المصران الزائد..
أجل..أجل .. مابه ؟ هيّا تفضل قل...
لقد عجز الأطباء عن معرفة وظيفته ..
هذا غير صحيح ...أو على الأقل قل أنه لم يعد صحيحا بعد مكتشفاتي ...
تجمع الإعلاميون حوله وكانوا جميعا أمام مقرّ الوزارة يتدافعون للفوز بتصريحاته .. كان الضغط البشري يقوى عليه فتجتاحه مشاعر متناقضة ..مرة يريد أن يضحك ضحكا هستريا وهو يتذكر تفاصيل الاكتشاف ..ومرة يشعر بالاختناق فيتمنّى أن يصيح في وجههم جميعا ويقول لهم اذهبوا إلى الجحيم ..ماذا تريدون مني ..لعن الله من علّمكم حكاية السبق الصحفي ..والله إنكم لأنتم المصران الزائد حقيقة ...بل أنتم..أنتم نعم أنتم.. انتم المصران الأعور...
كان يعمل طبيبا مختصّا في جراحة المعدة ألقت به وزارة الصحة كالبضاعة الفاسدة إلى مستشفى بمعتمدية ريفية ... كانت كل الآلات الطبية وشبه الطبية يجدها متى احتاجها معطلة فاضطر منذ الأشهر الأولى ،و بعد أن استوعب قسوة السقوط من الأعلى إلى تعلّم بعض المبادئ التقنية حتى يصلحها بنفسه ..وكم مرّة قبل أن يدخل إلى غرفة العمليات يشمرّ عن ساعده ويجري إصلاحات مرهقة على بعض الآلات المعطبة ..
بعد أيام من تسلّم وظيفته بدأ يراجع كلّ شيء وأولها مسألة النبوغ ،وبدأ يطرد عن ذهنه بعض حالات النرجسية و التفوق التي كان يستمتع بها مع زملائه بكلية الطبّ أيام الدارسة الجامعية ...
وجد نفسه قد لامس القاع بسرعة واختلط ببركه ، ومشى في مستنقعاته ..اقتنع أخيرا بأن مفهوم الاختصاص في المدن الريفية و المجتمعات المتخلّفة يسبب لصاحبه الجلطة القلبية و الموت المبكر،لذلك أصبح لا يتورع على مسك المكنسة وأن ينظّف بنفسه فذلك أفضل له من أن يجري عملية جراحية في غرفة متعفنّة بفواضل الضمّادات وبقع الدماء المتخثرة أو أن يضيّع الوقت في البحث على العامل من مكتب إلى مكتب فلا يجده ...
كان حين يفتح البطن البشري يجد كل المصارين في كفّ يده وخاصّة مصارين الفئة الضعيفة البائدة من المرضى التي تأتي إلى المستشفيات العمومية منهوكة بلا سند ولا مال وكلّها أمل في شفاء سريع وسحري .. لم يكن فتح البطن البشري يسبب له أي نوع من القلق والانزعاج فهو بارع براعة تجعله يفتحها كما تفتح علب الطماطم و السردينة ...ورغم انه لا يجد مجالا ليحدّث نفسه بشيء غير نجاح العملية وشفاء المريض إلا أن صورة المعدة والأمعاء والمصران والدماء تبقى عالقة في ذهنه خارج المستشفى وحتى في بيته وفراش نومه . ولا يعرف لماذا كلّما كان يرى ما يشبه ذلك العالم البطني تذكّر صورة الإدارة التونسية ...
ضحك ...
الإدارة التونسية ...شبيهة بماذا ؟.. أعاد الصورة فظهرت بين عينيه صورة الأمعاء الملساء تتملص من قبضة يديه وتنفلت ...
كان وقع حذاء المدير تصل إليه عن بعد موقّعة توقيعا رطبا مزعجا بما يشبه الصوت الخارج من الدهاليز..والمديرون في المناطق القريبة من القاع حريصون دائما على أداء الحركات التي تثير الرهبة في النفوس وتجعل الجميع يطأطئ الرأس ولا يجرؤ حتى على النظر في عيني السيد المدير ...
كان إيقاع حذاء المدير تصله إلى المكتب مصحوبة بكوكبة أخرى من إيقاعات أحذية شبه بلاستكية تبدو خفيفة لا بهرج فيها ولا اختيال كما هو حال وقع حذاء المدير..
الإيقاعات الجماعية على جليّز في جوف "الكلوار الطويل " جعلته يشعر كأنه سيلمس أشياء ملساء رطبة وطويلة في بطن مريض من مرضاه ...
كان موجودا في مكتبه ولكن أجواء غرفة العمليات الجراحية كانت تقترب من ذهنه وتستبدّ بأنفاسه كلّما اقترب منه وقع الخطوات المنفلتة من جوف الممر الساكن المعتم ..كم يكره هذه الخطوات البلهاء التي لا تؤكد إلا على البهرج ؟..قام وحاول أن يتلهى بالنظر من الشباك إلى الأشجار الملتفّة حول المستشفى ..وجد الصور تتشكل أمامه من جديد والخطوات الكريهة الملتوية توقّعها من خلفه ...
مازلت دروس أساتذته الجامعيين حيّة في ذهنه حول أعراض المرض وأسبابه وقد أكسبته الخبرة كثيرا من السرعة والبداهة في تشخيصها ومعالجتها بآلية، وخاصة بعد أن وجد المستشفى يفتقر إلى مخابر تحاليل موثوق بها يتذكر: تقلّص في الأنسجة يؤدي إلى ضيق في مدخل الجيب.و عندما يتفاقم الانسداد بتكاثر بكتيري تصبح الزائدة منتفخة و ملتهبة و مليئة بالصديد..
حمى منخفضة تبدأ عقب ظهور الأعراض السابقة .
عادة إمساك وعدم القدرة على إخراج الغازات.
غثيان وإسهال..
ألم عند الضغط في الربع البطني السفلي الأيمن خاصة عند نهاية ثلث المسافة بين السرّة و عظمة الحوض .
انتفاخ البطن وهي علامة متأخرة ..ألم يبدأ حول السرّة ثم يتحرك باتجاه الربع البطني السفلي الأيمن حيث يصبح الألم متواصل و محدد. و يسوء بالحركة، التنفس العميق، الكحة، العطس، المشي أو لمس مكان الألم...
أصبحت الخطوات قريبة من الباب ...استعد لممارسة شيء من المجاملات وشيء مما تقتضيه البهلوانيات الإدارية ...اندفع إلى مكتبه ممرض أول وقال : السيد المدير.. ثم ممرض ثان وقال: السيد المدير.. ردّ في سره غاضبا : السيد المدير ..وما تريدونني أن أفعل له ...دخل ناظر الجناح مبتسما ابتسامة ثعلبية : السيد المدير سيسلّم عليك ،وأردفها بضحكات خفيفة ...ها..ها..ها .. اندفعت الكوكبة وكأنها في مهرجان سياسي ..
أمام فمّ الباب وقف السيّد متصنّعا الابتسامة متسائلا بأقل ما يمكن من الكلمات ومدّ حركة الباء دون همزة : لا باس...نظر إليه الدكتور ..رددّ في داخله "وهل جئتك شاكيا " ثم سوّى وقفته قليلا وأجاب : الحمد لله ..
كان السيد المدير منتفخا وكأن ليس بينه وبين السماء حجابا أو أنه يستطيع أن يمّد يده إلى السحب فينزل أمطارها أينما يشاء ..وانتظر أن يرى منه بعض حالات الإسهال ..فالحمى تجعل انحباس الغازات في البطن مصدرا للشعور بضرورة إطلاق الريح من حين إلى آخر.. قال :إذا كان عندك أي صعوبات أو مشاكل فمرحبا بك في مكتبي ...سنحلّها بسرعة...ودون أن يدخل إلى مكتبه مرّ إلى الأمام..
كان المريض يتلوى من شدة المرض ..جاؤوا به على جناح السرعة في الليل إلى القسم الاستعجالى.. تلقى بعض الإسعافات الأولية لكن الأوجاع جعلته يصرخ حتى أنّ صراخه أيقظ باقي المرضى ..طلبوا الدكتور العيد المعاطي ..أيقظوه من فراشه ..لم يكن هناك مخبر تحاليل لإجراء الفحوصات اللازمة ..قال للممرضين ماذا أعطيتموه ؟..أجابوا متلعثمين بعد أن اشتبهنا بأنه يشتكي من المصران الزائد أعطينا له حقنة شرجية وبعض المسهلات ..صرخ ضاربا بقبضته على مكتبه : كيف ؟....مصران أعور يعالج بحقنة شرجية ..أغبياء ..والله لو انفجرت زائدته ومات لأدخلتكم جميعا إلى السجن ..أين المريض ؟...وجد كرشه منتفخة تماما مثل كرش السيد المدير..نقر الدكتور البطن فزاد المريض صراخا وتوجّعا ..لاحظ مستوى الانتفاخ فضغط على مكان المصران بخفة محاولا فقط مزيد التأكد ..رفع ثياب المريض إلى أعلى ..طلب منه : تنفس قليلا ..أقوى .. أقوى..
من أين يأتي الصوت إذن ؟..
يكاد يسمع وقع خطوات المدير تأتيه من داخل ممرات الأمعاء ..
حين دخل غرفة العلميات وفتح البطن أمسك بالمصران الزائد فشعر انه أمسك بربطة عنق المدير..كان المصران منتفخا وملتهبا مثله يكاد ينفلق .. وعندما انتهى بنجاح من استئصاله للزائدة تساءل وهو يستلقي على فراش مكتبه وكأنما سيستأنف تفكير شهور :".. ولكن لماذا المصران الزائد زائدا ... ما معنى أن يخلق في جسد الإنسان شيئا زائدا؟... تأمل صورة انتفاخ المدير وقارنها بصورة انتفاخ المصران عند المريض ..وجد أن كليهما في حالة الانتفاخ يشكل لصاحبه مرضا مزعجا يحتاج إلى الاستئصال الجراحي ..قال مستدركا: ولكن نحن لا نتفطن إلى كونه زائدا إلا في حالة المرض فهل هو كذلك في حالة الصحة ؟...
ما دوره إذن؟...
المصران الزائد ويسمى أيضا بالمصران الأعور وكذلك بالزائدة الدودية و هو عبارة عن قطعة صغيرة في نهاية الأمعاء، اسطوانية الشكل، مسدودة النهاية، تقع في بداية الأمعاء الغليظة..
ومقاربتي الجديدة أيها السادة الإعلاميون بعد أن اكتشفت أثر انسداد المصران الأعور - وهو ما جعله اعور (يضحك ) –في وظيفته ووجوده الجسدي الكلي أنه يحتاج إلى فتح هذا الانسداد منذ مرحلة عمرية مبكّرة وتهوئته حتى يمارس وظيفته بشكل سليم وصحي أي بمعنى آخر أن نجعل له عين ثانية كي لا نجعله أعور – يضحك –
نظر في المرآة و تصوّر نفسه في مؤتمر صحفي أمام الوزارة وأخذ يردّ على أسئلة الصحافيين بانطلاق وحرية غير آبه بطبيعة أسئلتهم : انظروا ...
العلم الذي يجهل إلى اليوم بعد كل هذه التطورات التقنية وظيفة مخلوق صغير موجود في مخلوق أكبر منه حتى أنه سماه بالزائد كيف يستحق لقب علم ؟؟...يكفي أن أرفع في وجهه زائدة دودية ..ههههه... أن أرفع في وجهه مصرانا اعور كي أظهر عجزه ..كي أظهر هزيمته ...ها ..ها..ها .. انظروا هذا ..هذا المخلوق الصغير الذي يستطيع إذا التهب وانتفخ أن يقتل صاحبه ... فما بال هذه الأمم المتخلّفة الموجودة في الدنيا كزائدة دودية ملتهبة منذ دهور فلا تنفجر ..عجيب أمرك أيتها الغازات المنحسبة في بطن هذه الشعوب .. مصران صغير أعور يستطيع أن يسلب الحياة من الناس ...والناس في المجتمعات المتخلّفة لا تستطيع أن تسلب حقوقها من غيرها ..
نظر إليهم وهو سابح في عوالم الانتشاء والسكر المعرفي..
قولوا للأطباء أنه مطلوب منّا أن نتصالح اليوم مع فواضلنا ونتعلّم منها ...علينا أن نقترب أكثر من الفواضل ..أجل ..اجل ..لا تستغربوا ..ففي الفواضل نتعرّف على حقيقة أمراضنا بسرعة وعلمية ونتمكن من معالجتها بكثير من البراعة والدقة ...وإنه كلّما اقتربنا من فواضلنا أكثر ازددنا علما .. ومشكلة العرب الصحية تكمن في غازاتها وفواضلها فهي مصابة منذ مدّة طويلة بحالة انسداد وإمساك شديد وبسوء هضم ...
رأى أحد الصحفين يتقدم نحوه ويرفع يده محاولا أن يصفعه مستنكرا : ما هذه الخراريف يا عالم العلماء ..علا هرج القوم وصرخوا نحوه: قل باختصار ماهي الوظيفة الجديدة التي اكتشفتها للمصران الزائد.. قال وهو يضع يده على بطنه من شدّة الضحك : نفتحه من المكان المنسدّ ..نضيف له عينا جديدة و نربطه جراحيا منذ الصغر بالسرّة ونجعل منه شرجا جديدا احتياطيا يمنع من احتباس الغازات وحدوث الالتهابات القاسية وانسداد الأفق ... .