د.جمال نصار | 30-10-2011 00:51

على الرغم من أن الله تعالى قادر على كل شيء، وإذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون إلا أنه سبحانه وتعالى أعد للمتقين جنات، وأعد للكافرين نيرانًا، أعد للمؤمنين في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأعد للكافرين في النار عذابًا أليمًا، عذابًا مهينًا، وأعد لهم سعيرًا، وهذا الإعداد ليس له عز وجل حاجة فيه، لكنه سبحانه وتعالى يريد أن يرسي مبدأ عند عباده المؤمنين: أن أعدوا لكل شيء عدته ولا تتواكلوا؛ لأن لله في خلقه سنن لا تتبدل ولا تتغير: )فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلا( (فاطر: 43). إذن فالإعداد ليس من شأن البشر فحسب، وإنما هو أيضًا من شأن الله تبارك وتعالى.

وكان حال النبي صلى الله عليه وسلم نموذجًا لتطبيق هذه السنن في الأرض، وكان مثالا يُحتذى به حقًا في الأخذ بالأسباب مع توكله على الله عز وجل حق التوكل، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: كان صلى الله عليه وسلم يتوكل على الله حتى نقول: إنه لا يأخذ بالأسباب، ويأخذ بالأسباب حتى نقول: إنه لا يتوكل على الله تعالى. وهذا من تمام توكله صلى الله عليه وسلم.

والثابت عنه أنه صلى الله عليه وسلم ظاهر في الحرب بَيْن دِرْعَيْنِ، وَلَبِسَ عَلَى رَأْسه الْمِغْفَر، وَأَقْعَدَ الرُّمَاة عَلَى فَم الشِّعَبِ، وَخَنْدَقَ حَوْل الْمَدِينَة، وَأَذِنَ فِي الْهِجْرَة إِلَى الْحَبَشَة وَإِلَى الْمَدِينَة، وَهَاجَرَ هُوَ، وَتَعَاطَى أَسْبَاب الْأَكْل وَالشُّرْب، وَادَّخَرَ لِأَهْلِهِ قُوتَهُمْ وَلَمْ يَنْتَظِر أَنْ يَنْزِل عَلَيْهِ مِنْ السَّمَاء، وَهُوَ كَانَ أَحَقّ الْخَلْق أَنْ يَحْصُل لَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ الَّذِي سَأَلَهُ: أَعْقِل نَاقَتِي أَوْ أَدَعهَا؟ قَالَ: "اِعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ" فَأَشَارَ إِلَى أَنَّ الِاحْتِرَاز لا يَدْفَع التَّوَكُّل". قاله الطبري.

وقد أمر الله المؤمنين بالإعداد، ليس الإعداد فحسب، بل طلب كمال الإعداد حتى لا يبقى في مقدور العباد شيئًا لم يفعلوه، فقال: )وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) (الأنفال: 60).

نزلت هذه الآية بالمدينة، عقب الحديث عن غزوة بدر الكبرى، التي فصلت بين الحق والباطل، وقد كانت موازين الحرب في هذه الغزوة مختلة إذا ما قيست بالمقاييس الدنيوية من حيث العدد والعدة، فقد قصد المسلمون الكفار بلا آلة ولا عدة، وكأن الله عز وجل أرد أن يقول للمؤمنين: إذا أردتم أن تنتصروا في قابل أمركم على أعدائكم فعليكم أن تعدوا العدة ولا تزنوا الأمور بميزان بدر، ولا تركنوا إلى ما حدث في معركة بدر من نصر؛ لأنها كانت المعركة الأولى بين الحق والباطل، ولم يكن خروجكم للحرب وإنما كان للعير، لكنني أردت أمرًا )وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا) (النساء: 47، الأحزاب: 37) فكتبت لكم النصر وإن لم تتحقق أسبابه المادية.

يقول الرازي: والمراد بالقوة هاهنا: ما يكون سببًا لحصول القوة فيشمل الأسلحة بأنواعها. وقد يكون المقصود بالقوة القوة الحربية، روي أنه صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر وقال: «ألا إن القوة الرمي» قالها ثلاثًا. وقد تتمثل في قوة الحصون، وقد تكون عامة في كل ما يتقوى به على حرب العدو، وكل ما هو آلة للغزو والجهاد فهو من جملة القوة. وقوله عليه الصلاة والسلام : «القوة هي الرمي» لا ينفي كون غير الرمي معتبرًا، كما أن قوله عليه الصلاة والسلام : «الحج عرفة» و «الندم توبة» لا ينفي اعتبار غيره، بل يدل على أن هذا المذكور جزء شريف من المقصود فكذا هاهنا، وهذه الآية تدل على أن الاستعداد للجهاد بالنبل والسلاح وتعليم الفروسية والرمي فريضة، وهي آلات الحرب آنذاك، فيصبح الفرض في عصرنا الاستعداد بالصواريخ والقنابل والطائرات.

والظاهر من كلام الإمام الرازي أن القوة المقصودة هي القوة الحربية، وهذا يتفق مع سبب النزول وزمنه، إلا أنه ليست العبرة في خصوص السبب ولكن العبرة في عموم اللفظ، وقد أصبحت اليوم القوة الحربية - وإن كانت مهمة - آخر القوى التي يجب على المسلمين إعدادها، فعلى المسلمين إعداد القوة العلمية، والقوة الصناعية، والقوة الاقتصادية، والقوة الزراعية، والقوة النووية، والقوة المعدنية، والقوة الحربية والقوة الاجتماعية ... إلخ.

ولا يفوتنا في هذا المقام أن نؤكد على نوع خاص من القوة، وهو القوة الروحية والإيمانية التي تتمثل في الإخلاص وحسن التوجه إلى الله والأخلاق الربانية وطاعة الله ورسوله، فليست قوتنا - نحن المسلمين - القوة المادية فحسب.

ففي مطلع القرن الثاني للهجرة رفض ملك سجستان أداء الخراج لعمال بني أمية؛ فأغاروا عليه الغارات ولكنه لم يخضع، وفي عهد الخليفة يزيد بن عبد الملك بعث إليه وفدًا يطالبونه به، فلما حضره الوفد سألهم رتبيل (ملك سجستان): أين القوم الذين كانوا يأتوننا قبلكم، كانوا ضامري البطون من الجوع، يلبسون نعال الخوص، وسيماهم في وجوههم من أثر السجود؟ فقال رجال الوفد: قد مضوا. فقال لهم رتبيل: إنكم لا شك أنضر منهم وجوهًا ولكنهم أصدق منكم وعدًا وأشد بأسًا. فقد بين رتبيل - وهو عدو الإسلام - الحقيقة للمسلمين، وهي أن القوة ليست في عدد الجيوش ولا في الأسلحة الكثيرة، ولا في شِبع البطون، بل قوتها في الخلق الفاضل، والسيرة الطيبة والمعاملة الحسنة، وظهر ذلك في قوله: "أصدق منكم قولا" والأمل البعيد في النصر ويظهر ذلك أيضًا في قوله: "وأشد منكم بأسًا" وهذه هي حقيقة الإسلام.

ولا غَرْو أننا نعيش اليوم في زمن منطق القوة، لا قوة المنطق. في زمن ليس فيه مكان للضعيف، أو قل - إن شئت - إن مكانه لا يختلف كثيرًا عن مكان الأمتعة، ينقلها القوي حيث شاء، فالضعيف في حد ذاته يغري القوي بالاعتداء عليه، والقوة ليست هي السبب، وإنما السبب الضعف يشجع القوي على الاعتداء على الضعفاء، فلا ينبغي أن نلوم القوي على قوته وطغيانه، ولكن ينبغي أن نلوم أنفسنا على ضعفنا؛ لأن الضعف هو الذي يغري القوي، فيغتر بقوته على الضعيف.

إن قصة الحياة على الأرض هي قصة صراع بين الحق والباطل، منذ أن خُلِق آدم إلى قيام الساعة.

وهذا الصراع هو سنة من سنن الله في الكون. وهذا الصراع ليس صراع القوة والعضلات فحسب، وإنما هو أيضًا صراع الفكر والمبادئ، والإرادة والعمل، والمنافسة والتطور، صراع المصنع والمتجر والمزرعة والملعب ... الحياة كلها صراع.

ولكل صراع قوانينه وأدواته حتى الصراع على استضافة المونديال، ولا بد لكي ننجح في أي صراع أن نتقن أدواته.

مدير المركز الحضاري للدراسات المستقبلية

[email protected]

 

المصدر: المصريون
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 49 مشاهدة
نشرت فى 30 أكتوبر 2011 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

309,696