authentication required

د. حلمي محمد القاعود


كان موقفًا نبيلاً من جانب مية الجريبي، الأمين العام للحزب الديمقراطي التقدمي (يسار)، حين صرَّحت لوكالة "فرانس برس" عقب هزيمة حزبها في الانتخابات التونسية التي جرت مؤخرًا لانتخاب الجمعية التأسيسية؛ حيث قالت: "هذا قرار الشعب التونسي، وأنا أنحني أمام خياره، وأهنئ من حازوا تزكية الشعب التونسي".

 

وأضافت: "سنكون دائمًا هنا للدفاع عن تونس الحداثة المزدهرة والمعتدلة"، كما رأت أن البلاد بصدد عيش "منعطف تاريخي".

 

السيدة الجريبي لم تكابر فيما جرى من حقائق على أرض الواقع، ولم تتهم الفائزين بالتمويل من جهات أجنبية، ولم تقم بهجاء حزب النهضة والإسلاميين، لأنها تعلم أن الانتخابات كانت نزيهة، وأنها جرت في شفافية أمام العالم كله بما فيه المراقبون الدوليون، وأن إرادة الناس كانت هي الفيصل في الاختيار الذي تم.

 

في المقابل فإن هناك من يرى في اختيار الشعوب مستقبلاً مظلمًا، ويعتقد أن هذه الشعوب جاهلة، وأنها لا تفهم في مسألة الديمقراطية، وأن اختياراتها للإسلاميين ستعصف بها وتقودها إلى الجحيم، وأن الديمقراطية لا تليق بها!.

 

وهذه الرؤية التي تتبناها الأقليات الثقافية والأيديولوجية في مصر، التي ظلت تتولى المسئولية وتجلس على حجر النظام المستبد الفاشي طوال ستين عامًا، لا تختلف عن الرؤية التي يتبناها كثير من الغربيين بمن فيهم الأمريكان والصهاينة؛ فالسيد "دانيال بايبس" الكاتب والأكاديمي المعروف مثلاً، وصف انتصار النهضة في الانتخابات بأنه "وباء النهضة!"، ثم عرج على وصف الإسلام بأنه "العدو الأول للعالم المتحضر!"؛ أما "شيلح عوفر" المحلل السياسي بجريدة معاريف الصهيونية، فيقول:

"وفي نظر أغلبية الصهاينة لا يمكن أن يعرف العرب الديمقراطية؛ إذ إن التنكيل الذي تعرض له القذافي، وفوز حزب النهضة في الانتخابات التونسية، هما دليلان على مدى تخلف العرب؛ لذا فإن من يتوقع نشوء أنظمة ديمقراطية في الدول العربية سيجد قبالته دولاً أشبه بإيران.

 

إلا أن قيادة الاستخبارات العسكرية توقعت هذا الأسبوع أن يكون نموذج الحكم الإسلامي في الدول العربية أقرب إلى النموذج التركي الذي يمثل الإسلام المعتدل والبراجماتي والموالي للغرب، والذي يؤمن بدولة تستند إلى الشريعة الإسلامية، لكنه لن يكون نظامًا متطرفا مثل نظام آيات الله".

 

يقول مونيكا ماركس، طالب الدكتوراه في جامعة أكسفورد، تعليقًا على انتخابات تونس وفوز حزب النهضة:

"وبدلاً من أن تقوم أحزاب المعارضة العلمانية مثل حزب التجديد بتطوير منابر قوية خاصة بهم، اقتصرت تقريبًا على تركيز جهودها على حملة التخويف، والتلويح بشبح سيطرة الإسلاميين، وفرض الشريعة الإسلامية، على الطريقة الإيرانية" (الشروق 5/11/2011).

 

مشكلة الأقليات الثقافية والأيديولوجية في بلادنا أنها تسير على خُطى العالم الغربي الصهيوني في النظر إلى الإسلام والإسلاميين، ولا تكتفي بذلك بل تريد فرض إرادتها على الأغلبية التي تؤمن بالإسلام دينًا أو حضارة، لتغير عقيدتها أو ثقافتها، وتؤمن بالعلمانية أو الليبرالية أو الحداثة (يدللونها بتسميتها المدنية ضد الإسلامية وليس ضد العسكرية!).

 

قد يكون مفهومًا أن يقف دانيال بايبس من الإسلام والمسلمين موقفًا عدوانيًّا لا مسوغ له إلا الروح الشعبية العدوانية الدفينة ضد الإسلام، ثم معطيات العلمانية والليبرالية والحداثة في الغرب؛ حيث أسقط الغرب من خلالها الرادع الخلقي، والضمير الإنساني، واتجه إلى الاستعمار ونهب المستعمرات واستعباد أهلها، وكان عدوانه على الإسلام والمسلمين أمرًا طبيعيًّا.

 

السيد بايبس (مواليد بوسطن 9 سبتمبر 1949)، مؤلف ومؤرخ أمريكي متخصص في نقد الإسلام، ومؤسس ومدير منتدى الشرق الأوسط (مركز أبحاث)، وأيضًا مؤسس كامبس وتش، وهي منظمة مثيرة للجدل تدعي نقدها للدراسات المتعلقة بالشرق الأوسط، لكن كثيرًا من المثقفين والباحثين يصفونها بأنها منظمة لمضايقة الباحثين والعلماء الذين ينتقدون الكيان الصهيوني، حصل على شهادة الدكتوراه (1978) من جامعة هارفارد، وقضى ست سنوات في الدراسة خارج الولايات المتحدة، منها ثلاث سنوات بمصر، ويتحدث الفرنسية ويقرأ العربية والألمانية. قام بالتدريس في جامعة شيكاغو وجامعة هارفارد وكلية الحرب التابعة لبحرية الولايات المتحدة. وهو قريب من الحكومة الأمريكية وأجهزتها، ويقدم استشارات في شئون الشرق الأوسط لشركات المال والصناعة والخدمات، ولشركات المحاماة، ولروابط المحاميين ونقاباتهم، وللاتحادات التجارية، وهيئات ومؤسسات الحكومة الأمريكية، والمحاكم في كل من الولايات المتحدة وكندا.

 

بلغ من بغضه للإسلام وأتباعه كما يقول الدكتور إبراهيم عوض؛ أنه يكرر في مقالاته وكتبه أن ذلك الدين النبيل لا يمكن أن يقوم بينه وبين الديمقراطية أي تفاهم، ولأنه يهودي صهيوني متعصب يكره الإسلام والمسلمين لا يترك فرصة تسنح إلا ويهتبلها لتهييج الرأي العام والمسئولين في أمريكا ضدنا، ناشرًا الكراهية في كل سطر بل في كل كلمة يحبرها قلمه، فإذا بها سم زعاف.

 

إنه منحاز على طول الخط والوقت للكيان الصهيوني، ويصور الفلسطينيين بأنهم شياطين لا يستحقون الرحمة، ويزعم أنه لا مكان في الشرق الأوسط لدولتين: إحداهما صهيونية، والأخرى فلسطينية، وأنه لا سبيل إلى الأمن والسلام في المنطقة وفي العالم إلا بمنع الفلسطينيين من إقامة دولة لهم وقطع الطريق عليهم؛ كي لا يتمكنوا من ذلك، وإلا فلو وقعت الفأس في الرأس وسُمِح لهم بإنشاء دولة فلن يكون هناك إلا أحد أمرين اثنين لا ثالث لهما:

فإما دمرت تلك الدولة نفسها، وإما دمرت الكيان الصهيوني.

 

لا أريد أن استطرد في الحديث عن بايبس- وأمثاله كثيرون في أمريكا والغرب على تفاوت في درجة الكراهية- ولكني أتساءل: لماذا تتعامل الأقليات الثقافية والأيديولوجية في بلادنا مع الإسلام مثل بايبس؛ وربما أشد؟!.

 

لقد أضعنا تسعة شهور منذ سقوط النظام الفاشي المستبد في جدل عقيم تثيره الأقليات الثقافية والأيديولوجية لتحول دون بناء ديمقراطي حقيقي، وتناست هذه الأقليات أن الاقتصاد المصري يتدهور، وعجلة الإنتاج لا تسير بمعدل طبيعي، والاحتياطي النقدي يوشك على النفاد بما يهدد بالإفلاس، فضلاً عن تفشي الرعب الأمني الحقيقي أو المفتعل، الذي امتد إلى القرى والمدن الصغيرة، وأجهزة الأمن مشغولة بمتابعة المؤتمرات والندوات والسياسيين لجمع المعلومات بعد أن تخلت عن واجبها في حفظ أمن الناس، والتصدي للمجرمين؛ حتى المرور لم يعد له وجود في قائمة اهتمامات وزارة الداخلية، يستوي في ذلك القاهرة وعواصم المحافظات والمراكز!.

 

بالطبع تتحرك الأقليات الثقافية والأيديولوجية لإزاحة الإسلاميين من المنافسة السياسية، وهذا أمر مستحيل لا يتحقق إلا بالقمع والعنف، وهو ما فعله النظام البائد على مدى ستين عامًا، حيث أقام المحاكم الاستثنائية وفتح المعتقلات على مصاريعها، وأنشأ السجون في كل مكان، وفي النهاية لم يستطع أن يخرج الناس من دينهم، بل هيأ المجال لعنف دموي غريب ردًّا على عنفه واستبداده وفاشيته، وإذا كانت الأقليات الثقافية والأيديولوجية لم تتعظ بالماضي، وتريد قيادة البلاد والعباد إلى دوائر عنف مفرغة لا تنتهي، فإن الخاسر الأكبر هو الوطن، وسينالها أيضًا بعض منها!.

 

لا أظن إلغاء الإرادة الشعبية، أو الاستهانة بمن ينتخبه الناس، أو وضع وثائق تعبر عن إرادة الأقليات، وتتجاهل معتقدات الأغلبية الساحقة، يمكن أن تحقق البناء الديمقراطي الحقيقي، والسلام الاجتماعي، والتقدم المأمول، وأيضًا فإن الذين يخيروننا بما يسمونه الاستنارة أو التأسلم، أو الاستحمار الديني، يخطئون في فهم طبيعة الشعب المصري والشعوب العربية التي عانت من الاستبداد وتسعى إلى الحرية وتقدم الدم في سبيل المستقبل الذي لا تتحكم فيه أقلية تفرض وصايتها على الأمة، وهيمنتها على مقدراتها.

 

إن شعوبنا تتمسك بإسلامها مهما كانت الضغوط، ومن الطبيعي أن تتفاعل معه ومع رموزه، وأن تكون الأغلبية في جانبها؛ لأنها تعلم أنه الدين الذي يمنع الظلم ويرفضه، وهو الدين الذي يعدل بين الناس جميعًا، أيًّا كانت أعراقهم ومعتقداتهم، وأنه الدين الذي لا يستبيح الأمم ولا ينهب خيراتها، ولا يميز بين المنتسبين إليه وإلى بنيانه الاجتماعي.

 

وإذا كان بايبس يرى أن الإسلام هو العدو الأول للعالم المتحضر، فهذا الكلام سليم في جانب منه؛ لأن الإسلام يدعو إلى مقاومة الجبروت الاستعماري (الذي يسميه تحضرًا!)، والتصدي لدمويته ونهبه لثروات الشعوب، وقتله ملايين المسلمين وغيرهم في العراق وأفغانستان والصومال والبوسنة والهرسك، وإفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.

 

لعل الأقليات الثقافية والأيديولوجية تنحاز لشعوبها بدلاً من الغرب، وتوقن بأن المستقبل لأمتنا مهما طغى الطغاة واستبد المستبدون، وتكف عن محاولات حرمان الوطن من الحرية، لأنها آتية بلا ريب إن شاء الله.

 

المصدر: اخوان اون لاين
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 33 مشاهدة
نشرت فى 25 نوفمبر 2011 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

325,772