المشهد الإعلامي فى مصر يتسم بنوع من العبثية الواضحة التى لا تخفى على القارئ الواعى، ناهيك عن المراقب والمحلل.. ولأنها عبثية غبية، فيها استهانة بعقول الناس سمّيْتُها تهريجا.. ولست أجد لها وصفا أفضل من هذا الوصف.. إقرأ معى هذه الأخبار:

الخبر الأول: جاء على لسان الدكتورأحمد البرعى وزير القوى العاملة قال:
" إن الحكومة ورثت عن الحكومات السابقة 136 مليار جنيه عجزا في الموازنة، بجانب ضياع 436 مليار جنيه من أموال التأمينات، بالإضافة إلى تزايد الدين الداخلي الذي وصل إلى أكثر من تريليون جنيه.."
ثم اقرأ هذا الخبر على لسان وزير آخر فى نفس الحكومة هو حازم الببلاوى وزير المالية (وبعد يومين اثنين) فقط.. يقول: " إن أموال التأمينات آمنة والدين العام بلغ تريليون جنيه فقط.." وينفى صحة ما تردد حول ضياع 436 مليار جنيه من أموال التأمينات والمعاشات.".
وأقول: إذا لم يكن وزير القوى العاملة قد أدلى بهذا الكلام فعلا للصحافة، وإذا كان وزير المالية من جانبه لم يردّ عليه بما نشر بعد ذلك على لسانه.. فنحن أمام تهريج إعلامي من العيار الثقيل.. أما إذا كان الخبر الإعلامي عن كلام الرجلين صحيحا فنحن أمام تهريج سياسي من عيار أثقل...!
فالمشهد الذى أمامنا يتضمن أن وزيرين من حكومة واحدة يتحدّثان عن موضوع واحد: أحدهما يثبت ويحذر من كارثة مالية توشك أن تحل بالبلاد.. والآخر ينفى ويحاول أن يطمئن الناس على الأوضاع المالية والإقتصادية فى مصر.. مع أنه لم ينف حقيقة أن الدين العام قد بلغ تريليون جنيها وليس أكثر...! لذلك أكدت وزارة المالية، في بيان لها، أنها حريصة على توضيح كافة الحقائق أمام الراى العام، ومن منطلق الشفافية والحرص على عدم تأثر الاقتصاد القومي سلبا بسبب تلك الأخبار والتقارير المغلوطة، وحمايةً لاستقرار المجتمع في هذه الظروف التي تمر بها الدولة...
أنا أفهم أن تردّ وزارة المالية على أخبار وتقارير صادرة من جهات غير مسئولة.. ولكن أن تصدر هذه الأخبار من وزير فى نفس الحكومة فهذا هو التهريج بعينه.. فلابد أن يكون احد الوزيرين كاذبا أو مهرّجا...
الخبر الثانى: فى يوم ١١ سبتمبر الماضى، تحدثت الأهرام فى صفحتها الأولى عن تفاصيل خطيرة عن ثورة مضادة وأصابع خارجية تستهدف [إسقاط مصر].. هذه التفاصيل الخطيرة جاءت على لسان وزير العدل، الذى قال: "إنه تلقى تقريرا خطيرا بشأن تورُّط عدد من الدول المجاورة لمصر فى تقديم مبالغ مالية تفوق التصوّر.. تُقدَّر بالملايين من الجنيهات.. لبعض الجمعيات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدنى".. وقال: " إن ما يحدث فى الشارع المصرى تحركه بعض الأيادى الخارجية والداخلية، بهدف تخريب المنشآت العامة ومؤسسات الدولة، كما تستهدف انتهاك الأمن القومى للبلاد وترويع المواطنين".. وأضاف وزير العدل: "إن ما تشهده البلاد هو جزء من مخطط يجرى تنفيذه منذ فترة بهدف إسقاط مصر، وان ثمة أنظمة فى دول محيطة تخشى أن يتكرر لديها ما حدث فى بلادنا.." وأضاف: أن رئيس الوزراء سوف يصدر بيانا عن هذا الموضوع خلال الأيام القليلة المقبلة...!
وإن كنتُ -حقيقة- لا أفهم كيف يمكن أن تسقط مصر...؟! إلا أن كلام وزير العدل كلام خطير جدا لأنه يتضمن مؤمراتٍ وخططًا لانتهاك الأمن القومى وترويع المواطنين.. الآن وقد مضى مايقرب من شهر، والناس فى انتظار بيان أو إجراء أو موقف من جانب رئيس الوزراء حتى نعرف حقيقة هذه المؤمرات ومن يقف وراءها من أعداء الخارج وعملاء الداخل.. وماذا اتخذت الحكومة من إجراءات بصددها..؟! ولكن لا بيان .. ولا موقف ولا تكذيب للخبر ولا يحزنون.. وكأن وزير العدل كان يهرف بكلام مجانين... وهذا هو التهريج السياسي بجدارة...!
ليس فقط لأن الكلام صادر من وزير فى أعلى سلم المسئولية وفى صميم واجباته.. وليس لأن رئيس الوزراء لم يعلن بيانا ولاموقفا واضحا وحاسما فى الموضوع .. ولكن لأن رئيس الوزراء صمت صمت القبور وكأن الموضوع لا يهمه.. ومن ناحية أخرى لم يحاسب وزيره على خفته وإشاعة الأكاذيب، إذا كان قد تبين له أن مايقوله وزير العدل غير صحيح .. وكان أقل شيء نتوقعه من رئيس وزراء أمين على مسئوليته تجاه الشعب هو إعفاء وزيره من منصبه لأن كلامه هو الذى روّع المواطنين بهذا التهريج السياسي غير المسئول...!
فى هذا الإطار أيضا هناك العديد من الأخبار والوقائع التى جرت وعلم الناس منها على لسان كبار المحققين الأمنيين أن هناك تقارير بل تحقيقات أثبتت وجود أناس يتآمرون ويدفعون الملايين لتجنيد صعاليك وبلطجية من الشبان، كما فى أحداث الهجوم على السفارة الإسرائيلية.. ومديرية أمن الجيزة.. وتبين من التحقيقات الأمنية تفاصيل كثيرة عن سيارات مرسيدس عُرف أن اًصحابها متورطون فى تحريض الشبان.. وأن بعضهم كان يوزع أقنعة واقية لعدد من الأشخاص خلال الأحداث المذكورة.. وأن هناك شخصية غنية صاحب مزرعة بطريق مصر إسكندرية هى التى تموّل هذه الاضطرابات وتدفع للبلطجي الواحد بين خمسة آلاف وعشرين ألف جنيه...!
وقبل هذا ثارت زوبعة إعلامية كبرى إثر تصريحات رسمية عن توزيع ملايين الدولارات الأمريكية على جهات وأشخاص فى مصر لإثارة الفوضى فيها.. وقيل لنا إن التحقيق فى هذا جارٍ وأنه سوف تعلن نتائجه ويعرف الناس من يرتشى ليخون مصر ويتآمر على تخريبها.. وغير ذلك من وقائع أخرى ثارت حولها زوابع إعلامية وسياسية وانتظر الناس نتيجة للتحقيقات وتقديم المتهمين للمحاكمات لكى تأخذ العدالة مجراها وتتخلص مصر من أعدائها فى الداخل والخارج .. ولكن لا شيء يتحرك فى البركة الآسنة.. وكما يقول المثل الشعبي: "لا حياة لمن تنادى...!"
فهل نحن أمام تهريج إعلامي..؟ أم تهريج سياسي..؟ أم أنه تهريج ذو وجهين: أعنى تهريج إعلامي هو صدًى لتهريج سياسي .. يبدأ فى السياسة وينتهى فى الإعلام.. ولا تترتب على أحد فيه مسئولية أمام هذا الشعب الذى فقد ثقته فى كل من السياسيين والإعلاميين على السواء...؟!
أعود إلى وزير المالية حازم الببلاوي مرة أخرى فى خبر يقول فيه: إن مصر تدرس حزمة قروض صندوق النقد الدولي التي رفضتها في السابق.. ثم أضاف : "إن مصر لن تغير موقفها لكنها ستغير توجّهها." تلاحظ فى هذه العبارات القليلة: انتكاسًا فى السياسات والمواقف من قروض البنك الدولي.. وكلاما مائعا مثل الذى تعوّدنا على سماعه فى زمن النظام البائد.. وإلا فما معنى "أن مصر لم تغير موقفها ولكنها ستغير توجّهها ..؟!"
راجع مقال سابق لى بعنوان "لا لقروض البنك الدولى ولا للمساعدات الأمريكية" الرابط: www.facebook.com/pages/أ-محمد-يوسف-عدس/ 172634092773782?sk

لقد حذّرت كثيرا من مخاطر قروض البنك وصندوق النقد الدوليين فى مقالات عديدة، وأثبتّ أن هذه القروض كانت وراء الكوارث والمجاعات التى حلّت بشعوب العالم الثالث.. ولكن يبدو أن الإقتصاديين التقليديين عندنا يستحيل عليهم أن يفهموا غير ما تعلموه فى جامعاتهم وعلى يد أساتذتهم الأجانب.. ولم يفهموا أن هناك ثورة ضد "القواعد الذهبية" التى حكمت الاقتصاد العالمي حقبة من الزمن.. هناك أفكار جديدة ومقتربات جديدة.. ولكن ما زال رجال الاقتصاد عندنا أسرى أفكارهم البالية.. ما زالوا يتوقعون أن يجدوا حلولا لأزماتهم عند البنك والصندوق المسحور.. غير مدركين أن نظام الإقتصاد العالمي يترنّح الآن بلا علاج ولا شفاء.. وأجدر بالبنك والصندوق أن يذهبا لعلاج كارثة أمريكا المالية فقد بلغت ديونها الآن ما يقرب من خمسة عشر تريليون دولار..
وقد بدأ الشعب الأمريكي يثور ويتظاهر ضد المتحكمين فى السياسات المالية والإقتصادية المُصمِّمةُ لخدمة حفنة من الأغنياء على حساب بقية الشعب.. مما أدّى إلى تقويض الطبقات المتوسطة.. و تحميل الفقراء وحدهم أعباء التدهور الاقتصادي.. وقد ترتب على هذا تفاقم الهوّة بين الفقراء والأغنياء السوبر..
إتخذ المتظاهرون الأمريكيون من شارع وول ستريت رمز السلطة المالية فى أمريكا مركزا لمظاهراتهم على غرار مظاهرات ميدان التحرير.. فإذا كانت أمريكا تملك علاجا لأحد فالتعالج نفسها أولا.. وهذا بالضبط ماصرّح به قادة الاتحاد الأوربي عندما حاولت أمريكا أن تقدم لهم النصيحة لتفادى انهيار اليونان وغيرها من دول الاتحاد.. قالوا لأوباما وفرّ نصائحك لنفسك.. لا حاجة لنا بها..!
وإذا كانت أمريكا جادة فعلا فى مساعدة مصر فالتساعدها (ليس بالمعونات والقروض المشبوهة) ولكن برد الأموال المنهوبة والمهرّبة فى بنوكها والتى سرقها مبارك وأسرته ووزارؤه .. وأنبه أنه يجب على مصر "وبأسرع ما يمكن" أن تعمل على استرداد الذهب المودع فى البنوك الأمريكية والأوربية وفى متاهات الدول الخليجية.. ولتكن هذه معركة مصر الحقيقية: إسترداد الذهب .. والأموال المنهوبة.. والمخفية فى البنوك الأجنبية.. فالاتجاه السائد الآن بعد أن استنفذت مرحلة طبع الأوراق المالية أغراضها بلا فائدة، أن تصدر فى أمريكا قوانين تقيّد حركة الذهب من أراضيها إلى الخارج..
من قبيل التهريج السياسي أيضا أذكر الآتى:
أولا- تبرير وزير الإعلام للهجوم بقوّات أمنية مكثّفة على مقر "الجزيرة مباشر مصر" وإيقاف البث بزعم أنها تنتهك القانون وتنتهك السيادة المصرية، علاوة على أنه تهريج مفضوح- هو انتهاك صريح لحرية الشعب فى الحصول على المعلومات.. ألم يكن أولى وأجدر بوزير الإعلام أن يوجّه إلى نفسه هذا السوال: لماذا يتجه المصريون إلى الجزيرة ويثقون فيها ولا يثقون فى فضائياتك المتعدّدة...؟!
ثانيا- تبرير امتداد العمل بقانون الطوارئ.. الذى كان من أسوأ منتجات النظام البائد.. لذلك رفضه الشعب وكان إلغاؤه ولا يزال على رأس قائمة مطالب الثورة..
ثالثا- بقاء وزارة الداخلية على حالها واستمرار جهاز مباحث أمن الدولة تحت اسم جديد.. يمارس نفس الدور الذى اعتاد عليه فى زمن المخلوع.. وفقدان الأمن فى الشارع المصري..
كل هذه مؤشّرات على حالة من العبث والتهريج السياسي.. وعلامة على مستقبل مضطرب تدفعنا إليه قهرا قوى عمياء غير ديمقراطية.. لا تتمتع بمصداقية من جماهير الشعب الغاضبة.. فحتى عندما يتم انتخاب برلمان جديد.. وتأتى حكومة جديدة منتخبة فستجد نفسها مكبّلة بأغلال متراكمة من العهد البائد.. مضافا إليها مشاكل وأزمات هائلة تفاقمت وتجذّرت فى الأرض خلال فترة الحكومة الانتقالية...
أنا لا أثبّط الهمم ولكنى أنبه الذين سيتسلمون السلطة القادمة إلى أن الطريق ليست مفروشة بالورود بل بالأشواك والألغام.. وما ذلك إلا لأن السلطة الانتقالية لم تؤدّ واجبها كما ينبغى...!
[email protected]

 

المصدر: المصريون محمد يوسف عدس | 10-10-2011 0
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 49 مشاهدة
نشرت فى 17 أكتوبر 2011 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

321,198