عائض القرني



 


ملخص الخطبة

1- بعض أقوال أهل العلم في الحجاج وبعض مظالمه. 2- قصص في مواجهة طغيان الحجاج. 3- قتلِ سعيد بن جبير. 4- التحذير من عاقبة الظلم. 5- صور من الظلم.


الخطبة الأولى

 

أيها المسلمون:

عنوان هذه الخطبة "ظالم من الدرجة الأولى" من هو هذا الظالم؟ إن التاريخ لا يظلم أحداً، إذا نقل بأيدٍ أمينة، وإن ما فعله الظالمون مسطّر في قلوب الأجيال، وهو عند ربي في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وسوف يوقفهم - سبحانه وتعالى - للقصاص يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم [الشعراء:88-89].

وهذا الظالم، سيرته تقشعر منها أبدان المؤمنين، وتدمع منها عيون الموحدين، سيرة مؤذية وقبيحة ومنتنة.

وذكره الذهبي في السير فقال: نبغضه ولا نحبه، ونعتقد أن بغضه من أوثق عرى الدين. ثم قال عنه: له حسنات منغمرة في بحار سيئاته.

وذكره ابن كثير فقال: فلان بن فلان، قبحه الله، هكذا يحكم عليه التاريخ وقد هلك منذ قرون طويلة.

ولكنه سيقدم على الله، وسيحاسب عن كل ما فعل، وعن كل ما قدم، وبما اتخذ من قرار، وبما سلب من أموال، وبما سفك من دماء، وبما أسكت من أصوات.

ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون [إبراهيم:42]. ولماذا نراهم يملأون الدنيا؟

إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار مهطعين مقنعي رؤوسهم لا يرتدّ إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء [إبراهيم:42-43].

لقد أخطأ هذا الظالم في حق الأمة الإسلامية، وظن أنه والٍ في دولة فارس أو الروم، وظلم نفسه أيضاً، ولكنه لا يستطيع أن يظلم ربه وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [البقرة:57].

سفك هذا الظالم الدماء الزكية، حجر على المفكر فكره، وعلى العالم علمه، وعلى الداعية دعوته، وعلى الأديب أدبه، وعلى المبدع إبداعه، وهذا من أعظم الظلم، الذي إذا وجد في أمة، فهو أعتى ما يمكن أن يواجهها في حياتها.

إن الظلمة قد لا يقتلون الأنفس، وإنما يقتلون المبادئ والطموحات والإبداعات والمواهب، فيستحقون بذلك غضب الله - عز وجل - وأليم عذابه إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم [آل عمران:21].

· قال بعض أهل العلم: يدخل في ذلك من قتل رسالة الناس، ودعوة الناس، وعلم الناس، وإبداع الناس، وحجر على أفكارهم، يستحق هذا العذاب، طالما أن رسالتهم للإسلام، ودعوتهم للإسلام، وعلمهم للإسلام، وإبداعهم للإسلام، وأفكارهم للإسلام.

إن هذا الظالم الذي نتحدث عنه، قتل الأصوات كلها إلا صوتاً واحداً يمدحه، ويثني عليه، ويغني له، ويسبح بحمده صباح مساء.

إن هذا الظالم الذي نتحدث عنه، قطع الأيادي كلها، إلا يداً تصفق له، أباد المواهب كلها إلا موهبة تقدسه وتعظمه.

والله إن العبد ليندى جبينه خجلاً، ويتفطّر قلبه أسى، وهو يطالع ما وصل إليه العالم الإسلامي المعاصر من تسلط الظلمة وأعداء الأمة. ووالذي نفسي بيده، للعالم الغربي على كفره، أرحم وأعدل من هؤلاء.

ونعود إلى أعظم ظالم عرفته الأمة؛ عادى العلماء لأنهم حملة حق، وصاحب السفهاء لأنهم روّاد باطل، صادم المربين واللامعين والمصلحين، وقرب المهرجين والمطبلين والفارغين.

مشكلة هذا الظالم أنه لا يستمع إلى نصيحة، ولا يقبل حواراً، ولا يحتمل معارضة.

من هو هذا الظالم؟ هل عرفتموه؟ هل مرّ بأذهانكم؟ هل سمعتم خبره؟

يقول هذا الظالم عنه نفسه، قبل أن يموت بشهر واحد: رأيت في المنام كأن القيامة قامت، وكأن الله برز على عرشه للحساب، فقتلني بكل مسلم قتلته مرة؛ إلا سعيد بن جبير قتلني به على الصراط سبعين مرة.

أتدرون كم قتل من أمة محمد، عليه الصلاة والسلام، لقد قتل منها الآلاف، وسجن الآلاف، ومنع الدعاة من الكلام، وحجر على العلماء، وأظلمت الدنيا في عهده.

خطب في الناس، وصلى بهم الجمعة، ثم مشى بجانب سجنه، فبكى السجناء، ورفعوا أصواتهم بالبكاء، عله أن يسمعهم فيرحمهم، فسمعهم، ثم قال لهم: اخسئوا فيها ولا تكلمون [المؤمنون:108].

يأتيه الشيخ الكبير، فيلعنه أمام الناس، يقوم الناصح فينصحه، فيمنعه من إلقاء الدروس والكلمات طيلة عمره.

إن الحجّاج بن يوسف الثقفي، طاغية في تاريخ الأمة.

أراد الله أن يؤدب هذه الأمة بأمثال هذه القائمة السوداء، بسبب ذنوبها، وعتوها، وبأكلها للربا، وخيانتها لميثاق الله - تعالى - فوضع هذه الكوابيس على أكتافها، لتعود إلى ربها.

دخل رجل على علي بن أبي طالب وهو خليفة فقال: يا أمير المؤمنين، ما بال الناس أطاعوا أبا بكر وعمر، ولم يطيعوك؟ قال علي: لأن رعية أبي بكر وعمر أنا وأمثالي، ورعيتي أنا، أنت وأمثالك، ولا يظلم ربك أحداً [الكهف:49].

كان الحجاج يقرأ القرآن، ويلقي الخطب الرنانة، وكان يتحدث عن العدل ويمدح نفسه بذلك، ولكن كان سيفه مشرعاً في وجه كل من يخالف، وكانت إبادته للحريات ماضية، واستيلائه على الحقوق نافذة.

ومع ذلك كان يصفق له المبطلون، ويمدحه المادحون، ويشيد بعدله الشعراء والمنافقون.

عباد الله:

نحن الآن أمام قصتين غريبتين مذهلتين بين عبدين صالحين وبين هذا الطاغية.

أتى هذا الطاغية إلى الحرم ليؤدي العمرة، وكثير من الظلمة، يتصور أنه إذا فعل ما فعل، ثم يأتي ويطوف بالبيت سبعاً فقد محي هذا بذاك وانتهت القضية، وهذا تصور ساذج للإسلام.

أمـا والله إن الظلـم شـؤم وما زال المسيء هو الظلوم

إلى الديان يوم الحشر نمضي وعند اللـه تجتمع الخصـوم

ذهب الطاغية يعتمر، وأخذ معه حراسة مشددة، لأنه يعلم أنه ظالم، ولما أتى مقام إبراهيم، وقف يصلي ركعتين، فوضع حرسه وجنوده السلاح والسيوف والرماح والخناجر على الأرض. والذي يروي هذه القصة طاوس بن كيسان، أحد العلماء، قال: كنت جالساً عند المقام، فسمعت الجلبة، يعني الصوت والضجة، فالتفتُّ، فرأيت الحجاج وحرسه، فقلت: اللهم لا تمتعه بصحته ولا بشبابه.

لا إله إلا الله، إن بعض العباد، يستولي على قلوب الناس، فيكسب دعاء العجائز في البيوت والأطفال في المهد، وهناك آخرون يكسبون بغض الناس، فيلعنهم الشباب والشيوخ، وتلعنهم الحوامل وما في بطونها، وتلعنهم دواب الأرض، وكان الحجاج من هذا الصنف.

فلما جلس الحجاج بعد أن أدى الركعتين، أتى رجل فقير من أهل اليمن، وقام يطوف بالبيت، ولم يعلم أن الحجاج بن يوسف عند المقام، وفي أثناء طواف هذا لفقير، نشبت حربة بثوب هذا الفقير اليمني، ثم وقعت على بدن الحجاج.. ففزع الحجاج وقال: خذوه، فأخذه الجنود، ثم قال: قربوه مني، فقربوه منه، فقال الحجاج لهذا الفقير المعتز بالله: أعرفتني؟ قال: ما عرفتك.

قال الحجاج: من واليكم على اليمن؟

قال الفقير: محمد بن يوسف، أخو الحجاج، ظالم مثله!! أو أسوأ منه!!

قال الحجاج: أما علمت أني أنا أخوه؟

قال الفقير: أنت الحجاج؟

قال الحجاج: نعم.

قال الفقير: بئس أنت، وبئس أخوك!!

قال الحجاج: كيف تركت أخي في اليمن؟

قال الفقير: تركته بطيناً سميناً.

قال الحجاج: ما سألتك عن صحته، إنما سألتك عن عدله.

قال الفقير: تركته غاشماً ظالماً.

قال الحجاج: أما علمت أنه أخي؟ أما تخاف مني؟

قال الفقير: أتظن يا حجاج أن أخاك يعتز بك، أكثر من عزتي بالواحد الأحد؟

قال طاوس الراوي: والله لقد قام شعر رأسي، ثم أطلق الحجاج الرجل، فجعل يطوف بالبيت، لا يخاف إلا الله!!.

ومما زادنـي شـرفاً وتيهّا وكدت بأخمصي أطأ الثريّا

دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبينا

كان سعيد بن جبير إمام الدنيا في عهد الحجاج، وكان الإمام أحمد إذا ذكره بكى وقال: والله لقد قتل سعيد بن جبير، وما أحد على الدنيا من المسلمين، إلا وهو بحاجة إلى علمه.

قتله الحجاج، قتل وليّ الله، الصوّام القوّام، محدث الإسلام وفقيه الأمة، وافتحوا كتب التفسير والحديث والفقه، فسوف تجدون سعيد بن جبير في كل صفحة من صفحاتها.

كانت جريمة سعيد بن جبير، أنه عارض الحجاج، قال له أخطأت، ظلمت، أسأت، تجاوزت، فما كان من الحجاج إلا أن قرر قتله؛ ليريح نفسه من الصوت الآخر، حتى لا يسمع من يعارض أو ينصح.

أمر الحجاج حراسه بإحضار ذلك الإمام، فذهبوا إلى بيت سعيد في يوم، لا أعاد الله صباحه على المسلمين، في يوم فجع منه الرجال والنساء والأطفال.

وصل الجنود إلى بيت سعيد، فطرقوا بابه بقوة، فسمع سعيد ذلك الطرق المخيف، ففتح الباب، فلما رأى وجوههم قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، ماذا تريدون؟ قالوا: الحجاج يريدك الآن.

قال: انتظروا قليلاً، فذهب، واغتسل، وتطيب، وتحنط، ولبس أكفانه وقال: اللهم يا ذا الركن الذي لا يضام، والعزة التي لا ترام، اكفني شرّه.

فأخذه الحرس، وفي الطريق كان يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، خسر المبطلون.

ودخل سعيد على الحجاج، وقد جلس مغضباً، يكاد الشرّ يخرج من عينيه.

قال سعيد: السلام على من اتبع الهدى - وهي تحية موسى لفرعون -.

قال الحجاج: ما اسمك؟

قال سعيد: اسمي سعيد بن جبير.

قال الحجاج: بل أنت شقي بن كسير.

قال سعيد: أمي أعلم إذ سمتني.

قال الحجاج: شقيت أنت وشقيت أمك.

قال سعيد: الغيب يعلمه الله.

قال الحجاج: ما رأيك في محمد صلى الله عليه وسلم؟

قال سعيد: نبي الهدى، وإمام الرحمة.

قال الحجاج: ما رأيك في علي؟

قال سعيد: ذهب إلى الله، إمام هدى.

قال الحجاج: ما رأيك فيّ؟

قال سعيد: ظالم، تلقى الله بدماء المسلمين.

قال الحجاج: علي بالذهب والفضة، فأتوا بكيسين من الذهب والفضة، وأفرغوهما بين يدي سعيد بن جبير .

قال سعيد: ما هذا يا حجاج؟ إن كنت جمعته، لتتقي به من غضب الله، فنعمّا صنعت، وإن كنت جمعته من أموال الفقراء كبراً وعتوّاً، فوالذي نفسي بيده، الفزعة في يوم العرض الأكبر تذهل كل مرضعة عما أرضعت.

قال الحجاج: عليّ بالعود والجارية.

لا إله إلا الله، ليالٍ حمراء، وموسيقى والهة، والأمة تتلظى على الأرصفة!!.

فطرقت الجارية على العود وأخذت تغني، فسالت دموع سعيد على لحيته وانتحب.

قال الحجاج: مالك، أطربت؟

قال سعيد: لا، ولكني رأيت هذه الجارية سخّرت في غير ما خلقت له، وعودٌ قطع وجعل في المعصية.

قال الحجاج: لماذا لا تضحك كما نضحك؟

قال سعيد: كلما تذكرت يوم يبعثر ما في القبور، ويحصّل ما في الصدور ذهب الضحك.

قال الحجاج: لماذا نضحك نحن إذن؟

قال سعيد: اختلفت القلوب وما استوت.

قال الحجاج: لأبدلنك من الدينار ناراً تلظى.

قال سعيد: لو كان ذلك إليك لعبدتك من دون الله.

قال: الحجاج: لأقتلنك قتلة ما قتلها أحدٌ من الناس، فاختر لنفسك.

قال سعيد: بل اختر لنفسك أنت أي قتلة تشاءها، فوالله لا تقتلني قتلة، إلا قتلك الله بمثلها يوم القيامة.

قال الحجاج: اقتلوه.

قال سعيد: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين.

قال الحجاج: وجّهوه إلى غير القبلة.

قال سعيد: فأينما تولوا فثمّ وجه الله [البقرة:115].

قال الحجاج: اطرحوا أرضاً.

قال سعيد وهو يتبسم: منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارةً أخرى [طه:55].

قال الحجاج: أتضحك؟

قال سعيد: أضحك من حلم الله عليك، وجرأتك على الله!!.

قال الحجاج: اذبحوه.

قال سعيد: اللهم لا تسلط هذا المجرم على أحد بعدي.

وقتل سعيد بن جبير، واستجاب الله دعاءه، فثارة ثائرة بثرة[1] في جسم الحجاج، فأخذ يخور كما يخور الثور الهائج، شهراً كاملاً، لا يذوق طعاماً ولا شراباً، ولا يهنأ بنوم، وكان يقول: والله ما نمت ليلة إلا ورأيت كأني أسبح في أنهار من الدم، وأخذ يقول: مالي وسعيد، مالي وسعيد، إلى أن مات.

مات الحجاج، ولحق بسعيد، وغيره ممن قتل، وسوف يجتمعون أمام الله - تعالى - يوم القيامة، يوم يأتي سعيد بن جبير ويقول: يا رب سله فيم قتلني؟

يوم يقف الحجاج وحيداً، ذليلاً، لا جنود، ولا حرس، ولا خدم، ولا بوليس، ولا جواسيس. إن كل من في السموات والأرض إلا آتى الرحمن عبداً لقد أحصاهم وعدّهم عداً وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً [مريم:93-95].

عباد الله:

إن نبيكم كأنه علم أن ذلك سيحدث لأمته، ولأتباع ملته، فحذر أشد التحذير من الظلم.

قال : ((اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً، فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً، فرفق بهم، فارفق به))[2].

وقال عليه الصلاة والسلام: ((من ولاه الله عز وجل شيئاً من أمر المسلمين، فاحتجب دون حاجتهم وخلّتهم وفقرهم، احتجب الله عنه، دون حاجته وخلّته وفقره))[3].

إذا أغلق المسؤولون أبوابهم في وجوه ذوي الحاجات، فمن يحل مشكلة الفقير؟ من يسمع معاناة المسكين؟ من يرفع الجوع عن الجائعين؟ أهو الذي يحتجب عنهم، ويغلق أبوابه دونهم؟ سوف يحتجب الله عنه يوم القيامة.

أيها الناس:

هذه سيرة فيها عبرة لمن يعتبر لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى [يوسف:111].

ثم رُدّوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين [الأنعام:62].

يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم [الإسراء:71].

إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون [الجاثية:29].

ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون [الأنعام:67].

سوف تعلمون عاقبة الظلم والقهر، يوم ينادي رب العزة ويقول: لمن الملك اليوم، لمن الملك اليوم، لمن الملك اليوم، ثم يجب نفسه بنفسه لله الواحد القهار [غافر:16].

أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 


[1] البثرة: هي الخُرّاج الصغير.

[2] أخرجه مسلم (3/1458) رقم (1828) عن عائشة.

[3] أخرجه أبو داود (3/135) رقم (2948) عن أبي مريد الأزدي ، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع رقم (6595).

 


الخطبة الثانية

 

الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.

أيها الناس:

في سيرة هذا الظالم الذي تحدثنا عنه دروس:

أولها: أن الظلمة ولو كانوا يملكون أجساد الناس، ويسيطرون على أموالهم، فإنهم لا يستطيعون أن يتحكموا في قلوب العباد، لأنها بيد الله وحده، فيجعل الله المحبة في قلوب الخلق لمن أحب، ويجعل البغض في قلوبهم لمن أبغض، ولو حاول الظلمة أن يكسبوا ود الناس، لما استطاعوا؛ فإن الله كتب أن يجعل الود لأوليائه وأحبابه إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن وداً [مريم:96].

وفي الصحيح قال : ((إن الله إذا أحب عبداً، دعا جبريل، فقال: إني أحب فلاناً، فأحبه، قال: فيحبه جبريل، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلاناً، فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض. وإذا أبغض الله عبداً دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلاناً، فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء، إن الله يبغض فلاناً، فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض))[1].

فاحرص - يا عبد الله - أن تكون ممن وضع له القبول في الأرض، واعلم أن العبد مهما صغر ولايته أو كبرت، فإنه سوف يقف أمام الله - عز وجل - وسوف يحاسب على هذه الولاية، ولو كان يحكم بين اثنين، أو كان مسؤولاً عن مكتب صغير، أو مديراً لمدرسة، أو رئيساً لدائرة.

واجعل أمام عينيك نموذجين اثنين؛ عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل، والحجاج بن يوسف الجبار الظالم، واسأل نفسك، مع من تحب أن تكون يوم القيامة؟

ثانياً: إن من أعظم الظلم، قتل المواهب والإبداعات والرسالات، تأتي بالأديب، فتكسر قلمه أمامه، وتقول: لا تكتب أدباً، ولا تروي شعراً، تأتي بالعالم، فتسفه استنباطه واجتهاده، تأتي بالشاعر المسلم، فتقول: لا تشعر، لا تنظم، لا تقفِ إلا بما أريد. هذا ظلم، وانتهاك للقيم.

ثالثا: إن الأمة الإسلامية لم تعش التخلف، ولم تحيا الاضطراب والرجعية؛ إلا يوم تكلمت بغير قناعتها، بحسب أهواء الظلمة، فالإنسان يقول قولاً، ويناقضه من داخلٍ، يكتب ثناء، ويعلم أنه كاذب مخادع.

وفي الحديث أن الرسول، عليه الصلاة والسلام قال: ((إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم؛ أن تقول له: أنت ظالم، فقد تودع منهم))[2]. يعني سقطت من عين الله، فلا يحبها الله، ولا ينصرها، ولا يرفع قدرها.

رابعاً: ليخشع الظالم من الله، فإن لم يخش من الله، فليخش من التاريخ، فإنه يسجل ظلمه وبغيه، ألا يرى الظالم أننا ونحن في القرن الخامس عشر، نترحم ونبكي وندعو لبعض الأئمة العدول الذين عاشوا في القرن الأول؟ وكذلك فإننا نغضب ونلعن أناساً جبارين عاشوا في نفس القرن. هل قدم لنا هؤلاء العدول إحساناً؟ هل لنا مصلحة في الدعاء لهم؟ وهل وقع من هؤلاء الظلمة إساءة علينا؟ لا، ولكنها سنة الله تعالى، وكما قال أبو تمام في أئمة العدل:

ذهبوا يـرون الذكـر مجـداً ثانياً ومضوا يعدّون الثناء خلوداً

نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى ألا ومن فجر الصباح عموداً

خامساً: صلاح الرعية، بصلاح الراعي، وصلاح الراعي، بصلاح الرعية، وإذا علم الله من الرعية الصلاح، ولى عليهم الأخيار، ورقق قلوب الولاة عليهم، وجعلهم رحماء عدول.

فإذا حادت الأمة عن منهج الله، ابتلاها بأناس، يبركون على صدورها، فلا ترى النور، ولا تتنفس، ولا تتكلم، حتى تلقى الله بذنوبها وخيبتها.

فنسأل الله العظيم ربّ العرش الكريم؛ أن يولي علينا خيارنا، وأن يصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأن يهديهم سواء السبيل، وأن يدلّهم على الحق، ويجنبهم الباطل، وأن يرزقهم البطانة الناصحة الصالحة، وأن يصرف عنهم بطانة السوء.

عباد الله:

وصلوا وسلموا - رحمكم الله تعالى - على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: إن الله وملائكته يصلّون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليماً [الأحزاب:56].

 

 

 

 


[1] أخرجه مسلم (4/2030) رقم (2637) عن أبي هريرة.

[2] أخرجه أحمد (2/163 ، 190) عن عبد الله بن عمرو.

المصدر: عائض القرني
abdosanad

الاختيار قطعة من العقل

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 58 مشاهدة
نشرت فى 13 أكتوبر 2011 بواسطة abdosanad

ساحة النقاش

عبدالستار عبدالعزيزسند

abdosanad
موقع اسلامي منوع »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

308,589