هشام يوسف | 14-11-2011 23:44

‬في‮ ‬محاولة لسبر أغوار المشروع الثقافي‮ ‬للويس عوض بمناسبة مرور21‮ ‬عامًا على رحيله، ‮ ‬ذي‮ ‬العقلية التي‮ ‬فجَّرت العديد من‮ الإشكالات‮، وأثارت العديد من الأسئلة التي‮ ‬أرَّقت الوعي‮ ‬العام الإسلامي، بله أدمته، واعتدت عليه؛ هل‮ ‬يمكن الاعتداد بالمؤثرات السلبية التي‮ ‬حدثت له في‮ ‬الحكم على‮ طروحاته‮..‬بمعنى آخر هل‮ ‬يمكن استبعاد الملاحقات التي‮ ‬حدثت له بسبب آرائه من الحكم على نتاجه ومشروعه الثقافي؟

 

فالرجل بالرغم من مناداته الدائمة بالثورة، وولعه الشديد بها، وكراهيته لنظام ما قبل الثورة، وحينما تسلمت الأخيرة مقاليد الحكم، سرعان ما اصطدم بها؛ ففصلته من عمله؛ واعتقل باسم العروبة ومنع من الكتابة باسم التراث‮‬، فضلاً‮ ‬عن ملاحقة آرائه باعتباره قبطيًا‮ ‬ينتمي‮ ‬إلى أقلية دينية!

 

والسؤال كما‮ ‬يطرحه دائمًا تلامذته‮..‬ألم‮ ‬يكن من حقه أن‮ ‬ينظر إلى تراثنا ولغتنا وعاداتنا وتقاليدنا بغضب‮ ‬منَّا وأحيانًا بهروبية توهمية، ادَّعى فيها أنه من نسل ملوك مصر القديمة؟! وكما تساءل أحد تلامذته النجباء‮ - ‬أحمد عبد المعطي‮ ‬حجازي‮-: ‬أفلم‮ ‬يكن من حقه أن‮ ‬يضفّر لنفسه تاجًا من الأوهام‮ ‬ينتمي‮ ‬به لملوك مصر الأقدمين كما فعل المسيح منذ ألفي‮ ‬عام عام حين قال لجلاديه:إنه ملك اليهود، فضفروا له تاجًا من الأشواك؟‮!‬

 

وهل حقًا الذين اجتهدوا في‮ ‬الطعن‮ ‬على لويس عوض وألحوا في‮ ‬إبعاده وضربوا عليه بعد رحيله سياجًا كثيفًا من التجاهل والصمت‮ ‬لم‮ ‬يظلموا أنفسهم‮ ‬بذلك أم‮ ‬يظلموا أجيالنا الجديدة التي‮ ‬لم تقرأ لويس عوض، وكان‮ ‬يجب أن تقرأه؛ لتنتفع بعلمه وثقافته ومواهبه وتجاربه؟

 

كل هذه الأسئلة لاحت في‮ ‬ذهني‮ ‬وأنا أتابع ما أقدم عليه المجلس الأعلى للثقافة في‮ ‬مصر بتنظيم‮ ‬ندوة دولية على مدار ثلاثة أيام، بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيله، اشترك فيها حوالي‮ ‬خمسين باحثًا‮ ‬خصصت للنقاش حول‮ (‬المشروع الثقافي‮ ‬لويس عوض‮) ‬بوصفه واحدًا من الشخصيات الثقافية الأكثر جدلاً‮ ‬واختلافًا فيما‮ ‬يتعلق بمنجزه الأدبي‮ ‬والفكري، افتقرت معظم أوراقها للعمق والتحليل، واكتفت باستعراض دور لويس عوض في‮ ‬هذا الجانب أو ذاك‮.. ‬وهذه إشارات سريعة للمحاولات الحثيثة لاقتلاع اللغة العربية وتقويض تراثها والشك في‮ ‬إبداعاتنا على مرّ‮ ‬العصور‮، وهي‮ ‬في‮ ‬معظمها كانت الشغل الشاغل‮ لما‮ ‬يسمى بمشروع لويس عوض‮ ‬الثقافي‮.‬

 

تيار التغريب

 

لا يمكن الحكم على مشروع لويس عوض الثقافي‮ ‬بعيدًا عن تيار بعينه وهو التيار السلبي‮ ‬في‮ ‬ثقافتنا‮ (‬التغريب‮)، ‬الذي‮ ‬انتصر لادعاءات المستشرقين وأكاذيبهم وتبنى طروحاتهم‮‬، وكان بمثابة الطابور الخامس؛ فحينما رحل المستعمر من مصر‮ - ‬ومعظم البلاد العربية والإسلامية‮- ‬لم‮ ‬يرحل إلا‮ ‬بجسمه واسمه، بينما وترك فكره؛ فلم‮ ‬يعد هوجو أو ميشيل أو فيكتور، ‮ ‬بل أضحى من بنى جلدتنا‮ ‬يعيش بين ظهرانينا‮‬، ‮ ‬يأكل مما نأكل‮، ‮ ‬ويحيا حياتنا ويتنفس هواءنا، ‮ ‬يحاول تدميرنا والإجهاز على لغتنا‮ ‬وتراثنا وبقائنا بل وإبداعنا في‮ ‬معركة البقاء‮ ! ‬حيث ظهر‮ ‬في‮ ‬البداية العقوق الفكري‮ ‬والعلمي‮ ‬والأدبي‮ ‬عبر تلامذة المستشرقين‮، ‮ ‬ومتسولي‮ ‬العبث باسم الحضارة وفي‮ ‬مصر بدأت الدعوة قُطرية وضيقة للنهضة‮‬، ‮ ‬من اهتمامات فكرية أضيق‮‬، ‮ ‬فنادى أصحابها بتمصير الفنون والآداب‮ (‬لا تعريبها‮)؛ ‬فالتمصير هيو: ‬دعوة عذبة ظاهرها الرحمة وباطنها أعاذنا الله منها‮ ! اقتفى التلامذة سير الأساتذة‮‬، ‮ ‬وأخذوا على عاتقهم تأليف وترجمة الآداب والعلوم الأخرى بالعامية المصرية‮‬، ‮ ‬وأول من بدأ ذلك محمد عثمان جلال‮‬، ‮‬الذي‮ ‬ترجم روايات فرنسية إلى العامية المصرية‮، ‮‬واقتفى أثره الدكتور لويس عوض‮، ‮أحد أقطاب التغريبيين الممكنين في‮ ‬مصر‮ حينذاك بجريدة‮ (‬الأهرام)‮، ‬كبرى الصحف في‮ ‬الوطن العربي..!

ورافق‮ ‬كتابه ‮(‬مذكرات طالب بعثه‮) ‬ظهور جيل‮ ‬يدَّعي‮ ‬التبديد لا التجديد‮‬، ‮ ‬محاولا ـ بكل ما أوتي‮ ‬من قوة أن‮ ‬يمحو التاريخ والتراث‮‬، ‮ ‬ولا يدخر جهدًا في‮ ‬مهاجمة كل قديم وتراثي‮، ‮حتى على المقدسات‮.. !‬

 

و‮‬يعترف لويس عوض في‮ ‬مقدمة كتابه (ثورة الفكر في‮ ‬عصر النهضة الأوروبية‮) ‬الذي‮ ‬صدرعام1987م عن مركز الأهرام للترجمة والنشر، بولعه وعشقه للغرب الذي‮ ‬أحيانًا كان‮ ‬يلجأ إلى أدواته الفكرية لحل معضلات الشرق‮ ‬المتخلفة، يقول‮: «‬كنا في‮ ‬جيلي، كلما رأينا‮ ‬قصورًا في‮ ‬الحياة المصرية‮‬، ننظر وراءنا في‮ ‬غضب ونبحث عن الحلول في‮ ‬التاريخ الأوروبي‮ ‬منذ عصر الثورة الفرنسية، أي‮ ‬منذ عام‮ ‬1789م بقصد الاستفادة من تجارب الأمم الأخرى ولكن‮ ‬يبدو أن حركة المجتمع العربي‮ ‬تدفعنا الآن إلى التراجع قرونًا إلى الوراء حتى تجعلنا نقترب إلى العصور الوسطى، تدفعنا إلى‮ نحو عام‮ ‬1500‮ ‬أو ربما قبل ذلك في‮ ‬بعض الأمور وهكذا‮ ‬غدا علينا أن نرى كيف خرجت أوروبا الحديثة من العصور الوسطى بينما كتب على عالمنا العربي‮ ‬أن‮ ‬يطول مخاضه وأن‮ ‬يتعسر فيه ميلاد الحياة الجديدة، وكلما تجدد في‮ ‬أوصاله أكسير الصحة والنماء حاصرته جراثيم المرض والهزال‮...»!‬

وهذه الفقرة تضيء لنا جوانب كثيرة من هذا الفصيل الكاره لتراثنا ولن نلجأ إلى استشهادات العديد منهم على التأكيد لجحود ونكران هؤلاء لثقافتنا بعدما أصبحوا‮ ‬غربيي القلب والقالب؛ فهم لا‮ ‬يلجئون‮ ‬إلى‭ ‬تهويمات الحرباء‮‬، ‬وحيل الثعالب في‮ ‬الكشف عن مضمونهم الآثم و‬قناعهم القبيح‮.

 

بلوتولاند‮ (‬أرض الذهب‮)‬

 

وربما جاءت‮ ‬محاولة‮ ‬ديوانه الشعري‮ (‬بلوتولاند)‮ ‬للدكتور لويس عوض بوصفه رائدًا شعوبيًا ضالعًا في‮ ‬الدعوة إلى تحطيم‮ ‬عمود الشعر العرب، وما‮ ‬ينبغي‮ ‬أن‮ ‬ينظر إليه‮ ‬باعتباره‮ ‬الأب الروحي‮ ‬للخطاب الشعوبي‮ ‬المعاصر وبخاصة في‮ ‬مجال الأدب والثقافة‮ ‬، وليس‮ ‬يوسف الخال وسعيد عقل‮ ‬، وأدونيس سوى مرددين لهذا الخطاب ومنتفعين به ليس أكثر‮ !

 

وربما يكون لويس عوض ليس أول من نادى بتحطيم اللغة، ولن‮ ‬يكون آخرهم، وهذا ليس دفاعًا عن صنم تهاوى؛ بل حقيقة واقعة‮ ‬يؤكدها التاريخ؛ فقد سبقته محاولات ومحاولات تهدف إلى تكفين اللغة العربية‮، وقد‮ ‬يكون هو ذاته حلقة‮ ‬ضمن الحلقات المحبوكة النسج في‮ ‬هذا المجال حيث‮ ‬كان‮ ‬‮ ‬مشرفًا ردحًا من الزمن على صفحة الأدب‮ ‬بصحيفة الأهرام‮ ‬، ‮ ‬وكان‮ ‬من أشد المتحمسين لفكرة‮ ‬الشعر الحر والكتابة بالعامية، ‮ ‬ويعد من الأسباب التي‮ ‬بسببه ذاع هذا اللون من الشعر؛ إذ كان‮ ‬يجبر كثيرًا من الشعراء على الكتابة بهذا اللون‮‬، ‮ ‬حيث لا‮ ‬يسمح بنشر الشعر‮ ‬غير الشعر المرسل الحر‮ !‬

 

بالإضافة إلى ما‮ ‬يعرف عنه‮ ‬من عداوة للأديان‮ ‬عامة والإسلام خصوصًا؛ حيث كان‮ ‬يفتخر بأنه علماني، فإنه قاد تيارًا من‮ ‬المستغربين الذين أبوا إلا أن‮ ‬يعلنوها حربًا على الفصحى ولغتنا العذبة‮، ‮فألف كتابًا عن سيرته الذاتية بالعامية وعمل على نشرها وأسماها‮ (مذكرات طالب بعثة)‮‬، كما نظم شعرًا عاميًا مع أنه باعترافه ليس بشاعر لأجل هدف مضمر في‮ ‬نفسه‮، ‮ ‬وأصدر ديوان‮ (بلوتولاند)‮، ووضع له هذا العنوان المثير‮: (حطِّموا عمود الشعر‮)!‬

 

و(بلوتولاند‮) ‬ديوان صغير‮ ‬الحجم والقيمة‮‬، يضم بضع عشرة قصيدة بالإضافة إلى عدة مقطوعات‮‬، نظمها لويس عوض بين‮ عام‮ ‬1938‮ ‬حين سافر مبعوثًا إلى جامعة كمبردج، وعام‮ ‬1940م حين اضطر إلى أن‮ ‬يقطع بعثته بعد‮ ‬نشوب الحرب العالمية الثانية. واسم الديوان مأخوذ من الكلمة اليونانية بلوتون أي‮ ‬الغني‮‬، واهب الثروة، وهي‮ ‬صفة لأساطير‮ ‬يونانية مضافة إليها كلمة لاند الإنجليزية التي‮ ‬تعني‮ ‬الأرض أو البلاد؛ فبلوتولاند تعني‮ ‬مملكة الذهب أو حضارة المادة التي‮ ‬حلت في‮ ‬هذا العصر محل حضارة العقل والروح، فالحضارة الصناعية والرأسمالية حضارة جهنمية، كما كان‮ ‬يتصورها لويس المتحمس آنذاك للفكرة الماركسية، وقد أعرب جابر عصفور، الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة والآداب في‮ ‬مصر‮، ووزير الثقافة الأسبق - ‬أحد تلامذة‮ ‬غير المأسوف عليه‮- ‬عن اعتقاده بأن مقدمة بلوتولاند‮ ‬، لا يكتبها إلا شخص ماركسي‮ ‬وهي‮ ‬التهمة التي‮ ‬اعتقلته السلطات المصرية بموجبها في‮ ‬عام‮ ‬1959م‮..‬!

 

وقد اعترف أحد تلامذته‮‬ـ‮ ‬غالي‮ ‬شكري‮ـ‮ ‬أنه طبع من كتابه‮ (‬بلوتولاند)‮‬هذا‮ ‬ألف نسخة لم‮ ‬يستطع توزيعها إلا عن طريق أصدقائه باليد‮ .. ‬يعني‮ ‬بسيف الحياء‮!‬حيث‮ ‬‮‬كان‮ ‬يوِّجه الحياة الثقافية‮‬، ‮وهي‮ ‬تخضع للأحكام العرفية‮‬، ‮‬وكل وسائل الإعلام‮‬، ‮فضلاً‮ ‬عن أنها مؤممة تحت الرقابة العتيقة الصارمة، ‮‬يصنع ذلك من خلال موقعين مهمين‮‬، ‮ ‬وخطيرين‮، ‮أولهما‮: ‬كمستشار ثقافي‮ ‬لصحيفة الأهرام أيام حسنين هيكل، ‮وكانت الأهرام‮ ‬يومئذٍ‮ ‬مركز قوة في‮ ‬المجالات كافة‮‬، ‮والصحيفة الأولى في‮ ‬العالم العربي‮ ‬بلا استثناء‮. ‬والموقع الثاني‮: ‬كشخص مُقَّرب جدًا من الدكتور ثروت عكاشة صديقًا أو مستشارًا أو كليهما معًا‮، ‬وكان وقتها الدكتور عكاشة‮‬، ‬يهيمن على كل جوانب الثقافة في‮ ‬مصر بوصفه وزيرًا لها‮، ‬وللمكانة التي‮ ‬يتمتع بها لقربه من الرئيس جمال عبد الناصر، ‮ ‬من هذين الموقعين بدأ لويس عوض‮ ‬يمارس تأثيرًا قويًا في‮ ‬الحياة الثقافية بروح متعصبة‮ وبغيضة، يحرِّكه كرهه الذي‮ ‬ُجبل عليه لكل ما هو عربي‮ ‬وإسلامي؛ فحال دون أي‮ ‬شاعر عمودي‮ ‬وبين أن‮ ‬يجد طريقه إلى وسائل الإعلام والنشر في‮ ‬الإذاعة والصحافة‮، ‮ ‬وأصبح المجال واسعًا عريضًا لكل مَنْ‮ ‬يكتب الشعر الحر لا العمودي‮ ‬وهكذا أفلح في‮ ‬دعوته نوعًا ما‮.‬

 

معارك البقاء

 

وقد قيّض الله‮ ‬تعالى لهذا الدين وهذه اللغة رجالاً‮‬، ‮رفعوا شأنها في‮ ‬معركة حامية الوطيس بين صبيان الغزو الفكر، ‮ ‬وأبناء الثقافة العربية الأصيلة، ‮‬وذاد في‮ ‬هذه الحومة عن الدين والتراث والعربية والأصالة مصطفى صادق الرافعي‮ ‬الذي‮ ‬ألَّف كتابه‮ (‬تحت راية القرآن‮)‬، ‮ ‬الذي‮ ‬شن فيه‮ ‬غارة شعواء على تلميذ المستشرقين المدلل طه حسين وكتابه في‮ ‬الشعر الجاهلي‮، ‮ ‬وسَخِر الرافعي‮ ‬في‮ ‬هذه المعركة التي‮ ‬تشحذ فيها الأقلام لا السيوف‮ ‬من هؤلاء‮ (‬المجددين)‮، ‬الذين‮ ‬يريدون أن‮ ‬يجددوا الدين واللغة‮‬، ‮‬والشمس والقمر‮!‬

 

وحينما زعم لويس عوض أن‮ ‬فكر أبي‮ ‬العلاء المعري‮ ‬وفلسفته ليست أصيلة عنده، وإنما مأخوذة‮ عن فكر أجنبي‮‬، ما يعني‮ ‬أن العبقرية العربية ليست عبقرية‮ ‬مبدعة وخلاقة وإنما عبقرية تابعة وناقلة وغيرها من الادعاءات‮ ‬ضد الإسلام والعروبة التي‮ نضحت بها كتاباته‮؛ تصدى‮ ‬المفكر الإسلامي‮ ‬الكبير محمود شاكر لمحاولات لويس عوض‮ ‬التشكيك في‮ ‬دين المعري‮ ‬وفي‮ ‬أصالة الثقافة العربية بوجه عام‮ ‬وأجهضها في‮ ‬حينها، وكشف فيها‮ ‬أيضًا حقيقة تيار التغريب والمستغربين وخطورة الأخذ من المستشرقين في‮ ‬كتابه القيم‮ (‬أباطيل وأسمار‮)‬، وهو ما اعترف به لويس عوض نفسه عندما جمع مقالاته التي‮ ‬كتبها عن المعري‮ ‬في‮ ‬كتاب، وقال‮ :‬إنه لولا شدة الأستاذ محمود شاكر في‮ ‬مناقشته لأفاد من علمه وتحقيقه كثيرًا؛ إذ‮ ‬يعيب لويس عوض وسيلة محمود شاكر ولا يعيب‮ ‬علمه ولا تحقيقه‮!‬

 

وإذا كان‮ ‬دعاة التنوير‮ ‬ينعون بعد ذلك على‮ ‬المحافظين المنافحين، والمرابطين عن‮ ‬الإسلام والتراث والعربية‮- ‬رسمهم صورة لويس عوض في‮ ‬صورة العميل المخرّب، الذي‮ ‬دربه الأجانب لإفساد العروبة وتشويه الإسلام وتدمير التراث العربي، سيما وأنه دعا إلى القضاء‮ على اللغة العربية‮‬، ‮باعتبارها لغة ميتةً! واستبدالها‮ ‬بالعامية، ‮ ‬والكثير من مثل هذه الادعاءات الكاذبة والمستفزة‮..‬

 

و‮يبدو أن تلامذته لم تعجبهم تحليلات المحافظين والمنافحين عن تراثنا الإسلامي‮ ‬والعربي، فصبوا جام‮ ‬غضبهم للذود عن حياض الأفكار الطليعية لهذا الجهبذ ودعواته الجريئة التي‮ ‬لم‮ ‬يسبقه أحد إليها‮، وأنكروا على حملة العلامة والمحقق الكبير محمود شاكر، حدتها وتحاملها واتهامها للنوايا، وإثارتها للنزعات الطائفية الخامدة حسب زعمهم، ولجوئها إلى تحريض العوام واستعداء السلطات، وهي‮ ‬حجج واهية وفاشلة‮ ‬، طالما ألقوها حينما تخور قواهم ويضعف موقفهم‮!‬

 

فالثابت أن لويس عوض؛ كرَّس‮ ‬مشروعه الثقافي‮ ‬ونذر نفسه لمهاجمة الإسلام والسخرية من التراث العربي‮ ‬والإسلامي‮ ‬وحط من قدر رموزه عبر التاريخ‮ ..‬المعري‮ ‬وابن خلدون وخطَّأ فرضية القومية العربية وقصره على الجزيرة العربية وحسب، وفي‮ ‬الوقت الذي‮ ‬جعل من (المعلم‮ ‬يعقوب‮)‬، الخائن الذي‮ ‬تعاون مع الحملة الفرنسية ضد مواطنيه المصريين‮- ‬أول‮ ‬مشروع لاستقلال مصر في‮ ‬العصر الحديث‮( ‬لعله‮ ‬يقصد استقلال الأقباط‮!)‬- حيث ردّ‮ ‬في‮ ‬كتابه‮ ( ‬مقدمه في‮ ‬فقه اللغة العربية‮) ‬اللغة العربية إلى شجرة اللغات‮ ‬الهند‮ - ‬أوروبية؛ ورأى في‮ ‬العلمانية حلاً‮ ‬عمليًا لمصر وطوق النجاة لمأزق الأقلية القبطية، رافضًا في‮ ‬الوقت نفسه الرابطتين الإسلامية والعربية‮!

 

ويرجع ذلك في‮ ‬رأي‮ ‬أحد الرفاق‮(‬أحمد عباس صالح‮) ‬إلى أن لويس عوض كان واحدًا من أبناء ثورة‮ ‬1919م التي‮ ‬تمركزت أفكارهم حول الاستقلال والديمقراطية والاتجاه العلماني‮ ‬وهو ما جعله واثقًا من أن تطورات عصر النهضة التي‮ ‬حدثت في‮ ‬أوروبا من الممكن أن تتحقق في‮ ‬مصر وبنفس الطريقة‮، ولهذا تعمق في‮ ‬دراسة أدب أوروبا القديم الذين نقلها من عصور الظلام إلى العصر الحديث، واهتم بالانتقال من التفكير الثيوقراطي ‬إلى التفكير الإنساني‮ ‬الذي‮ ‬يعنى بتحرر العقل من الأفكار المسبقة‮! ‬وبذلك أصبح لويس عوض امتدادًا للمشروع الفكري‮ ‬العلماني‮ ‬الذي‮ ‬بدأ بالطهطاوي، ووصل‮ - ‬قبله‮ - ‬طه حسين‮!‬

 

وأخيرًا وليس آخرًا فقد لخَّص الشاعر كامل أمين، ‬ما‮ ‬يمكن‮ ‬أن‮ ‬يقال عن‮ ‬لويس عوض‮، حيث هجاه في‮ ‬قصيدة بعنوان‮ ( ‬الثعبان‮)‬، نشرتها له مجلة الثقافة الأسبوعية المصرية‮ ‬في26‮ ‬سبتمبر1974م‮ :‬

 

وأحول في‮ ‬عينيه شرق ومغرب

عدو لدود للعروبة‮ ‬ينعب

إذا مر بالأرواح صوح بنتها

‮ ‬فيا أعجميًا في‮ (‬تميم‮) ‬و(مازن‮)‬

تعرب كالمستشرقين تراثنا

فتحت كلامًا لا أرى فيه ثاويًا

تعيث بفكر الغرب فيه وتدعي

إذا ذكر الشعر العمودي‮ ‬ظنه

يدل انزواء الضاد في‮ ‬آخر اسمه

وما اختار أقصى الاسم عفوًا وصدفة

يقولان عنه إنه مذبذب

وأي‮ ‬غراب البلابل‮ ‬يطرب

وإن أبصرته‮ ‬الشمس في‮ ‬الشرق تغرب

لسانك‮ (‬لاتيني‮) ‬وجهلك‮ ‬يعرب

واسمك لوعربته لا يعرب

سواك ولا بوقًا خلافك‮ ‬يندب

بها كل أعلام العروبة تكتب

به ثورة التجديد وهي‮ ‬تخرب‮ ‬

عمودًا حديديا به سوف‮ ‬يضرب‮ ‬

‮ ‬على أنه‮ ‬فيه‮ ‬غريب ومتعب

‮ ‬ولكن مُناه أنه‮ ‬منه ...!

 

وبإمكاننا القول‮: ‬إن الذين اجتهدوا في‮ ‬الطعن‮ ‬على لويس عوض‮ ‬وألحوا في‮ ‬إبعاده وضربوا عليه بعد رحيله سياجًا كثيفًا من التجاهل والصمت‮ ‬لم‮ ‬يظلموا أنفسهم‮ ‬بذلك وأيضًا لم‮ ‬يظلموا أجيالنا الجديدة التي‮ ‬لم تقرأ لويس عوض باعتباره شعوبيًا وفئويًا وابنًا عاقًا لثقافة هي‮ ‬أكثر الثقافات العالمية عطاءً‮ ‬و تسامحًا وقوةً‮ ‬وغزارةً‮ ‬وإبداعًا جنبًا إلى جنب مع وعائها‮ (‬العربية‮) ‬التي‮ ‬لم ترُق لمثل هذه الرؤية الجاحدة؛ فعلمه وثقافته ومواهبه وتجاربه، لن تنبت في‮ ‬أرض العربية؛ لأنها‮ ‬طفيليات سرعان ما ستتهاوى عند أول محك فعلي‮ ‬لها‮..{‬فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما‮ ‬ينفع الناس فيمكث في‮ ‬الأرض‮..}.

 

والحمد لله ..‬

المصدر: المصريون
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 68 مشاهدة
نشرت فى 15 نوفمبر 2011 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

321,269