عندما قدَّم لي تلميذي أحمد عمر كتاب الدعاء جميل الطباعة والشكل والمُحْتَوَى ؛ فعلت ما يفعله الكُتَّاب عادة وهو النظر لاسم المؤلف .. وعندما رأيت الاسم ؛ سقطت سنوات في لحظة لأتذكّر في البعيد هناك وجهه .. كان طالباً دمثاً رقيق الحاشية متديناً طيّباً بكل ما في الطيبة من معنى جميل .
قلت بسعادة : أحمد حُطَيْبَة كان تلميذي عندما كان يدرس السنة التمهيدية لطب الأسنان في كلية العلوم .
قال تلميذي أحمد عمر الطالب في بكالوريوس العلوم : - الدكتور أحمد حُطَيْبَة إمام مسجد نور الإسلام .
تذكرته .. غَلَب على ذاكرتي ذلك اليوم الذي كان يُعْقَد فيه امتحانٌ نهائيٌ لمادة عملي النبات .. وترك المسئول من هيئة التدريس الحريّة للطلاب ليغشوا .. يومها كنت معيدة صغيرة بالكلية ، ورأيت الطلاب يسارعون للغش ولا أحد يمنعهم .. بل على العكس .. لقد وجدوا يومها التشجيع لسبب أو لآخر .. لكنه كان هناك بينهم .. يطوي رأسه في داخل ورقة إجابته ، ولا شأن له البتة بكل ما يجرى من حوله ! ..
قلت لأحمد حُطَيْبَة الطالب في تمهيدي طب الأسنان في ذلك الوقت :- افعل كما يفعلون ..
لكنه ابتسم برفق ، ودَس رأسه في ورقته ، ورفض تماماً أن يفعل مثلهم .
لم يكتب أحمد حُطَيْبَةكلمة دكتور مع اسمه على غلاف الكتاب الجميل ، والذي زانته صورة رائعة الإخراج الفنّي لصحراء وجبال شاسعة قفر ، تنبت فيها بعض نخلات باسقات لها طلع نضيد .. وكأن النخلات هي الذاكرين الله كثيراً والذاكرات .. وطلعها هو ثمرات القلوب المؤمنة الصالحة .
الصورة رائعة بألوان جميلة .. الكلمات بيضاء كاللبن المُراق على خلفية سماوية بنفسجية ، في وسطها نور قدسي يتوسط قلب السماء .. تحته سحاب أبيض كالمجهول يشبه الدخان ، يظهر من خلف الجبال الراسية على صحراء ممتدة ، لا روح فيها غير هذه النخلات بألوان جميلة بارزة ولامعة .
قلبت الكتاب - كعادة وطبع كاتبة - لأرى ثمنه ، لكن .. لم يكن هناك ثمن على الكتاب !
كان على قلب سماء الغلاف الأخير بدلاً من الثمن ؛ الآية الكريمة : بسم الله الرحمن الرحيم ( وسَبِّح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب . ومن الليل فسبحه وأدبار السجود ) .. ثم الحديث الشريف ؛ عن مُعاذ بن جبل أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم : " ما عمل آدمي عملاً قط أنجى له من عذاب الله من ذكر الله " .. صدق رسول الله ( صحيح 5644 في صحيح الجامع ) .. وتحت السماء والذكر كانت السحابات خلف الجبال ، ثم صحراء شاسعة قاحلة ممتدة خرساء ، أكاد أسمع صَفْر الريح فيها .
بعد ذلك عَرَّفَني تلميذي سامح طريق مسجد نور الإسلام ، وموعد الدرس للدكتور الإمام أحمد حُطَيْبة .. وذهبت لأجد ما يَسُر قلبي .. كان هناك زحامٌ من المصابيح يملأ المكان .. الاخوة والأخوات فاض بهم المسجد والشارع كما هي الحال في صلاة الجمعة ، رغم أن الوقت كان من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء وبعدها .. والسيارات لا تستطيع المرور من شِدَّة الزحام .
وقف بعض الاخوة ينظمون المرور كي تمر السيارات بين هذا الحشد المسلم الآتي لحضور درس الإمام أحمد حُطَيْبَة .. تداركت دمعتي .. لكن بسمة قلبي لم أدرك مداها.