مؤمن الهَباء | 23-11-2011 13:57

تسعة أشهر مرّت على مصر منذ أن تنحى مبارك عن السلطة، فى ١١ فبراير الماضى، وألقى بالمسئولية على كاهل المجلس الأعلى للقوات المسلحة.. وعلى الرغم من أن هذه المدة كافية فى الوضع الطبيعى لتكوين جنين فى بطن أمه، ليخرج بعدها إلى الدنيا بشرا سوياً مكتملاً، إلا أنها مرت على مصر كيوم أو بعض يوم.. لم يتغير فيها شىء مما ورثناه عن مبارك ونظامه.. ولم تستطع الثورة أن تحدث الانقلاب الكبير الذى وعدت به.. وربما يكون هذا هو سبب الضيق الشديد الذى يشعر به المصريون ويعبرون عنه فى مظاهراتهم واحتجاجاتهم واعتصاماتهم.. وأيضا فى ثرثرتهم المستمرة فى برامج «التوك شو».

كان نظام مبارك يقوم على ازدواجية عجيبة.. حكومة تحكم عليها مسئوليات وليس لها صلاحيات، ورئيس يدير وفى يده كل الصلاحيات والسلطات، وليس عليه أية مسئوليات.. ولا أظن أن تغييراً قد حدث فى هذه التركيبة.. فحكومة عصام شرف لا تختلف فى شىء عن حكومة أحمد نظيف.. عليها مسئوليات ولكنها بلا صلاحيات أو سلطات حقيقية.. وهى تعمل بتوجيهات المجلس العسكرى.. وتتلقى الضربات والانتقادات من كل مَن لا يجرؤ ولا يستطيع أن يضرب أو ينتقد المجلس الأعلى، بالضبط مثلما كان أى "هلفوت" يستطيع بسهولة أن يضرب فى نظيف ووزرائه حتى يبدو أمام الناس أنه صاحب رأى.. وأحيانا كان هذا الضرب يتم بتعليمات من أمن الدولة، لحاجة فى نفس يعقوب الكبير الذى يلاعب الجميع ويلعب بهم.

وكان نظام مبارك يتميز عن كل نظام سياسى فى العالم، بأنه بلا رؤية وبلا إرادة.. فهو لا ينظر إلى أبعد من موقع قدميه، ولا ما بعد اليوم الذى يعيشه.. كان يسير بالقصور الذاتى.. ريشة فى الهواء.. وكل أفعاله وتصريحاته ردود أفعال.. مجرد ردود أفعال لأحداث ومواقف طارئة أو عابرة تقع خارج نطاق اختصاصه.. كان يكره كل ماله علاقة بالاستراتيجية والتخطيط وبناء المواقف وتحديد الأهداف.. ويستخف بالمفكرين والمتفلسفين الذين يذكرونه بالتاريخ والجغرافيا وثوابت الأمن القومى.. ولم تكن لديه الإرادة للمبادرة وابتداء الفعل.. فهل تغير شىء من هذا فى مصر بعد الثورة؟!

وكان رهان مبارك الأكبر على «غموض التوجهات» فى الحقيقة كان يتباهى ويفتخر بذلك، باعتباره نوعا من الذكاء الفطرى والحوط السياسى.. وقد سئل فى مؤتمر صحفى مع هيلموت كول، مستشار ألمانيا الأسبق، عن التعديل الوزارى المرتقب فى مصر، فقال وشقاوة الأطفال فى عينيه، «أنا بيبقى التعديل الوزارى فى جيبى وأقول مافيش تعديل وزارى».. بينما كان مضيفوه ينظرون إلى الأرض وهم يضحكون.

وعندما بدأ مشروع التوريث، اعتمد سياسة «غموض التوجهات» بشكل أساسى، فهو كلما سئل عن ذلك نفى نفياً غير كامل كأن يقول، "مصر دولة كبيرة وعظيمة ولا يصح أن يتحدث أحد فيها عن التوريث.. وما حدث فى سوريا لن يحدث فى مصر.. مصر فيها انتخابات وفيها دستور ولا يمكن تعديل الدستور فى لحظة".

المرة الوحيدة التى قال فيها كلاماً قاطعاً ومحدداً فى هذا الأمر هى المرة الأخيرة التى لم يتحدث بعدها.. وانتهى عندها كل شىء.. عندما قال، "لم أكن أنتوى أن أترشح مرة أخرى أو يترشح أحد من أبنائى أو أسرتى لمنصب رئيس الجمهورية فى الانتخابات القادمة للرئاسة".

ومن العجيب أن مصر بعد الثورة لم تغير سياسة «غموض التوجهات» هذه، فعندما تنقلب الدنيا فى ميدان التحرير وتخرج مظاهرة مليونية تطالب بإسقاط وثيقة د. على السلمى، وتحديد موعد الانتخابات الرئاسية وإعلان جدول زمنى لتسليم السلطة إلى حكومة مدينة منتخبة، يلوذ المجلس العسكرى بالصمت.. لا يقبل ولا يرفض.. وعندما تنفجر الأحداث وتقع المصادمات الدامية بين المتظاهرين وقوات الأمن المركزى يزداد المجلس العسكرى صمتا، بينما تخرج الحكومة ببيان هزيل يدافع عن وزارة الداخلية وعدوانها على المتظاهرين السلميين.

ووسط هذا الغموض الاستراتيجى لا نتبين موقف المجلس العسكرى، هل هو موافق بالكامل على سلوك الداخلية أم رافض أم نص نص؟!.. ولماذا لا يستجيب لدعوات الكثيرين بإقالة وزير الداخلية منصور العيسوى، رغم أنه رفض من قبل استقالة نائب رئيس الوزراء التى قبلها رئيس الوزراء ليؤكد أن السلطة الفعلية بيده هو وليست بيد زيد أو عمور.

ولعب مبارك كثيراً لتعميق حالة الاستقطاب السياسى بين الأحزاب والفرقاء المتشاكسين وتزكية الخوف المتبادل بين الليبراليين والإسلاميين واليساريين واليمينيين والعلمانيين والشيوعيين حتى يظل وحده محور الكون ورمانة الميزان ومصدر الأمن للجميع وبعده الفوضى والانهيار.. أنا أو الفوضى.. وللأسف مازالت اللعبة سارية، وإن تغيرت الشخوص وتبدلت الألسنة.

فى اجتماعات المجلس العسكرى الأولى مع المفكرين والسياسيين كان هناك إيحاء بتوافق عسكرى مع الإخوان المسلمين.. وعندما سئل المجلس عن عدد الإخوان بين صفوفهم تحوّل هذا التوافق إلى تنافر تلقائى.. وبعد أن كانت لجنة إعداد لإعلان الدستور برئاسة المستشار طارق البشرى وعضوية المحامى صبحى صالح، أحد القيادات الإخوانية، انقلب الحال ليأتى إلى حكومات الثورة قيادات يسارية ووفدية، ويتأكد الجدار العازل بين الإخوان والمجلس.. ثم جاءت وثيقة د. السلمى لتكتب ورقة الطلاق البائن بين الجانبين.

والحقيقة أن القضية ليست الإخوان ولا الوفد ولا التجمع اليسارى.. القضية هى ضرورة استمرار حالة الانقسام والاستقطاب وعدم التوافق والخوف المتبادل بين التيارات السياسية لإعاقة الانتقال السلمى فى اتجاه الديمقراطية.

ولو كان لديك وقت لتتذكر كيف كانت تصاغ البيانات الرسمية الصادرة من مبارك وحكوماته المتعاقبة، فسوف تكتشف أن البيانات الرسمية التى تصدر الآن هى نفسها.. بمفرداتها واستعلائها وتهويماتها.. ففى كل كارثة لابد أن يصدر البيان ليتحدث عن القلة المندسة والأصابع الخفية وضرورة الحفاظ على هيبة الدولة وألا تكسر هيبة الأمن ورجل الشرطة.

ولو لم يكن لديك وقت لتتذكر وتفكر وتقارن، فنظرة سريعة على الواقع تؤكد لك أن شيئاً فى هذا البلد لم يتغير، رغم الثورة، ورغم الشهور التسعة التى مرت.. انظر إلى المحاكمات وما يحدث فيها والانفلات الأمنى المصطنع وقانون الطوارئ وموجات الغلاء المتتالية، رغم شعارات العدالة الاجتماعية.. والوضع الاقتصادى المتدهور، رغم أن الحكومة استهلكت حوالى نصف الاحتياطى النقدى للدولة.. فلا وظائف ولا استثمارات ولا حد أدنى للأجور ولا حل حتى لمشاكل رغيف الخبز وأنبوبة البوتاجاز وشيكارة السماد وديون الفلاحين.

لذلك.. نرجو أن يعذرنا حكامنا عندما يتجرأ البعض ويقول إن الغضب تجاوز حكومة شرف ليصل إلى الرأس الكبيرة.

إشارات

- عبد المنعم أبو الفتوح ومحمد البرادعى «إيد واحدة».. بجد أم موضة وتنتهى سريعاً؟!

- كثيرون تنبأوا بإقالة أو استقالة حكومة شرف بعد أحداث السبت والأحد، لكن الواضح أن هذه الحكومة لم تكمل دورها ولم تؤد المطلوب منها كله.

- الذين امتدحوا مبارك ورفعوه إلى مرتبة الزعيم الإله، كيف تواتيهم الجرأة، وكيف يسمح لهم ضميرهم بالهجوم عليه الآن؟! يأكلونه لحما ويرمونه عظماً!!

- منذ نهاية الحرب العالمية الثانية شنت أمريكا حروباً على الصين وكوريا وإندونيسيا وكوبا وبيرو وللاوس وكمبوديا وفيتنام وجرينادا وليبيا وبنما والعراق وأفغانستان ويوغوسلافيا.. ولم يقم نظام ديمقراطى واحد فى أى بلد هاجمته أمريكا أو غزته أو احتلته.. هل وصلت الرسالة؟!!

momen_ alhabbaa @hotmail.com

المصدر: المصريون
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 36 مشاهدة
نشرت فى 24 نوفمبر 2011 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

325,874