جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
تعوّد أن يربح أطراح اللعب الورقي بكل سهولة ولم يتصور أنه سيواجه يوما ما مثل هذه الفضيحة المفاجئة والمرعبة ..
لما رآهم انهمكوا في تنظيم كفوفهم تثبّت في انغماسهم مليّا واختطف في غفلة
منهم، بحركة غير مرئية كمية من أوراق الرامي المرصفّة أمامه ..ضرب على
الطاولة ضربات قوية متتالية وهو يقف صارخا : "فارشه" ..والله فارشه ..هيّا
ألقوا كفوفاكم.. استسلموا يا أوباش.. ألقوا أسلحتكم ...
من فوق وعلى بعد كيلومترات ترى الإسطبل مهملا في فوضى محيطه الفلاحي
الكسول كعلبة كبريت انحلّ لون رؤوس كبريتها الأحمر القاني بفعل رطوبة
شديدة أصابتها فلوّثت الصور الخارجية للعلبة بلون يشبه أحمر شفاه تستعمله
بعض إناث الليل والشوارع بعشوائية حتّى صارت العلبة تخذل كل من أراد طهي
طعامه وتحرمه من شعلة النار..
قالوا له في كلمة واحدة : كفى ..اجلس ولا تفضحنا ... بيّن لنا كيف "فرشت " واحذر أن نجدك سارقا ..
قال اللاعب الجديد:عدّوا أوراقه ...
ارتبك وهو يرى الجميع يركّز النظر عليه..تفاجأ ..تهيّأ له انه لن يجد
الفرصة الكافية كي يتخلص من أوراقه المسروقة ..أحس بورطته ..فاستعدّ
لاستقبال الورطة بالضحك ...
** ** **
** ** **
في منتصف النهار حين تسلّط الشمس ضوءها على فردة باب الإسطبل الخشبي
العالي يظهر الإسطبل للعين منقسما على شطرين: شطر غارق في الظلمة المفعمة
بروائح "الروث "وشطر غارق في النور المركّز على أجسام كائنات الإسطبل
ووجوهها..
تقدم الراعي الصغير لفتحه.. سقط الضوء دفعة واحدة على وجوه الأبقار العجوز
المربوطة إلى حلقات حديدية حائطية فكسرها وازدادت عيونها ظلمة فأخذت ترمش
بأشفارها متفادية الضوء...
** ** **
** ** **
لم تعد علبة الكبريت صالحة للاستعمال منذ مدّة طويلة ورغم ذلك فجميع أفراد
العائلة يحبّذون وجودها قرب الموقد حتى تعطي انطباعا بالأمل في إمكانية
استعمالها ...
** ** **
** ** **
في هذا المقهى دفن سي الكعباشي الشطر الأهم من حياته وتعود اللعب بالورق
الذي أحسّ به شبيها بأوراق الكراس والكتاب وأوراق المال ..لم يعد يشعر بأي
قلق ولا تأنيب ضمير من الذهاب مباشرة إلى المقهى والخمارة بعد التدريس
بنفس المحفظة التي كان يدرّس بها التلاميذ ..كانت الدائرة المغناطيسية بين
الدرس واللعب بالورق والخمارة تحكم قبضتها عليه حتى أصبح لا يميّز بين
القسم والمقهى فهو يصارع في كل مفتتح سنة دراسية جديدة كي يضمن الحصول على
جدول أوقات تدريس مناسبا لدخوله إلى المقهى وخروجه منه ...
ولهذا السبب انتمى إلى نقابة التعليم الثانوي عكس بعض زملائه الشرفاء ..
انتمى كي يضمن جدول أوقات مريح يوفر له متعة قنص الوقت في متعة لعب الورق ..
كان طول جسده يشبه المصران الزائد ..يمشى و الريح تتقاذف جسمه كورقة تهبط
من الأعلى متمايلة يمينا وشمالا ..يلحّ في حديثه على الظهور بأنه صاحب
قضية وحين يبلغ به الحماس يصرخ عاليا متحسرا: لو كنت في مكان أي زعيم عربي
لحررت فلسطين بين عشية وضحاها..
كان يصور نفسه أنه مهموم بمشاكل العرب وتخلّفهم ..متفطن إلى كل الألاعيب
السياسية ..و في المدن الداخلية الصغيرة ذات الطابع الفلاحي الريفي يمكنك
أن تجد بسرعة مريدين لك ومناصرين فأنت عندما تخوض أي حوار مع الأشخاص
الغارقين في مستنقع الأمية واللامبالاة فإنهم لا ينظرون إلى مضمون حديثك
ومستواه ومقاصدك بل ينظرون فقط إلى طبيعة تحالفاتك وموقعك المهني وحجم
الفائدة الراجعة إليهم من صداقتك وهم مضطرون إلى موافقتك على أحاديثك
الفارغة كي لا يخسروا رجلا يتوقعون انه مهمّ وعليهم ادخار صداقته لقضاء
مصالحهم في يوم عسير و تفادي خطره ومكره إذا لم يرج من ورائه فائدة..
** ** **
** ** **
بمهارة لم يكن يتصورها وضع قبل أن يجلس على الكرسي الورق المسروق تحت إليته فشعر بالنجاة واستعاد ثقته في نفسه.. قال:
هاكم احسبوا الأوراق...انتم تسيئون الظن حتى بأنفسكم و بزوجاتكم أيها
الموسوسون..أراد أن يلقي محاضرة بعد أن سرت في جسمه نخوة النصر المفاجئ
فصدّه الرجل الذي يلعب معهم لأول مرة بإشارة يدوية قائلا : مستحيل أن تكون
"فرشتك" حقيقية يا لصّ...
لم يتوقع أن يجرؤ شخص ما على اتهامه بهذه العبارة بكامل الوضوح
والإدانة..فهو يلعب دائما وفي نفسه شعور بأنه سيخرج رابحا في كل
الأحوال..فتح عينيه باستغراب وهمّ بالمخاصمة وكيل السباب مستعيرا معجمه من
مفردات النصف الأسفل، لكن كمية الوراق التي سرقها كانت كبيرة واكتشف أنه
لم يكن ماهرا بشكل كاف حيث لاحظ بعد فوات الأوان بعض الورقات التي سقطت
أثناء إخفاء البقية مبعثرة فوق الطاولة ...اضطرّ للنهوض دون شعور حتى
يدافع على نفسه فانكشفت الأوراق التي وضعها تحته وسقط بعضها أرضا..
صرخوا جميعا هاهي الأوراق المسروقة الأخرى ..
قال له اللاعب الجديد بصرامة وحزم لم يتعودها :فضيحة سرقتك لا يمكن إخفاؤها الآن ،كم أنت لص وقح ؟...
تماسك ونظر إليهم نظرة سخط وغضب مرفوقة بما يشبه الضحك الماكر فنظر جمع من
أصدقائه القدامى في عينيه.. رأوا شرر الوعيد والتحذير .. تذكروا بطشه
وجميع مؤامراته فتراجعوا بسرعة محاولين مساعدته على الخروج من هذا المأزق
قالوا :
لالالا..سي الكعباشي لا يسرق... هذه الأوراق سقطت بمفردها من الطاولة الآن
..وبعجالة قام أحد المتفرجين والمتحلقين حول طاولة اللعب من كرسية وصدم
بمرفقه باقي الأوراق المصفّفة فتبعثرت وسقط جزء منها على الأرض ..قالوا
موجهين الحديث إلى اللاعب الجديد : هل رأيت كيف تتهم سي الكعباشي بتهمة لا
أساس لها من الصحة ...نظر إلى وجوههم فردا فردا وهو يفكر في كيفية الرد
المناسب لهؤلاء الأوغاد الذين لايحترمون قواعد أية لعبة كانت ...
ّّّ*** *** ***
حين تعلو الشمس في الأفق الرحب تخترق بضوئها الفائض زرقة السماء الفضية
وتنشرها كبحر من ضوء مشعّ يتساقط نوره على التشكيلات العمرانية الأرضية
المختلفة وعلى الرؤوس الناتئة فتبعثر خطوطها وهندستها وكأنها تطمح إلى
إعادة تشكيلها من جديد ،حتى انك إذا نظرت إليها في المدى اللامتناهي يمكنك
أن ترى الأرض جميعها جزءا من الضوء المتوهج المندفع من العالم العلوي بلا
ظلام إلآ الظلام الذي قد يخلّفه التحديق في الشمس ...
كان الراعي الصغير يفكر بجدية أن يدخل الإسطبل ويفك قيد الأبقار العجوز
ويخرجها إلى حقله الواسع لترعى هذه المراعي الخصبة التي نبتت بعد الأمطار
الاخيرة وجعلها الربيع بدفئه تنمو فتغطى طول الإنسان..كان في ورطة حقيقية
فهذه الأبقار هي كل نصيبه من ورثة تركها له أبوه وإذا نزل بها إلى السوق
لا يمكن أن توفر له حتى ثمن ما صرفها عليها من مبلغ شراء التبن والشعير..
كلّ أسنانها ساقطة وكأنها بلا فم ...أو فمها ليس سوى مجرد دهليز مظلم...
كان يشعر فعلا انه في ورطة، ولكن الربيع أغراه بان يخرجها من الإسطبل
لترعي مجانا هذا الخير الطبيعي الممتد في حقله على مدى العين ... في
الطريق أخذت الأبقار بالتناطح رغم وهنها الشديد ..وحين وصلت إلى المرعى
بركت مهدودة ،خائرة الأنفاس كأكياس من الرمل تسقط من محمول الشاحنة.. لقد
تعودت على ظلمة الإسطبل فلم تعد ترى في الضوء كما أنها لم تعد تشم رائحة
المرعى المخضرّ المثير لشهوة الأكل بلذة ..حاول أن يدفعها ..أن يرفعها ...
ذهب وجاء ..
جلس وقام ..
إنها ورطة حقيقية ...ومن المستحيل الآن الاستمرار في تربيتها ..ولكن هل
يمكن أن يبيعها ؟..قال بصوت هامس مستعجب : غريب.. عوض أن يصيبها جمال
الربيع وخضرته والهواء الطبيعي العليل والضوء العميم بالصحة والعافية
أصابها على العكس بالوهن التام والانهيار كقطعة من الثلج عرضها الصبيان
على الشمس ..كانت الخسارة غير متوقعة وضدّ أحلامه...ولكن حين رفع بصره إلى
الفيض النوراني السماوي خامرته فكرة التعجيل بذبحها جميعا قبل أن تموت
..قال :إن ربح لحمها هو الحلّ ولعل ذلك سيكون خيرا من موتها وموته هو تعبا
جسديا من معاناة العناية بها وشقائه في تدبير صحتها أو من التفكير في
حالها وغذائها و خلاصها ...نادى جزّار قريته ومساعديه فلما رأوها على هذا
النحو من الهزال والمرض رفضوا ذبحها ..قال له الجزار منزعجا :هذه الشوراف
ألق بها إلى الكلاب ..أتركها تموت بآجالها ..ماذا ستفعل بلحمها ..
بعد جدل طويل ونقاش اختاروا منها ثلاث بقرات أكثر نظارة وقالوا على الأقل لا نخسر هذه ...
لكن لا أحد أراد شراء هذا اللحم الشبيه بإطار العجلات المطاطية ..
قال سأوزعه على الفقراء والمساكين واربح به ثوابا...
في الطريق عرضه سي الكعباشي وقال له هذا اللحم يمكن أن نربح به مالا كثيرا إذا بعناه إلى مطاعم التلاميذ...
*** *** ***
*** *** ***
أجال اللاعب الجديد نظره في الوجوه والعيون المظلمة ثم رفع الأوراق
وألقاها بسخط شديد عاليا حتى لامست سقف المقهى وشقته وكأنها رؤوس فؤوس
ألقاها مدفع وليست يد بشرية..اندفعت إلى الخارج محلقة في الفضاء كما لو
أنها أصبحت لها أجنحة ...
*** *** ***
*** *** ***
ردّ باستغراب ما معنى حديثك ياسي الكعباشي... هل تريدني أن أغشّ التلاميذ
بهذا اللحم ...ألا تعرف لحم من هذا؟...هذا لحمك ..لحمك أنت.. أتريدني أن
أعطي للتلاميذ لحما بلاستكيا.. تريدني أن أغشّ أبناءنا الصغار الذين هم
مستقبلنا وكل أملنا ..هل أغشهم بلحم لا يمكن تقطيعه حتى بالمناشير الآلية
فما بلك بالأسنان الطريّة الغضّة ؟..ثم تفطن إلى أمر هام واستنتج بعد أن
أستمع إلى تكرار استنكاره..قال في نفسه : هذا يعني أني ذاهب الآن لأغشّ
الفقراء والمساكين بهذا اللحم المطاطي الشارف ..هذا عيب كبير .. ثقافتنا
الأصيلة تقول : إنه لا تحسن الصدقة إلا بأفضل ما عندك ..توقف قليلا :أنا
أفعل هذا ..أنا ..يستحيل أن أفعل ذلك ...سمع هاجسا يقول له ألق باللحم
للكلاب ....رجع على أعقابه وفي نيته إلقائه للكلاب ...ارتفع الهاجس من
جديد وصار واضحا .هل ترضى أن تغشّ الكلاب أيضا أيها الراعي الصغير ...هل
يمكن أن تغشّ الكلب وهو حيوان أليف كان مخلصا ووفيا في كل تاريخه للإنسان
...
كانت الأضواء الجميلة الفائضة من الشمس تلامس جسمه فيشعر انه يسمو ويرتفع
وخضرة الربيع ترتفع معه فيسبح في الجمال العلوي كالربيع المضاف إلى
الطبيعة.. كما الهواء الزكيّ العليل ..غير انه أحسّ ببعض الثقل فتذكر انه
قد أرتفع إلى الأعلى وهو يحمل معه أكياس اللحم البلاستيكي ...غضب قائلا :
اللعنة ما هذا الورثة الفاسدة التي لا يمكن أن ننتفع بها في شيء ...أهذا
ما ورثته عن والدي و جدودي ..كم هذا مزعج !!!.. حتى إذا نسيت خسارتك فإن
هذه الخسارة تشدك من جديد إلى الأسفل ..قال لموج الضوء : عذرا أيها الحبيب
الرفيع أرجوك توقّف بي هنا وانتظرني قليلا ..نزل من العلياء فاستقبلته في
حقله بعض أشجار الزيتون التي أكلها السوس و لم تعد تلد حبات الزيتون منذ
عقود وقد تعددت في جذوعها المغاور التي تسكنها الحشرات وجيوش النمل ...هوى
عليها بفأسه وقطعها أطرافا صغيرة واعدّ محرقة عظيمة... بحث عن علبة
الكبريت.. تذكر أنها لم تعد صالحة ..وبطبعه يكره الاقتراض من أحد ..قال
مستحيل أن أقترضها حتى في هذه اللحظة الأكيدة .ونادى بصوت من يغرق في وحل
بئر سحيق ..نادى في الفضاء الرهيب :أيتها النار المقدسة أين أنت ؟...أخرجي
لي حتى من فوهة بركان ..من لمع الصواعق أو من كلمة منسية ...اخرجي حتى لا
أفسد بهذه اللحوم المطاطية معدة إنسانية أو حيوانية ...جاب النداء مختلف
أصقاع العالم وارتد إليه صوتا خافتا كهمس الملائكة :لا تبحث عن النار
بعيدا ولا تشقى بعلب الكبريت الفاسدة ..خذ حجرتين واقدحهما ،وكن كالإنسان
الأول..فقد تجد في الصخر آذانا صاغية تلبّي نداءك وتمنحك ما تريد ، ولكنك
لن تجدها في أذن فاسدة ..مازلت النيران مخفية حتى في الحجر فلا تخف أبدا
على الحياة الإنسانية من المفسدين..فرح :النار في الحجر وليس لها علاقة
بأي مصنع من مصانعهم..سمع قولا: خذ الحجر واضربه ببعضه سيتكلم شررا بسيطا
يفعل يكون تحت أمرك ويفعل ما تطلبه منه .. سترى النار الكامنة في الحجر
تأكل الأجسام الخشبية والبلاستكية بسرعة وتقضي لك على ما تريد ...
*******
*******
ارتفع لهب المحرقة العظيمة ..غطت وجهه بالضوء ..
كانت ألسنة اللهب العالية ترقص على نخب النهايات وهي تلتهم الأجسام
المنتهية صلاحيتها ويراها حين تنفخ في خلاياها الريح تتأجج وتتضخم وتزداد
ألقا وإشعاعا لترسل في الجوّ شواء اللحم الملوث بالدخان ...
قال بشعور غامض :..بعد المحرقة سيكون الرماد ..سأجعله سمادا لأشجار
جديدة..ثم راودته قشعريرة شكّ..تنهّد وهو يقول : لا يهمّنا إذا كنت سأنجح
في زراعة شيء ما أو سأخفق ..ما استطعته أنا فعلته وباقي الأعباء ستنهض بها
الأيام مع رجالها المخلصين القادمين...
وقف مذهولا أمام الحدث الجديد: لقد كانت أوراق لعب المقاهي التي ألقاها
اللاعب الجديد يوم غضبه تتجمع في الفضاء كالغمام في الفضاء ثم تتساقط
الواحدة تلو الأخرى في فوهة المحرقة التي تلتهم سوس الأخشاب واللحم
المطاطي بنهم ناري فريد .
المصدر: الأديب التونسى الكبير : عبدالقادر بنعثمان
صحيفة " الوطن العربى الأسبوعية " المستقلة الشاملة - لندن ، المملكة المتحدة ..
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير :
د. علاء الدين سعيد