اجتمعن في ليلة... في مكان... في سرية وفي صمت... قطرة مداد وقطرة دم وقطرة نفط وقطرة ماء... وكان هذا الاجتماع قد ألغي وتأجل مرارا لدواعي أمنية وحرصا على السرية التامة بعيدا عن أعين الصحفيين وأجهزة التنصت والرصد، وألاعيب التجسس.
في البداية طلب من قطرة المداد أن تسجل تقريرا مفصلا عن الاجتماع المنعقد وترأست قطرة الماء الاجتماع بإجماع المجتمعات، وتم وضع برنامج عمل دقيق ومنظم على أن تظل كل النقاشات والمحاورات قيد موضوع: القطرات الأربع وإشكالية الوجود والعدم.
شرعن في تسجيل رؤوس الأقلام، وترتيب الأفكار استعانة بالخرائط والإحصائيات. والتاريخ والاجتماع والاقتصاد والسياسة والفكر والدين، وكان لزاما عليهن توخي الصدق في كل التصريحات والمداخلات، وأساليب الإقناع بأدلة مضبوطة وانتقادات معقولة بعيدا عن كل أشكال الانحياز أو التطرف.
كانت قطرة الدم أول من تدخل موجهة سؤالها لقطرة النفط، ملقية باللائمة عليها قائلة:
- ألا ترين أنك سبب تعاستنا في هذا الوجود؟ وأنك خرجت فجأة من باطن الأرض لتدمري الحياة فوقها، فصار البشر مهووسين بالبحث عنك في كل البقاع والأصقاع برا وبحرا.. فقامت حضارات، وأبيدت حضارات، وأصاب الغنى قوما، وأمات الفقر أمما.. واستعمرت أوطان، واستنزفت خيرات... ونشبت حروب وقامت ثورات... فسالت مني بسببك أنهار وأودية، وأريقت دماء وأزهقت أرواح...؟
كانت قطرة الماء تصغي إلى هذا التدخل باهتمام بالغ.. أما قطرة النفط فإنها لم ترفع رأسها نحو السائلة لأنها كانت منهمكة في تسجيل محاور الطرح والرد، والتزمت قطرة المداد بتسجيل هذا التدخل بكل تفاصيله إلا أنها أضافت من تلقاء نفسها: الموت للنفط.
احتجت قطرة النفط على هذه الإضافة بشدة، ونددت بهذا الأسلوب وهمت بالانسحاب لولا أن قطرة الماء تدخلت في اللحظة الأخيرة مطالبة المداد باعتذار رسمي للنفط .أما قطرة الدم فقد بقيت صامتة منتظرة ردا مقنعا ولكن قطرة النفط، وجهت كلامها للمداد قائلة:
- أشم في إضافتك هاته رائحة المؤازرة للدم مع العلم أننا اتفقنا على مبدإ الحياد، وأن كلا منا مطالب بالحديث عن نفسه دون تضييق الخناق على طرف، بمساندة طرف أو بدعم منه. ثم أدارت وجهها نحو قطرة الماء وخاطبتها بتودد وملاطفة قائلة:
- سيدتي... ألا ترين أنه من الوقاحة الحديث عن الموت والحياة مع من لا يحظى بهذه المكانة.؟ فأنت وحدك من يحق له الحديث في هذا الشأن، ويكفيك فخرا بذلك أنك تجلسين على عرش الوجود خلال فصل كامل من فصول السنة، وأنك إذا غبت في هذا الفصل فإن الحياة تكاد تكون منعدمة.
لم تأبه قطرة الماء بهذا الإطراء الملغوم. وبما أنها كانت رئيس الجلسة فقد طلبت من قطرة النفط الدخول مباشرة في الموضوع، والرد على سؤال قطرة الدم، شعرت قطرة النفط بخيبة الأمل لأن قطرة الماء تفادت الوقوع في فخ الاستقطاب... لقد أرادت قطرة النفط أن تستميل إليها الماء بعدما لاحظت ميل المداد إلى الدم ثم فكرت في حيلة أخرى وقالت في نفسها:
- لقد دوخت العالم بأسره... فكيف أعجز أمام قطرات ثلاث؟!
كان الوقت يمضي سريعا... وعليهن إنهاء الاجتماع والخروج منه بنتيجة مرضية مما جعل المداد يوجه كلامه للنفط:
- مازلت أنتظر تسجيل ردك على سؤال الدم.
تنفست النفط بعمق رئتيها وقالت:
- لقد اتهمتني صديقتي....أقصد قطرة الدم حين جعلتني مسؤولة أولى عن إراقة أنهار منها.. وأطلب منها أمامكن أن تجيب على سؤال واحد بسيط..متى تمت إراقتك أول مرة في تاريخ وجودك يا سيدتي؟
تعجبت قطرة المداد.؟أما قطرة الماء فقد أخفت تعجبها وأسرّته في نفسها، بينما شعرت قطرة الدم بالإحباط، وحارت في الأمر، ثم أطرقت رأسها في بحر الصراع البشري ورغبة حب البقاء عبر الزمن، وحاولت قطرة المداد تدارك الموقف خشية من انهيار أسطورة الدم أمام النفط ووجهت كلامها إلى هذه الأخيرة قائلة:
- من أصول النقاش المثمر والحوار البناء أن يجاب على السؤال بجواب وليس بسؤال على سؤال....
نظرت قطرة النفط إليها في استعلاء ولم تجب لأنها فضلت النظر إلى حيرة قطرة الدم وأخيرا قالت وهي تلوح في وجوههن جميعا بما ينم عن تحقيق النصر وإفحام الدم.
- سأجيب بدلا عن قطرة الدم، ولو أن الأمر يخص تاريخها ووجودها وكينونتها...وأن قطرة الماء كانت شاهدة على هذه الحقيقة لأنها أقدم موجود أحيى الوجود وقطرة المداد كانت أيضا صادقة في تدوين فصول هذه الجريمة بكل ملابساتها..ثم نهضت من مكانها كأنها تعلن عن نصرها وعن إنهاء الاجتماع فطافت بينهن قائلة في تبجح:
- عندما قتل قابيل أخاه هابيل لم أكن ساعتها موجودة ...ولهذا أنفي مسؤوليتي عن إزهاق الأرواح وإراقة الدماء...
انتهى الاجتماع .
-لا..لم ينته بعد....
نظر الجميع إلى مصدر الصوت وكان غريبا عليهن فإذا بقطرة الدمع تقتحم المكان وتقحم نفسها في الاجتماع قائلة:
-لا أدري ..إن كان كلامي نعيا أم بشارة؟ فقد وصلني قبل قليل من مصادر موثوقة أن المأساة الإنسانية ستنتهي قريبا بانتهاء النفط وزواله من الوجود...ولكن بالمقابل ستبدأ مأساة أخرى حين سينفجر صراع آخر بحثا وتنقيبا عن الماء...وللأسف سأكون حاضرة هنا وهناك...
ارتعشت قطرة الماء من هول ما سمعته، وجف المداد، وأغمي على النفط، فأعلنت فورا عن انتهاء الاجتماع في انتظار بداية المأساة.