيس منه بعدَ كثرة دعائه وتضرُّعه ، ولم يظهر عليه أثرُ الإجابة يرجع إلى نفسه باللائمة ، وقال لها:إنَّما أُتيتُ من قِبَلِكَ ، ولو كان فيك خيرٌ لأُجِبْتُ ، وهذا اللومُ أحبُّ إلى الله من كثيرٍ من الطَّاعاتِ ، فإنَّه يُوجبُ انكسار العبد لمولاه واعترافه له بأنَّه أهلٌ لما نزل به من البلاء ، وأنَّه ليس بأهلٍ لإجابة الدعاء ، فلذلك تُسرِعُ إليه حينئذٍ إجابةُ الدعاء وتفريجُ الكرب ، فإنَّه تعالى عندَ المنكسرةِ قلوبهم من أجله.
عسَى ما ترَى أنْ لا يَدومَ وأنْ تَرَى لهُ فَرجًا مِمَّا أَلحَّ به الدَّهــــــرُ
عَسى فَــــــــــرَجٌ يأتِي به اللهُ إنَّه لَهُ كُلَّ يَومٍ في خَليقتِهِ أَمْـــــرُ
إذا لاحَ عسرٌ فارْجُ يُســـــرًا فإنَّه َقضَى اللهُ أنَّ العُسرَ يَتبَعُهُ اليُسرُ

 

 

المصدر: دليل الواعظ
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 212 مشاهدة
نشرت فى 1 ديسمبر 2011 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

313,797