إعداد/ د. مصطفى شلبي


عناصر الخطبة

* التضحية وواقعنا الذي نعيشه.

* الأسرة المسلمة الطائعة ومشاركة الجميع في بناء مصر.

* إتقان العمل من خلال بناء إبراهيم وإسماعيل للكعبة.

* عيدنا الحقيقي.

 

مقدمة:

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر.

 

الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.

 

الله أكبر خلق الخلق وأحصاهم عددًا، وكلهم آتيه يوم القيامة فردًا، الله أكبر عز ربنا سلطانًا ومجدًا، وتعالى عظمةً وحلمًا، عنت الوجوه لعظمته، وخضعت الخلائق لقدرته، الله أكبر ما ذكره الذاكرون، والله أكبر ما هلل المهللون، وكبر المكبرون، الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.

 

الله أكبر عدد ما أحرم الحجاج من الميقات، وكلما لبى الملبون وزيد في الحسنات، الله أكبر عدد ما دخل الحجاج مكة ومنى والمزدلفة وعرفات، الله أكبر عدد ما طاف الطائفون بالبيت الحرام وعظموا الحرمات، الله أكبر عدد من سعى بين الصفا والمروة من المرات، والله أكبر عدد من حلقوا الرؤوس تعظيمًا لرب البريات، الله أكبر عدد من وقف من المحتجين والمتظاهرين على الظالمين في الميادين والساحات.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ملك فقهر، وتأذن بالزيادة لمن شكر، وتوعد بالعذاب من جحد وكفر، تفرد بالخلق والتدبير وكل شيء عنده مقدر، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، طاهر المظهر والمخبر، وأنصح من دعا إلى الله وبشر وأنذر، وأفضل من صلى وزكى وصام وحج واعتمر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا مديدًا وأكثر.



د. مصطفى شلبي

 

أما بعد:

فاتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم به عليكم من نعمة الدين العظيم، الذي أكمله لكم، وأتم عليكم به النعمة، ورضيه لكم دينًا، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ (المائدة: من الآية 3).

 

العيد يأتينا وشريعة الله تنادينا: مَن لي؟

الشريعة التي فيها نجاة البشرية، وصلاح البشرية، وفوز البشرية، الشريعة الكاملة التامة، الشريعة الشاملة، الشريعة الواقعية التي ترعى الإنسان والإنسانية في كل ظروف الحياة، الشريعة المرنة، الشريعة الموصوف كتابها ﴿وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ﴾ (الإسراء: من الآية 105).

 

هذه الشريعة تنادينا: من لي؟ نعم من للشريعة يظهر حقيقتها، ويبين للناس محاسنها؛ حيث غُيبت دهرًا طويلاً عن عموم الناس، وخدعهم المخادعون، وزينوا لهم زخرف الحياة الدنيا، وادعوا كذبًا وبهتانًا أنها لا تصلح لهذا الزمان(1)، بعد أن حكمنا عقودًا بشرائع بشرية كان نتاجها ما جنيناه من ضنك في كل شيء على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، آن الأوان أن نعود لشريعة الخالق فلا نجاة لنا ولا عز ولا سعادة ولا رقي ولا امتلاك لأدوات الحضارة والرقي إلا بأن نستظل بظلها.

 

دينكم يا عباد الله أعظم الأديان، وأرسخها في العقول والأبدان، محروس من الزيادة والنقصان، وما سواه اليوم فهو باطل فيه خلط وهذيان، ولن يقبل الله من أحدٍ دينًا سوى الإسلام، قال تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)﴾ (آل عمران)، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، يَهُودِيٌّ وَلا نَصْرَانِيٌّ، ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلَّا كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ" (أخرجه مسلم)، واعلموا أيها الناس أن البعد عن الدين هو الانتحار والدمار، وهو قرة عين الاستعمار، دين الإسلام العظيم صالح لكل زمان ومكان، مشتمل على حل لكل قضية سبقت أو حدثت، فتمسكوا بدينكم، وعضوا عليه بالنواجذ، ففي ذلكم النصر والتمكين والهداية لكم في الدارين، قال صلى الله عليه وسلم: "تركت فيكم ما لن تضلوا بعده أبدًا إن اعتصمتم به كتاب الله" (متفق عليه).

 

قال ابن القيم- رحمه الله-: يوم النحر هو يوم العيد، وهو يوم الحج الأكبر، وهو يوم الأذان ببراءة الله ورسوله من كل مشرك. قال: (أفضل الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر). ويوم القر: هو يوم الاستقرار في منى، وهو اليوم الحادي عشر.

 

* التضحية وواقعنا الذي نعيشه

أيها المسلمون.. يقولُ الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)﴾ (الصَّافات).

 

عبادَ الله، إنّكم في يومٍ تُحيُونَ فيهِ سُنّةَ سيّدِنا إبراهيم بما تُريقُونَ منْ دِمَاءِ الأَضَاحِي في هذا اليومِ العظيم.

 

فالخليلُ إبراهيم أُمِرَ في المنام، أُمِرَ بِوَحْيٍ أنْ يَذْبَحَ وَلَدَهُ ثَمَرَةَ فُؤادِه ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ﴾، وَرُؤْيَا الأنبياءِ وَحْيٌ، وأرادَ أنْ يَعْرِفَ قَرَارَ وَلَدِه ﴿فَانظُرْ مَاذَا تَرَى﴾، لم يَقْصِــدْ إبراهيم عليه السلامُ أنْ يُشاوِرَ وَلَدَه في تَنفيذِ أمـــرِ اللهِ، ولا كـانَ مُــــتردِّدًا وإنما أرادَ أن يَعرِفَ ما في نَفْسِيّةِ وَلَدِه تُجاهَ أمرِ الله، فجاءَ جوابُ إسماعيلَ عليه السلام، جاءَ جوابُ الولدِ المحبّ لله أكثرَ مِن حُبِّه للحياة: ﴿قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾، وأمّا قولُه: ﴿إِن شَاء اللَّهُ﴾ لأنَّه لا حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله تكون، ولا استطاعة لتنفيذ تكليف إلا بعون الله.

 

فوالله لولا اللهُ ما اهتدَيْنا، ولا تصدّقنا ولا صلّينا.

اسمعوا إخوةَ الإيمان، أخذَ إبراهيم النبيُّ الرَّسولُ خَليلُ الرَّحمنِ ولدَه ثمرةَ فؤادِه وابتعدَ بِه حتى لا تشعرَ الأمُّ، وأَضْجَعَهُ على جَبِيْنِه، والجبهةُ بين الجبينين، أضجعه على جبينِه فقال إسماعيلُ لأبيه، الولدُ يخاطِبُ أباه: "يا أبي اكْفُفْ عَني ثوبَكَ حتى لا يتلطّخ مِنْ دَمِي فَتَرَاهُ أُمّي، وأَسْرِعْ مَرّ السّكين، ليكونَ أهونَ للمَوتِ عليّ، فإذا وَصَلْتَ إلى أُمّي أَقْرِئْهَا السلام". فَضَمَّهُ إبراهيم قائلاً: "نِعْمَ الوَلَدُ أَنْتَ يا بُنَيَّ على تَنْفِيْذِ أَمْرِ الله".

 

وباشَرَ سيّدُنا إبراهيم بـِمَرّ السكِّينِ على عُنُقِ وَلَدِه إسماعيل، فلم تَقْطَعْ لأنّ السِكِّينَ سَبَبٌ عادِيٌّ لا تَخْلُقُ ما يحدُثُ عنها، وإنما خالقُ القَطعِ فيها إذا قَطَعَتْ هو اللهُ تعالى. وزادَ إبراهيم في محاوَلَتِه، وإذْ بِنِدَاءِ جبريلَ وقدْ نَزَلَ بِكَبْشٍ مِنَ الجنة بأمرِ الله ﴿وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105)﴾ وقال تعالى: ﴿وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)﴾.

 

وهنا الدرس الأول:

إخواني في الله أنه لما كانت هناك إرادة واستعداد للتضحية كان الثبات والتثبيت من الله ولما ضحى الوالد بأعز ما يملك كان الفداء من الله.

 

ولما كانت هناك إرادة من الشعب للتضحية من أجل حريته وكرامته في الخامس والعشرين من يناير كان نصر الله وتأييده بنجاح ثورتنا المباركة.

 

ومن تمام شكر الله على نعمته أن نكون حراسًا لهذه الثورة حتى تؤتي ثمارها ونحميها من مكر الماكرين من الظالمين والفاسدين الذين يسعون ويخططون لأن تعود الأمور للوراء ولكن هيهات هيهات أن ينجحوا وقد أريقت دماء وقدم شهداء، وما دُفع فيه الدم ثمنًا لا يستطيع مخلوق كائنًا من كان أن يهدمه.

 

طلبت بعض الشباب تليفونيًّا في بداية الثورة فأخبروني أن كلاًّ منهم كتب وصيته وتركها في منزله قبل أن ينزل، (إذا كانت هناك النية والإرادة الصادقة للتضحية في سبيل الله فمنهم من قضى نحبه شهيدًا ومنهم من ينتظر)، فثورتنا لم تنجح إلا بالتضحية، ولن نحافظ عليها ولن نستطيع حمايتها من مكر المتربصين بها في الخارج والداخل ولن تحقق مآربها إلا بالتضحية.

 

يأتي العيد هذا العام ليستنهض فينا جميعًا وإن اختلفت المشارب والأفكار أرقى المعاني النبيلة والتي تتمثل في (التضحية والإيثار)، والتي أصبحت فعلاً من الفرائض الغائبة؛ فقد تعمَّدوا تغيبها.. التضحية التي لا حدود لها بكل معانيها هي الملاذ لنا جميعًا.. التضحية بالوقت من أجل التخفيف من آلام المنكوبين والمحرومين والذين نعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافًا.. التضحية بالمال من أجل الملايين، وقد تقطَّعت بهم السبل، ولا مطمع لهم إلا في كسرة خبز وشربة ماء نقية، لا تصيب في الغالب أكبادهم ولا أجسادهم بكل الأمراض المتوطنة.. التضحية بكل ما هو غالٍ وثمين من أجل النهوض بشبابنا وقد ضلُّوا طريقهم كرهًا لا طوعًا، مع مراعاة أعدادهم المتزايدة التي تمثل قنابل موقوتة يوشك أن تنفجر في وجوهنا جميعًا.. التضحية بالجاه من أجل قضاء حوائج الحيارى، وما أكثرهم!! وحصولهم على حقوقهم المكتسبة!.

 

* الأسرة المسلمة الطائعة ومشاركة الجميع في بناء مصر

أيها المسلمون..

ثم الدرس الثاني:

من حياة هذه الأسرة الربانية التي حفظ الله ذكرها إلى أن تقوم الساعة لتكون هديًا ونبراسًا للناس:

مشاركة الجميع في البناء والعطاء فالمرأة لها دور متمثل في دور أمنا هاجر عليها السلام والرجال لهم دور متمثلاً في دور نبينا إبراهيم عليه السلام والشباب والغلمان لهم دور متمثل في دور سيدنا إسماعيل عليه السلام والدرس والعظة لنا ونحن اليوم نبني مصر الحرية والعزة والكرامة بأيدي الجميع شبابًا وشيوخًا ونساءً وأطفالاً لكل دوره وعطاؤه.

 

الدرس الثالث:

دور الأب في إعداد بيته وتربيته وربط قلوب الجميع زوجًا وزوجةً وأولادًا بالله فالكل يتربى أنه يعيش على ظهر هذه الأرض لعبادة الله، شعاره الذي يردده (حياتي كلها لله)، هنا يجني الأب ثمرة تربيته الإيمانية في كل المواقف، فها هي هاجر عليها السلام بعد أن تركهما إبراهيم عليه السلام عند بيت الله الحرام.

 

وبالله عليك، بماذا تفكر امرأة عندما يتركها زوجها مع رضيعها في مكان لا طعام فيه ولا ماء؟ هنا قالت هاجر قولتها الشهيرة:

- إلى من تكلنا؟ آلله أمرك بذلك؟

فقال سيدنا إبراهيم: نعم. فقالت: إذن لن يضيعنا.

لقد استغنت بالخالق عن المخلوق، ولم تنطق مثل هذا القول إلا بوحي من المسبب، وهذه أول قضية إيمانية مع ملاحظة الأرضية الإيمانية التي وجدت عليها، حينما دعا إبراهيم عليه السلام ربه قائلا: ﴿رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)﴾ (إبراهيم).

 

وإذا قرأت "غير ذي زرع" فاعلم أنه غير ذي ماء، فحيث يوجد الماء؛ يوجد الزرع، فالماء هو الأصل الأصيل في استبقاء الحياة، وعندما يغيب الماء عن أم ووليدها، فماذا يكون حالهما؟ لقد عطش ولدها وأرادت أن تبحث عن نبع ماء أو طير ينزل في مكان لتعلم أن فيه ماء، أو ترى قافلة تسير ومعها ماء؛ لذلك خرجت إلى أعلى مكان وتركت الوادي، وصعدت إلى أعلى جبل الصفا فلم تجد شيئًا، فنظرت إلى الجهة الأخرى؛ إلى المروة، وصعدت عليها فلم تجد شيئًا.

 

وظلت تتردد بين الصفا والمروة سبعة أشواط. ولنا أن نتصور حالتها، امرأة في مثل سنها، وفي مثل وحدتها، وفي مثل عدم وجود ماء عندها، ولا بد أنها عطشت كما عطش وليدها، وعندما بلغ منها الجهد، انتهت محاولاتها، وعادت إلى حيث يوجد الوليد.

 

ولو أن سعيها بين الصفا والمروة أجدى، فرأت ماء لقلنا: إن السعي وحده قد جاء لها بالماء، لكنها هي التي قالت من قبل: "إذن لن يضيعنا"، وهي بهذا القول قد ارتبطت بالمسبب لا بالسبب، فلو أنه أعطاها بالسبب المباشر وهو بحثها عن الماء لما كان عندها حجة على صدقها في قولها: "إذن لن يضيعنا". ويريد الحق أن ينتهي سعيها سبع مرات بلا نتيجة، وتعود إلى وليدها؛ فتجد الماء عند قدم الوليد. وهكذا صدقت هاجر في يقينها، عندما وثقت أن الله لن يضيعها، وأراد الله أن يقول لها: نعلم لن أضيعك، وليس بسعيك؛ ولكن بقدم طفلك الرضيع؛ يضرب بها الأرض، فينبع منها الماء. وضرب الوليد للأرض بقدمه سبب غير فاعل في العادة، لكن الله أراده سببًا حتى يستبقى السببية ولو لم تؤد إلى الغرض.

 

وها نحن قد أخذنا الدرس وظل الشعب يقاوم الفساد والظلم والاستبداد والقهر بما يستطيع طيلة ثلاثين عامًا حتى جاء نصر الله في الخامس والعشرين من يناير فكان فضل الله على شعب مصر عظيمًا بحوله وقوته وفضله فأرانا ما نحب فلنرى الله من أنفسنا ما يحب.

 

وحين وجدت هاجر الماء عند قدم رضيعها أيقنت حقًّا أن الله لم يضيعها، وظل السعي شعيرة من شعائر الحج إلى بيت الله الحرام، استدامة لإيمان المرء بالمسبب وعدم إهماله للسبب.

 

في إحدى الدول العربية وفي أحد المولات (المتاجر) الكبيرة أغلقت الأبواب على المترددين من الزبائن وأعلن خلال مكبرات الصوت عن إجراء مسابقة جائزتها سيارة فارهة وكان السؤال عليك الاتصال بزوجتك الآن لتخبرها باصطحابك لخمس من الأصدقاء على الغداء والفائز هو من يتلقى أفضل رد من زوجته واستمع الحضور لردود عجيبة وبعضها مؤلم ومخزٍ تنم على أن الزوج لم يبذل جهدًا في تربية زوجته على قيمة الكرم ولكن جاء الرد الفائز من زوجة مصرية قائلة لزوجها على الرحب والسعة يأتون برزقهم ويذهبون بذنوبنا فلتأت بهم على الفور، هذا الزوج اقتدى بسيدنا إبراهيم عليه السلام في تربيته وإعداده لبيته فجنى ثمرة جهده، وما أحوجنا للاقتداء بهذا المعنى، وهذا السلوك النبوي.

 

* إتقان العمل من خلال بناء إبراهيم وإسماعيل للكعبة.

الدرس الرابع:

أيها المسلمون.. في ذلك الحجر الذي وقف عليه إبراهيم عليه السلام ليرفع القواعد من البيت، فليس مصادفة وإنما سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة ركعتين بعد الطواف خلف مقام إبراهيم- عليه السلام- هذه الملايين التي تحج إلى بيت الله الحرام وغيرها من الملايين التي تذهب لأداء العمرة على مدار العام تفعل ذلك، فما الحكمة منه؟! نعلم ذلك حينما نتذاكر سويًّا قصة هذا الحجر الموضوع في الحجرة الزجاجية بجوار الكعبة المشرَّفة، لمَّا أمر الله عزَّ وجلَّ سيدنا إبراهيم برفع القواعد من البيت لم يحدد له الله عزَّ وجلَّ الارتفاع الذي يرفع إليه البناء، وظلَّ إبراهيم ومعه ابنه إسماعيل عليهما السلام يرفعان القواعد حتى وصل البناء إلى ارتفاع ما استطاعت يد سيدنا إبراهيم أن تصل إليه، فأمر سيدنا إسماعيل أن يأتي بحجر؛ ليصعد عليه حتى يرفع البناء، وهذا دليل على قيمة إتقان التكليف والعمل، فلم يلزمه الله بذلك وشاءت إرادة الله أن تُطبع قدم سيدنا إبراهيم- عليه السلام- في الحجر، ويتخذه المسلمون مقامًا يجعلونه بينهم وبين الكعبة، ويصلّون ركعتين بعد الطواف؛ لتتذاكر الملايين المسلمة هذه القيمة الإسلامية القرآنية قيمة إتقان العمل، وهذا يذكرنا بقول الله عزَّ وجلَّ وإرشاده لنا لهذه القيمة ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)﴾ (القمر)، فسيدنا نوح- عليه السلام- يصنع السفينة في الصحراء بهذا ﴿وَدُسُرٍ﴾، وقد يظن الظان أنه يفعل ذلك حتى لا يدخل الماء إلى السفينة، ولكن أين الماء؟ إنه في صحراء ولا يوجد ماء ولا معنى لبناء السفينة، فضلاً عن إتقان صناعتها بهذه الكيفية، والدليل سخرية قومه من فعله هذا ﴿وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ﴾ (هود: من الآية 38)، ولكنه يفعل ذلك إتقانًا لأداء التكليف الذي أمره الله به، هذه القيمة القرآنية الإسلامية التي هجرت بلاد المسلمين وتوطنت في بلاد أخرى؛ فأصبحنا نعيش عالةً على غيرنا، يقول الشيخ الغزالي- رحمه الله-: "لو قيل لكل شيء في الشارع الإسلامي قف وعد إلى بلادك لمشى المسلمون في شوارعهم حفاةً عراةً جوعى عطشى"؛ لأننا نلبس ونأكل ونركب ونشرب من صنع غيرنا!، ألم يأن الأوان أن يتذاكر الملايين المسلمة هذه القيمة، فيعودون إلى بلادهم مصممين على استعادة هذه القيمة من جديد، كل في مجال عمله يتقنه، الطبيب يتقن في عمله، والمهندس، والفلاح، والنجار، والسباك، والكهربائي، والطالب، يتقنون عملهم، وغيرهم في المجالات المختلفة يدرك الجميع أنه لا عزَّ لنا ولا تقدُّم إلا باستعادة هذه القيمة من جديد وخاصة ونحن مصر ما بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير.

 

عيدنا الحقيقي:

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، والله لو كبرت قلوب المسلمين كما كبرت ألسنتهم، لغيروا وجه التاريخ.. ولو اجتمعوا دائمًا كما يجتمعون لصلاة العيد لهزموا جحافل الأعداء.. ولو تصافحت قلوبهم كما تتصافح أيديهم لقضوا على عوامل الفرقة.. ولو تبسمت أرواحهم كما تبسمت شفاههم لكانوا مع أهل السماء.. ولو لبسوا أكمل الأخلاق كما يلبسون أفخر الثياب لكانوا أجمل أمة على الأرض.

 

أيها المؤمنون، اهنأوا بعيدكم واعلموا أن عيدنا الحقيقي في التمسك بالطاعات والإقبال على الله بقلوب خاشعة..

 

عيدنا الحقيقي عندما يكون الله ورسوله أحب إلينا مما سواهما..

عيدنا الحقيقي يوم نؤدي حق الله علينا في نصرة دينه والدفاع عن نبيه صلى الله عليه وسلم..

عيدنا الحقيقي يوم تتوحد الأمة وتصبح لها كلمة..

عيدنا الحقيقي يوم تجتمع الأمة على قلب رجل واحد..

عيدنا الحقيقي يوم يتحرر الأقصى من دنس اليهود..

عيدنا الحقيقي يوم تتحرر البلاد المسلمة: العراق وأفغانستان وفلسطين من مغتصبيها..

كل أب يعلم أولاده خلق الإسلام وآدابه.. هو لنا عيد.

كل أم تعلم بناتها الحشمة والوقار والتادب بآداب الإسلام.. هو لنا عيد.

كل فتاة ترتدي الحجاب الشرعي وتسمع وتطيع لرب العالمين.. هو لنا عيد.

كل شاب يترك صحبة السوء ويختار صحبة الخير.. هو لنا عيد.

يوم تعود مؤسسات الدولة بصورة صحيحة لتحقق الأمن والاستقرار للمواطن المصري ويحصل الناس على حريتهم وينالون كرامتهم فيعيشون حياة كريمة في مأكلهم وملبسهم ومشربهم ومسكنهم ومركبهم هو لنا عيد.

العيد الحقيقي آت وقادم إن شاء الله تلوح نفحاته في الأفق القريب.

قادم بجهدكم أيها الإخوة المؤمنون، قادم بمشاركتكم واختياركم الصحيح لمن يمثلكم في هذه المؤسسات اختيارًا مبنيًا على أداء الشهادة لله، اختيارا ليس مبنيا على عصبية لقرابة ولا ابن بلد ولا صداقة ولا جيرة إنما مبنية على اختيار الأصلح القوى الأمين ،والقوة والعلم تعنيان الخبرة الكافية والمؤهلات اللازمة لممارسة هذه الولاية على حسب طبيعة الولاية واختصاصاتها وصلاحيات من يمارسها، كما أن الأمانة والحفظ تعنيان العفة والورع والخشية بحيث تحجزه تلك الخشية عن الوقوع في المحارم والمنكرات ونهب المال العام.

 

ولنعلم أن السنة النبوية حذرت من دخول الهوى والعصبية والمصالح الشخصية في اختيار الولاة والحكام، فأخرج الحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استعمل رجلاً من عصابة وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين" وعند البيهقي والطبراني عن ابن عباس أيضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استعمل عاملاً من المسلمين وهو يعلم أن فيهم أولى بذلك منه وأعلم بكتاب الله وسنة نبيه فقد خان الله ورسوله وجميع المسلمين" وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "من ولي من أمر المسلمين شيئًا فولى رجلاً لمودة أو قرابة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمسلمين".

 

وَتَذَكَّرُوا إخوة الإسلام أنَّ قَطِيعةَ الرَّحِمِ مِنَ الكَبَائِر، فَلَو كانتْ رَحِمُكَ لا تَصِلُكَ فَصِلْهَا، فَلَكَ بِذَلكَ ثَوابٌ عَظِيم، فقد قال عليه الصلاة والسلام "صِلْ مَنْ قَطَعَك"، فَخُذْ أَخِي المسلم بِيَدِ أولادِك لِيَزُورُوا أَرْحَامَهُم، لِيَزُورُوا جَدَّهُم وَجَدَّتَهُم وأعمامَهم وأخوالَهم وأولادَ أعمامِهِم وأولادَ أخوالِـهم فَيَعتَادُوا مُنْذُ الصّغَرِ على صِلَةِ الأَرحام، ولا تَقُلْ أَنَا لا يَزُورُنِي أحدٌ فَأَنَا لا أَزُورُهُم، بَلْ صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَاعْفُ عَمّن ظَلَمَك، وَأَحْسِنْ إِلى مَنْ أَسَاءَ إليك، واللهُ أكبرالله أكبر الله أكبر ولله الحمد وهوالموفقُ للصواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

------------------------

الحواشي:

(1) من مقال للشيخ محمد عبد الخطيب

المصدر: اخوان الدقهلية
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 54 مشاهدة
نشرت فى 16 نوفمبر 2011 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

321,195