جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
خرج يتعثر في مشيته وقد أرخى الليل سدوله على ما بقي من الضياء، مقوس الظهر يجر تلابيب جلبابه العتيق، ورأسه مغطى بقبعة صوفية فقدت عنفوانها فترهلت إلى موقه وحجبت حاجبيه وجبينه، تتبعه الكلاب في جرأة والقطط في حذر، و يهش بعصاه على تابعيه إذا اختلفوا..ويثير بها النقع إذا اتكأ عليها بكل ثقله وثقل أحزانه، وأخيرا وصل إلى محطة القطار التي غادرها آخر قطار قبل مولده بأربعين سنة ونيف.
تلفت في الظلمة يمينا ويسارا كأنما يبحث عن شيء ما يزال عالقا بذاكرته رغم أنفه، ورغم كل محاولات النسيان ليس اجتثاثا لبعض جذور تاريخه في هذه الذاكرة، ولكن حبا في عدم التذكر أو الذكرى لعلة جعلته عليلا، كيف لا وقد سكن هناك زمنا وصار اليوم غريبا..كأن لم يلبث فيها ساعة من نهار،وتذكر كيف أبعدوه قهرا وظلما عن مسكنه الذي كان مأواه وموئله،وعشه الدافئ قبل أن تلقي به رياح الحقد والكراهية والغدر في سحيق، وبعدها طفق الطغاة يبيدون كل ما من شأنه أن يذكرهم باسمه، ويغيرون المعالم الشاهدة على تواجده في هذا البيت ردحا من الزمن، ويعبثون في تشف وشماتة بكل لمسات الإبداع والرقة والإنسانية التي تركها هناك، والتي تحكي للقادمين حقيقة ذلك المطرود عنوة ومن غير رحمة.
جلس على التراب مسندا ظهره إلى جدار يصل علوه إلى كتفيه حين الجلوس، تحت شجرة التوت الأبيض التي تحجب الضوء المنبعث من عمود إنارة عمومية، ثم ما فتئ أن أخفض رأسه في حزن بليغ حين رنا إلى نافذة متوهجة بالضياء كأنها الفرقد، وبدأ المدعوون يحجون إلى هذا البيت العتيق تباعا وهم يحملون هدايا عيد الميلاد،
كان ينظر إليهم من خلال الظلمة التي يستكين فيها دون أن يدري أحد بوجوده هناك..وكان يعرفهم وجها وجها، وحتى لو رأته إحدى هذه الوجوه فإنها حتما لن تتعرف عليه، وبقي جالسا في موكب أحزانه وغربته، تقترب منه عيون تتلألأ تحت أشعة ضوئية متسللة من بين فجوات أوراق شجرة التوت، وتبسط ذراعيها عند قدميه دون زمجرة أو نباح، إنها كلاب المرآب التي كان يلقي إليها ببعض بقايا الطعام والعظام من تلك النافذة الفرقدية قبل الترحيل، وكأنها جاءت لتواسيه أو لتهنئه حيث سيبدأ بعد قليل الاحتفال بعيد ميلاد ابنته التي سيطفئ الشمعة السادسة، دون هذا الجالس على التراب وسط الكلاب الطيبة.
بدأ يسمع صوت الاحتفال قادما من وراء الزجاج والضوء...ورحل الوهج في تواضع ليسمح لضوء الشموع التي كانت تنطفئ وتعود للاشتعال برقصات الظهور والتخفي.. كلما كفت الأكف عن التصفيقات والحناجر عن ترديد شعار الاحتفال..وتذكر كيف كان يعلم ابنته المحتفل بها الآن إطفاء شموع الميلاد، وبعدها كيف كان يسلمها هديته، ويتبادلان القبل.
تنفس بزفرات كأنها اللهب طالعة من أعماقه المهمومة، لأنه لا يستطيع أن يهدي لابنته شيئا بهذه المناسبة، ولا أن يشاركها فرحتها، رغم أنه قريب منها وعلى مرمى حجر دون أن يدري الآخرون بحضوره وقربه، وأدخل يده في جيبه ليخرج منه هدية لابنته ولم يجد غير ورقة ذابلة، نظم فيها قصيدته وصار يقرأها على الكلاب الأنيسة:
والهف نفسي عليك يا قرة عيني إذا أمك قــد فرقـــت بينــــك وبيني
غريبا قد حضرت ميلادك وإني أدعوا لك فهل عساني وفيت ديني
عاد ينظر إلى النافذة من جديد، وكان يسمع أنغاما خافتة وصخبا طفوليا يختلط فيه الذكر والأنثى وهم يشربون العصائر، وينهشون الحلوى التي أحضرها هذا الأب ووضعها على عتبة الباب، قبل أن ينصرف مسرعا كي لا يباغته هناك أحد من حاشية أم ابنته، أو زميلاتها أو صديقاتها أو فصيلتها التي تأويها..ولم يرتشف قطرة من هذا العصير..ولم يتذوق لقمة من هاته الحلوى ..ولم تطاوعه نفسه الرحيل عن المكان حتى ينصرف آخر المدعوين والمدعوات..
كان كل من حضر الاحتفال يخرج حاملا في يده كيسا من الحلويات، ولم تسول نفس أحدهم التصدق بقطعة كعك على هذا الشيخ العليل القاعد على التراب، على مقربة من باب الخروج، وكان يشرع في السعال حتى يلتصق وجهه بركبته كلما اقترب منه أحد هؤلاء المدعوين في تمويه محترف.
تفرق الجمع أخيرا ، ورحلت الكلاب ، وبقي هناك وحيدا يعانق الصمت الذي خيم على المكان بعدما تعذر عليه معانقة ابنته..لقد استطاع أن يكون قريبا منها كي يشاركها بروحه احتفاله بعيد ميلادها دون أن يتعرف عليه أحد ممن تمتعوا إلى حين بحق الحضانة، لأنه أتقن التنكر في صفة شيخ عجوز طاعن في السن، وهو ما يزال في بحبوحة شبابه..وانصرف دون أن تتبعه الكلاب الباقية، تاركا عصاه هناك لتروي قصة احتفال بمنتهى الحزن.
المصدر: سعيد يفلح العمرانى
صحيفة " الوطن العربى الأسبوعية " المستقلة الشاملة - لندن ، المملكة المتحدة ..
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير :
د. علاء الدين سعيد