لم تصحُ من منامها قط لأنها لم تكن يقظة أبدا.ولم تزل مترنحة منذ الأزل, منذ ولادتها في هذه المدينة الصاخبة.
أليست كل المدن صاخبة؟ أليست الحضارة الإسمنتية هي التي تعكس التصاقات المادة بالعقل البشري على نواة الروح فتصبغها صبغا باهتا؟ التصاقات ومفاهيم ولدت صغيرة في غياهب التاريخ وتغذتعلى بريق العلاقة المتنامية بين بني البشر الأحياء والمادة الصماء الجرداء.
أهي ذات منافع متبادلة بين البشر والمادة من حيث لا ندري؟
لم تعد جوارحها قادرة على التأقلم مع صخب الحياة, مع انه من المفترض بأنها قد أصبحت جزءا من كيانها. لكن انتشار الفوضى الخلاقة في مفاهيمها المبهمة هز كيانها.كما تملكها كابوس متراكم أصابها بالهلع من جراء وجودها في كون صناعي بحت لا تنبض فيه حياة. أخذها الرعب من فقدان هوية لا زالت تنزوي شيئا فشيئا بين ثناياها تحت تراكم مغريات المادة الصاخبة التي تعج بها هذه الحضارة حتى ضاقت بها الدنيا بما رحبت.
وفي جنح زمن لم يكن له حسبان انطلقت متمردة هاربة عبر ألوان براقة, أبنية شاهقة وشوارع فسيحة ضاقت بها حد الإختناق إلى مجهول الخلاص. إنسلت من زحمة الوجود حيث ناجاها الأمل عبر أجساد تعمل على إرساء قواعد منظومة الفشل الحضاري.
قادها حدسها خلف أسوار المدينة حيث تتقزم أبنية تناطح السحاب أمام عظمة الجبال الراسيات. بدأت تتسلق هضاب الإنعتاق في جهد مؤرق هد كيانها بينما تتملص من ماديات بني البشر... تناست عملها وبيتها وأملاكها... انتزعت نفسها من أواصر العلاقات البشرية رغم أواصر الحنين والمودة. فَرِحلة الإنعتاق انما هي رحلة ذات نحو حقيقة الوجود. ارتج عليها فبكت وناحت إلى أن زاغ بصرها إلى بصيرة ثاقبة أخذتها خلف حبها وأحقادها. تخلصلت من مشاعر الأنثى ولهيب منحنياتها لتدرك أن الجمال الكوني هو دثار الوجود وحقيقة الجمال تكمن في اندماج المادة والروح. ما عاد الماء والهواء ضرورة حياة في عدوها نحو العلياء عبر أشجار الخلود وثلوج الأبد التي رصفتها خفقات التاريخ على أنغام الأحلام البائدة.
ركنت بعد عناء على قمة بيضاء لم تدنسها صراعات السطوة أو تهتكها أسلحة الطغيان. أخذها سحر ديمة تلتف حول القمة بصفائها ونقائها فأبحرت في جمالها ردها من الزمن إلى أن دعتها اليها... لم تنتظر, لم تفكر بل امتطت ظهر فراشة غير موجودة وانطلقت في عمق سحابة لتلتحم بها على أنغام رعد يتراقص له برق الوجود فشعرت بالحرية ووحدانية الكون عندما تخلصت من أَسْر بشريتها واستحالت تسنيما نقيا تساقط فوق المدينة تغسل شاهقاتها من الكبرياء وشوارعها من الأردان, مصلية صلاة الخلاص على الأبدان الهائمة...وكَفَّنت أرواحا لا زالت سجينة أطماع لا تنتهي.