جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
بدأت تلوح من الأفق عمدان قصيرة متناثرة فوق أرض شاحبة,جدباء متشققة البشرة. بل أعجاز نخل خاوية يكللها زغب منفوش فيه لمسة فنية ساحرة تذكرني بالصبار الشوكي المتناثر على أطراف الصحراء وعمقها حارسا اياها من شياطين الجن الذين يبنون أحلامهم من بقايا ماضي البشر.
عجبا لهذه الأرض الطاردة التي تحوي هذا الكم من أعجاز بالية, مقوسة كالعرجون القديم. البعض قليل ضئيل الحجم والبعض الآخر لا يتجاوز طولي...أقلقني وجودها الذي يزرع الرعب والذي قد يعيق المسيرة ففي الأفق آلاف الأشباح. نعم أشباح تتضح مع الرؤيا فترتسم أعجاز الشجر بصورة بشر أحرقته الشمس. تشققت منه البشرة فبهت الوجه. بدأت الاقتراب من ذاك الذي يتجلى على حقيقته.. حقيقة الوجه المظلم في وجودنا الذي يصنع من اخواننا البشر أعجازا وأصناما.
اقتربت منه فلم يحفل
كان أمامي..صَدِّقني
لم يرمقني بنظرة,لم ينظر إلي... بل لم يكثرث
عيناه شاخصتان في المجهول بِبرَيق وحِدَّة, يكللهما شَعْر يناجي السماء فوق بشرة سمراء على جسد عارٍ يلتصق بصدر مترهل قد خبا منذ ايام المجاعة الأولى على صدر كيان كان امرأة في الماضي. جلس الطفل على يديها النحيلتين بعجيزة لا نبات يحميهما.
إقتربت اليه ببطء وجذع خوف أن أخيفه أو أفقده وجماعته سحر وحدتههم الصوفية... بدا وكأن الجميع وقوفا وجلوسا ينتظرون رحمة الله تتنزل عليهم من فضاء المعبد الكبير كي تبعد عنهم الويلات عبر كاهن مجهول رسمته الأقدار على جبين اللعنة التي تحكم الغوغاء باسم السماء.
ويلات!!! صرخ بي ضمير الغابة
أي ويلات يا هذا ؟
ألا ترى كمَّ الزهد الذي يكتنف هؤلاء القديسين, وكم السكون الذي يعتريهم فلا تظن بهم السوء والفقر فما تراه إنما هو نتيجة اختيار وليس بقايا موت أو دمار...لا, لا انها اشاعة.... وليست مجاعة.
إنه اختيار... نعم, نعم اختيار... ليس اختيار اليد الأقوى.
لم أكثرث لهذه الأفكار المشوشة فقد كنت أراقب شيئا أكثر عجبا أخذني في ذهول. تلك الذبابة التي تقف على باب منخاره مستكشفة مغارة بشرية جديدة, تأمل أن تجد فيها خير ما يجدون في خبايا تلك الأنوف المتراصة في غابة المجاعة. دخَلت وخرجَت عدة مرات من الكهف الجاف... وما زال ساهم صامت ذلك الطفل, يخفي خلف عينيه شيء ما, شيء من السحر المكنون تكتنفه حكمة لم أعهدها في محجر ...
هللت الذبابة بجناحيها وفركت يديها وأطلقت صرخة انتصار لبني ذابة تدعوهم إلى حفل غني في بقايا إنسان حي... إنها واحة الذباب بل جنة الحشرات... الأجساد الهائمة في المجهول تكثر هنا بين أطلال طازجة...لقد جاؤوا من البعيد تلبية لدعوة موسمية.
استجاب للدعوة أفراد العشيرة وتزاحموا حول أنفه, وتعرفوا على عينيه واذنيه ووقف بعضهم على حافة شفتيه المتشققة, يقفزون بين أخاديدها يمتصون بقايا دماء . وبدون سابق انذار انزلقت ذبابة يافعة على بشرته الخشنة, تمسكت بقشرة جلد صلبة أصابها قحط مزمن, قديم قدم المجاعة الأولى. لم تتحمل القشرة وزن الذبابة فانخلعت من مكانها وسقطت الذبابة. تدحرجت على بساط جسد ناشف أصابه قحط الوفاء الانساني وشح العطاء البشري في سنوات البلاء. واستقرت الذبابة في واد بين أضلاعه .
كانت أضلاعه بازرة كأنما تريد التحرر من جسد ضامر لا يحتوي شحما ولا لحما فتكونت بين الأضلاع أودية من ذل الإنسان... عددتها فوجدتها بعدد الدول المجاورة والتي تسيطر كل منها على ضلع تعده من أجل وجبة حساء دسمة يوم يدعون لحفل التقسيم... تقسيم جثة الغلام وأمه التي ستقضي في أمر من اثنين.
هبطت طلائع الذباب المهاجر على سطح بشرته يتفحصن هذه الأرضية الصلبة, الجافة ... البعض تكاثر حول العينين تمتص رحيقهما والبعض الآخر دخل في أذنيه مفتشا عن مخبأ من عدو لئيم...
والطفل ما زال ساهما... لا يحرك يدا...ياه لم يكن لديه يدين, ان هما إلا قضيبين طويلين ينسلَّان من عارضين لا نبات فيهما يتدلى منهما خمس أغصان باليات. دمعت عيناي لرؤية بشر "مجفف" أعد أضلاعه مرة أخرى فأجدتها بعدد سنوات الظلم والطغيان... أردته أن يبادلني النظر أن يصرخ بوجودي المكتنز باللحم الذي إن هو إلا سبب مجاعته... لكنه تجاهلني بكبرياء وعظمة فَذَلَّ كياني بجبروته.
التفت إلى أمه التي تحتضنه منذ بداية عصر المجاعة حيث ولد قليل الحجم, وعاش من عدم. ازدادت سني عمره ولم يكبر جسده, برقت عيناه ولم يبرق الأمل... لم يمشِ لم يركض بل لم تتكون لديه إلية ليجلس عليها فكان عظم الحوض هو كرسيه الذي يتكأ به على ذراع أمه... الواقفة أبدا كعصا منسية في صحراء ترتشف من الهواء رطوبة وتصطاد بشعرها الفلفلي المبعثر حشرات طائرة تدسها في جوف طفلها... عله يموت فيرتاح أو يعيش متألما فتبكيه بلا دموع ليست كبرياء بل جفاف إنسان...
لم يكترث لوجودي, بل ما عاد يهمه البقاء... ما عاد هنالك من شيء يخسره, بل ما كان له شيء يخسره. ولد في مكان ما, لأم شريدة في وطن ممزق. استُهلكت بعدما بيع زوجها في سوق الأسلحة كي يحرر مزرعة "أمير الجماعة" بل ليقاتل في ركاب الأخوة المؤمنين فيقتل المنشقين... الغريب بأن الجميع منشق والكل مؤمن يُكَفِّر جاره ويفتي بقتله... وسبي زوجته التي يضمها إلى سلطانه فيصونها حتى لا ترتد إلى الرذيلة فتصبح عاهرة. هو سيكفيها نكاحا وعلفا وسينشىء ابنها على الإيمان ومحبة الرحمن بالطاعة العمياء. فاذا ما جاءت الساعة وأمره أن يفدي الأمة فجر نفسه فداء لها في أحد الأسواق... أو أحد الغابات البشرية التي جاء منها... ويعود اليها مترحما على الذباب الذي كان يتخذ من أنفه مخبأ.
تراجعب قليلا على بقايا القذائف المتناثرة وحطام الأبنية المبعثرة... تعثرت بجثث وأشلاء تملأ التاريخ "الندي بالدماء"حيث يقف طفل أبواه عربيان في مكان ما بين المحيط والخليج يتفرج عليه أصحاب الفضيلة ويتسائلون "هل الذبابة في منخار الطفل أنثى أم ذكر".
المصدر: الأديب اللبنانى : محمد إقبال حرب
صحيفة " الوطن العربى الأسبوعية " المستقلة الشاملة - لندن ، المملكة المتحدة ..
رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير :
د. علاء الدين سعيد