تدور في مصر الآن عملية سياسية حزبية ذات شقين: شق هدم وشق بناء. ويمكن فيما أعتقد إيجاز محتوى هذه العملية المزدوجة في هدم الحزب الوطني (الحاكم) من ناحية، وبناء حزب حاكم جديد من الناحية الأخرى. وأعتقد أن الحزب الذي يجوب نجيب ساويرس وبعض شركائه محافظات مصر لتأسيسه هو الحزب المرشَّح ليكون هذا الحزب الحاكم.
وبالطبع فإن الحزب الوطنى يترنح الآن ويحتضر تحت الضربات القاتلة التي تلقاها رغم محاولات إجرامية يائسة ما تزال تقوم بها عناصر ومجموعات كبيرة من قياداته وأعوانهم وبلطجيتهم. لقد فقد هذا الحزب قياداته الكبرى وعلى رأسها مبارك رئيس الحزب والجمهورية مع الكثير من مساعديه فى الدولة والحزب عندما أرسلت الثورة هؤلاء جميعا إلى مصيرهم المستحق مجلَّلين بعار الفساد والاستبداد واللصوصية، وخسر أثناء حكمه ثقة الشعب، ثم تعرَّض للتعرية الشاملة مع كل مؤسسات دولة مبارك بحيث لم يَعُدْ من الممكن أن يطمع فى احترام أحد وناهيك باستئناف وجوده كحزب حاكم. وتطالب الثورة بإلحاح فى مليونياته بحل هذا الحزب المجرم، وبحل المجالس المحلية التي يسيطر عليها بالتزوير والقهر، وبمطاردة كل رموزه وقياداته ومجرميه الذين ما يزالون باقين فى مناصبهم أو بيوتهم .. أعنى: قصورهم. وكان الشعب قد أحرق الكثير من مقاره الرئيسية، مطالبا باسترداد الدولة لكل المقار التى كان قد وضع يده عليها. وبعد مليونية 8 أپريل جاء قرار استرداد جميع مقاره وجميع أصوله المملوكة للدولة. ومن المنتظر أن يصدر حكم قضائي بحل الحزب. ومن الصعب بالتالي أن نتصور عودةً للحزب الوطنى كحزب حاكم أو حتى كحزب له وزنه.
وعلى كل حال فإن حزبا أفسد الحياة السياسية والإدارية والاقتصادية والثقافية والأمنية وحتى القضائية إلى هذه الحدود القصوى، يدا فى يد مع باقي مؤسسات السياسية والأمنية للدولة، يجب بالطبع حله ومحاكمة كل مرتكبى جرائمه وتطهير البلاد منهم وحظر العمل السياسى عليهم، مع ملاحظة أن هذه المواقف لا تشمل المواطنين البسطاء الذين دخلوا الحزب الوطنى (بالضبط كما كان المواطنون المصريون ينضمون قديما إلى الاتحاد الاشتراكي، من باب الرغبة؛ بوصفه حزب مغانم سياسية وإدارية واقتصادية، ومن باب الرهبة؛ بوصفه جهازا أمنيا إضافيا يخشون بطشه)، بالطبع باستثناء أولئك الذين شاركوا بصورة إيجابية فى جرائم الحزب الوطنى وفساده وإفساده ولصوصيته. وباختصار فإنه لا مكان للحزب الوطنى فى مصر ما بعد مبارك.
لا مناص إذن من أن تفكر الطبقة الحاكمة فى مصر وبكل سرعة فى بناء حزب حاكم جديد كأداة لا غنًى عنها للحكم الذي لن يصل إليه إلا عن طريق النجاح فى الانتخابات الوشيكة. والسرعة الهائلة مطلوبة ما دام الوقت الفاصل بيننا وبين الانتخابات قصيرا إلى هذا الحد. ومثل هذا الحزب المنشود لا يمكن أن يأتى إلا من داخل الطبقة المذكورة وأبنائها وسياسيِّيها ومفكريها، حيث لا يمكن أن ينعقد إجماع هذه الطبقة على الاعتماد على حزب قائم بالفعل مثل حزب الوفد باعتباره صاحب فكر برچوازى وممثلا لقطاع منها لأن ملابسات نشأة حزب الوفد لا تهيئه إلى التحول بسرعة إلى حزب يمثل هذه الطبقة من ناحية وإلى حزب كبير من الناحية الأخرى. كما أنه لا يمكن أن ينعقد إجماع هذه الطبقة على الاعتماد على حزب الإخوان باعتباره يمثل قطاعا منها لاختلافه الأيديولوچى الكبير عن أوسع قطاعات وكُتَل هذه الطبقة.
وبالتالي فإن الطبقة الحاكمة فى مصر لا يمكن إلا أن تعتمد على حزب من صنعها تقوم هى ببنائه رغم تحدِّى قصر الزمن المتاح لإنجاز المهمة وهو التحدي الذى لن تتغلب عليه سوى ببذل جهد مضاعف فى سباق حثيث مع الزمن. ويبدو لى أن حزب "المصريون الأحرار" محاولة جادة ومباشرة ومخطَّطة ومتفق عليها لبناء البديل. ويقوم مؤسِّسو الحزب الجديد بحملة واسعة النطاق بعد إعلانه منذ أيام قليلة. وربما تأخرت المحاولة للتأكد من أن مصير الوطنى قد صار محسوما بصورة نهائية. غير أن الحملة المركَّزة المتواصلة بلا هوادة على هذا النحو تعنى أن أمل المؤسِّسين كبير فى قدرة الجهود الهائلة والإمكانات الهائلة على تعويض القصور فى عامل الوقت. وإذا لم يستطع الحزب الجديد تحقيق أغلبية مريحة فى الپرلمان الجديد رغم كل ما سيكون متاحا لها من وسائل تزييف إرادة الشعب فإنها تستطيع الائتلاف مع الوفد أو مع أحزاب أخرى قديمة أو جديدة فى سوق السياسة الناشئة الآن فى البلاد.
فما الموقف من هذا الحزب الحاكم الجديد الذي سيقود فترة انتقالية بالغة الحساسية تشهد انتخابات پرلمانية ورئاسية متكررة، وإعداد وإقرار وتطبيق دستور جديد، وإحلال قوانين جديدة محل القوانين المقيدة للحريات، والشروع فى بناء اقتصادنا بعقلية مختلفة، وحماية البلاد عن طريق كل الوسائل والضمانات الممكنة من تكرار الفساد والنهب، بعد تصفية النتائج المتراكمة لعقود طويلة من نهب ثروات مصر بشراهة لا تُصَدَّق؟
لا أعتقد أن هناك مَنْ يجادل فى حق الطبقة العليا المالكة والحاكمة فى تكوين حزب سياسى يمثلها رغم أن الحزب الوطنى الذي تطالب الثورة بحله كان حزب هذه الطبقة. غير أن الحكم المطلق للرئيس المخلوع كان من شأنه أن يجعل مختلف المؤسسات لا تتمتع بأهليتها الكاملة بحيث كان الحزب أداة فى يده وفى يد أسرته ومجموعة من كبار أعوانه فلم يكن حزبا كامل الأهلية وهو لا يكون كذلك إلا فى حالة اندماجه العضوي فى الطبقة التى يمثلها. وكانت هذه الطبقة ذاتها طبقة مغتربة تستفيد عناصر ومجموعات وكتل داخلها من كل الفرص التى يسمح بها النظام الأوتوقراطى والفساد والرشاوى والامتيازات استفادة اقتصادية وحتى سياسية دون أن تكون الرئاسة أو الحكومة أو الپرلمان أو الحزب أو باقى مؤسسات الدولة فى علاقات طبيعية حرة معها. إنها لا يمكن أن تكون طبقة كاملة الأهلية فى ظل مثل هذا النوع من شكل الحكم. ورغم اندماج السلطة والمال فى قيادة الحزب وفى حكوماته المتعاقبة فإن هذا الاندماج كان يتم تنظيمه وتطويره على أيدى الحكم المطلق ومفوَّضيه. ولكل هذا، ورغم مسئولية الطبقة عما جرى بصورة غير مباشرة بالنسبة للطبقة ككل، وبصورة مباشرة بالنسبة لبعض عناصرها ومجموعاتها وكتلها، يمكن القول إنه لا ينبغى فى سياق مثل هذه الثورة السياسية الجدال بشأن حق هذه الطبقة فى تكوين حزبها أو أحزابها فى حالة تعدد أجنحتها.
وبطبيعة الحال فإن مخاوف تكرار حزب حاكم جديد لنفس هذه الطبقة الشريكة على نطاق واسع فى الفساد الذى دمر اقتصادنا بعد نقل ممتلكات الدولة والشعب إلى جيوب كبار اللصوص فى صورة أموال مودعة فى بنوك خارج البلاد، وفى صورة شراء ممتلكات القطاع العام وأراضى الدولة بتراب الفلوس، وغير ذلك، مخاوف حقيقية ولا يمكن أن تهدأ قبل أجيال وبشرط أن تصير مكافحة الفساد مؤسسة راسخة فى البلاد. ولا يمكن أن يبرأ مجتمعنا واقتصادنا وسلطتنا وحياتنا من كابوس الفساد الذى استشرى فى مصر والعالم العربى بمستويات ومقاييس مفزعة إلا بالحراسة اليقظة المتواصلة، من جانب هذه الديمقراطية الوليدة من أحزاب ونقابات واتحادات وجمعيات مستهلكين، لكل مقدراتنا وكل مؤسساتنا واقتصادنا وحقوقنا وحرياتنا وصحافتنا، ليس ضد الحزب الحاكم الجديد فقط بل فى مواجهة كل مؤسسات البلاد. وباختصار فإن استمرار الثورة ونضج أشكال كفاحها ونضالها ورقابتها شروط ضرورية للحيلولة دون تكرار ما حدث من الحزب الحاكم والطبقة والنظام والمؤسسات السياسية والاقتصادية والإدارية والأمنية للدولة.
على أن كل هذا سيظل مهددا! وينبغى أن ندرك أن الجريمة الكبرى للإمپريالية والكولونيالية وللنظم الملكية والجمهورية التى حكمتنا إلى الآن أخطر من كل ما نتحدث عنه فى العادة. ذلك أن الرأسمالية العالمية فرضت علينا منذ البداية معادلة خطيرة هى معادلة "ثورة سكانية بدون ثورة صناعية" وتكرست وترسخت هذه المعادلة بحراسة مشدَّدة من جانب الرأسمالية العالمية ومن جانب نظريات وسياسات وممارسات الطبقات المحلية التى حكمتنا إلى الآن. ولهذا ظللنا عاجزين عن الخروج من القفص الحديدى لهذه المعادلة التي تنطوي فى الأجل الطويل على انقراض شعوب العالم الثالث كما نرى الآن في أفريقيا ومناطق أخرى من العالم الثالث. والحقيقة أن بلدانا قليلة من بلدان المستعمرات وأشباه المستعمرات السابقة هى التى استطاعت أن تكسر هذه الحلقة الشريرة الخبيثة وانتقلت أو تكاد تنتقل بصورة نهائية إلى الرأسمالية كنظام اجتماعى ينقذ من مصير العالم الثالث ويفتح الباب على تجاوز الرأسمالية ذاتها على المدى التاريخى الطويل. ومعنى هذا أن هذه الثورة السياسية ليست كافية فى حد ذاتها فليس كل ما نريد هو العيش فى حالة من الحرية أعواما أو حتى عقودا. والمغزى الحقيقى العميق لهذه الثورة يتمثل فى أنها فى سياق نجاحها الكامل تفتح الباب أمام الثورة الاجتماعية من خلال التنمية الاقتصادية-الاجتماعية الشاملة والتصنيع والتحديث فى سباق مع الزمن لرفعنا إلى مستوى الغرب والشمال من الناحية الجوهرية، وإخراجنا من معادلة "ثورة سكانية بدون ثورة صناعية"، وإنقاذنا بالتالي من مصير العالم الثالث، هذا المصير الذى لا أريد ذكره من جديد تفاديا لفظاعة الكلمة. وإذا كانت المحصلة التى نصل إليها فى نهاية طريق طويل من العمل الشاق فى سبيل إنجاز الثورة الاجتماعية التى تختلف وسائلها عن وسائل الثورة السياسية هى الرأسمالية بدلا من حالتنا الراهنة التى هى فى الحقيقة حالة "الأفنية أو الحظائر أو الزرائب الخلفية للبلدان الإمپريالية" فإن هذه المحصلة لن تصدمنا لأنها تفتح أمامنا آفاقا جديدة من النضال فى سبيل الحلم الذى لم يفارق البشر منذ ظهور المجتمع الطبقى وهو تحقيق المجتمع اللاطبقى.
المصدر: خليل كلفت ، الحوار المتمدن - العدد: 3333 - 2011 / 4 / 11
نشرت فى 17 إبريل 2011
بواسطة WafaaFarag
ساحة النقاش