ذاكرة قارىء

موقع يعنى بالإبداع الأدبي وشؤون الثقافة العراقية والعربية والعالمية

لم يكد أمين نخلة يُصدر «المفكرة الريفية» عام 1942 حتى انبرت الأقلام ترحب بها وبصاحبها أيما ترحاب، مادحة صنيعه الجديد وغير المألوف، في اللغة والأسلوب والشكل وفي مقاربة الأدب الريفي وتحريره من فطريته ونزعته العامية وبُعده «الشفهي». كان النثر اللبناني موزعاً حينذاك بين رومنطيقية جبران خليل جبران الذي أعلن ثورته على الإرث البلاغي، وقد كان بلغ أوجه مع رواد المقلب الأول من عصر النهضة، وبين الفن القصصي الذي بدأ يتجلى مع مارون عبود وسواه، وفن المقالة الذي راج في تلك الآونة مع عمر فاخوري وفؤاد سليمان وبضعة شعراء دأبوا على تدبيج مقالاتهم في الصحف من أمثال الأخطل الصغير والياس أبو شبكة وسواهما. حملت «المفكرة الريفية» فناً نثرياً هو في آن واحد، سليل التراث النثري العربي ووليد الذائقة الحديثة التي خبرها كاتبنا في حقول الأدب الفرنسي المعاصر. هذا الضرب من النثر أدرجه بعضهم في خانة «النثر الفني» وألحقه بعض آخر ب، «المدرسة البرناسية» التي تقول بما يسمى «الفن للفن»، وقضية البرناسية تحتاج إلى نقاش، ووصفه نقاد بأنه «نسيج وحده» وصاحب «المدرسة النخلية» الفريدة، وأنه «لون جديد من الأدب»... وتخطت أصداء هذه «المفكرة» حدود لبنان ولقيت ترحاباً كبيراً في مصر والعراق وسورية وفلسطين... وكم كان مفاجئاً أن يمتدح الكتابَ هذا بضعة شعراء «محافظين» لا عهد لهم بمثل هذا النثر، كأن يقول فيه حافظ إبراهيم: «أدب أمين نخلة شك لؤلؤ»، وخليل مطران: «هذا كاتب يستطيع أن يجمع لك المجلدات في لفظة واحدة»، ومحمد مهدي الجواهري: «كتاب «المفكرة الريفية» هو بحق فتح في عالم الفن والأدب، لم نجد نظيراً له في أسلوبه، ولا في خياله المحلّق ولا في ما تخلل فصوله من روعة الحب والحياة والطبيعة». وكتب الشاعر الفلسطيني أبو سلمى مخاطباً الأمين: «أنت تطلع على الأفئدة بنظرة وتفتح آفاقاً بكلمة وتخلق دنياوات بجملة»... ناهيك عن مقالات كثيرة كتبها أدباء كبار أثنوا فيها على «المفكرة»، ومعظمها مثبت في ملف داخل الكتاب ويشكل مرجعاً لما كتب عنها في تلك الحقبة، ويدل على كيفية استقبالها نقدياً.

إلا أن نثر أمين نخلة لا يمكن قصره على «المفكرة» التي صنعت مدرسة في النثر، على رغم صفحاتها التي تناهز المئة والعشرين، فالكاتب ما لبث أن أكمل مسراه النثري بعدما جمع قصائده التي كانت راجت، في ديوان أول هو «دفتر الغزل» (1952) وكان بمثابة حدث كبير في الحركة الشعرية النيوكلاسيكية التي كان الأمين واحداً من روادها، وقد رسخ هذا الديوان مرتبته في طليعة الشعر الجمالي الذي تجلى في صنيع الشعراء الذين أعقبوا جيل المجددين الأوائل في مصر والعراق ولبنان...

لم ينقطع الأمين عن كتابة النثر في منحاه «الفني» والتأملي، على رغم صعود نجمه الشعري الذي كان توّجه أمير الشعراء أحمد شوقي عام 1925 في قصيدة سماه فيها وارثاً الإمارة ويقول مطلعها: «هذا وليّ لعهدي/ وقيّم الشعر بعدي» ... أما بيتها الأخير فيعلن: «والعصر عصر أمين/ خير ومطلع سعدِ». وأشيع أنّ القصيدة هذه كتبها الأمين نفسه ونسبها إلى أحمد شوقي. ولا أحد يدري.

 

«الايماء الصافي»

بعد «المفكرة الريفية» التي توالت طبعاتها أصدر صاحبها «تحت قناطر أرسطو» (1954) ثم «كتاب الملوك» (1954) ثم «ذات العماد» ( 1957) و «أوراق مسافر» (1967) و «في الهواء الطلق» (1967). واللافت أن أول كتاب أصدره كان «كتاب المئة» (1931) ويضم مئة جملة من «نهج البلاغة» للإمام علي وقد اختارها وعلق عليها انطلاقاً من شرح العلامة محمد عبده. وكان كاتبنا معجباً كل الإعجاب بـ «نهج البلاعة» وقد قال فيه: «إذا شاء أحد أن يشفي صبابة نفسه من كلام الإمام فليقبل عليه في «النهج» من الدفة إلى الدفة وليتعلم المشي على ضوء البلاغة».

لم تُقرأ كتب أمين نخلة النثرية الأخرى التي صنعت تراثه النثري مثلما قرئت «المفكرة الريفية» والأعمال الشعرية، وكادت «المفكرة» تطغى على ما عداها من النثر الذي لم يتمّ تقديمه كما يستحق أن يُقدم. ولعل في هذا الأمر إقلالاً من قيمة الأمين الناثر، مع أن «المفكرة» قد تمثل أوج الصنيع النثري النخلي جمالاً وفرادة وطرافة. فهذا النثر الذي يبدو، في جانبه الريفي بخاصة، أليفا وصافياً و «صبوحاً» وفق عبارة الكاتب نفسه عندما تحدث عن «الصباحة في الكلام»، هو نثر لا يخلو من ضروب الإيحاء والتلميح و «الإيماء الصافي» الذي يخالف «الإسهاب المبهم» كما يعبر الكاتب، ناهيك عن أسرار البلاغة والبديع والبيان وفنون التورية والموازنة والمطابقة والجناس والتوشية والمجاز...

ولا مبالغة في سوق هذه العناصر في الكلام على نثر الأمين الذي يخفي في صميمه خلاصة النثر العربي المجيد. فهذا الكاتب المحدث (جداً) كان تراثي الهوى، وسره إنما يكمن في قدرته الرهيبة على المزج بين شغفه بالتراث وهجسه بالحداثة ساعياً إلى إحياء التراث حداثياً. ومن يقرأ نثره جيداً يلمس كيف أن الجاحظ يلتقي ابن المقفع في قلب هذا الصنيع النخلي المشرع على قدرات النثر في لحظة مواجهته حداثة العصر. والشاهد على شغف الأمين بالتراث النثري وغوصه في أسراره، ووقوفه على فنونه، هو كتابه الفريد الذي شاءه مختارات من عيون النثر العربي وقد سماه «أساتذة النثر العربي» وفيه أعمل وعيه الحاد وذائقته الرهيفة بغية انتقاء ما رآه مواتياً من صفحات هذا النثر، وغايته تقديم صورة موجزة عن بدائعه وطرائفه. وقد أمضى «أمير الصناعتين» ردحاً من عمره ينتقي هذه الصفحات بتأنٍّ وروية. وأبرز ما في المختارات «تراجم» الأدباء أو سيرهم التي صاغها الأمين وكتبها بمهارته وظرفه المألوفين. وتندّ هذه «التراجم» عن سعة اطلاعه على الآراء النقدية التي رافقت أساطين النثر العربي القديم والجديد. فهي حوت أبرز ما قيل في هؤلاء طوال عصور وحقبات. وساق الأمين عبرها أخباراً ونادرات وأكثر من هوامشه معقّباً وشارحاً بعض المفردات والتعابير. فإذا «التراجم» والسير نصوص فنية ونقدية ممتعة ومفيدة في وقت واحد.

غير أن المختارات والنصوص التي رافقتها تكشف جانباً خافياً من ثقافة أمين نخلة وتجربته ومراسه، فهي تلقى ضوءاً على ذاكرته الأدبية وعلى مرجعيته النثرية القديمة والحديثة. وتغطي المختارات ما يقارب خمسة عشر قرناً، بدءاً من العصر الجاهلي. وفي هذا العصر يختار الأمين كاتبة مجهولة تدعى أم عصام. ويتوقف في صدر الإسلام أمام القرآن الكريم قائلاً: «إن النثر العربي ارتفع بالمصحف الى ما وراء الفكر وجاء الذروة التي تتقطع دونها الأعناق، فإنما القرآن هو المعجز في بلاغته، وأسلوبه، ولفظه، وحلاوة فواصله، وسوق معانيه، لا كلام في هذه العربية يبلغ مبالغه في ذلك كله». أما الحديث الشريف فيقول عنه: «كما ارتفع النثر بالقرآن إلى ما وراء الفكر، هكذا بلغ نهايات الإجادة في «الحديث» وهو كلام النبي العربي. فلقد تناهى «الحديث» في البلاغة، والرونق، وإشراق البيان، حتى لقد حق لابن عبدالله، وأيم الحق، أن يباهي بقوله: «أنا أفصح العرب»، وبقوله: «أوتيت جوامع الكلم». ويركّز أيضاً في صدر الإسلام على الإمام علي الذي كان اختار من كتابه «نهج البلاغة» مئة جملة جمعها في كتاب حمل عنوان «كتاب المئة».

المصدر: امين نخلة ..امير النثر العربي الحديث
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 522 مشاهدة
نشرت فى 15 سبتمبر 2015 بواسطة Thakeratkaree

أ. م. د. محمد صالح رشيد الحافظ

Thakeratkaree
موقع خاص يعنى بالقضايا الأدبية والثقافية العراقية والعربية والعالمية مع اهتمام ببعض التوجيهات التربوية والأكاديمية.. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,880