وتأتى مسألة أخرى يعانى منها نسبة من الموسوسين , وهى الخوف الشديد من التلفظ بالطلاق بشكل صريح أو بالتلميح , والرعب الهائل من أن يكون الطلاق قد حدث بسبب ذلك , وهنا لا يكف الوسواسى عن سؤال من حوله : هل وقع منى الطلاق أم لا ؟ وتفشل كل المحاولات لإقناعه بأن الطلاق لم يقع , ويظل يتنقل من شخص إلى شخص فى أسرته يسأله ثم ينتقل إلى علماء الدين يلح عليهم فى السؤال حتى يضيقوا به وبإلحاحه فينهروه أو ينصحوه بالذهاب لطبيب نفسى . عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : "إن الله تجاوز عن أمتى ما حدثت به أنفسها مالم تعمل به أو تكلم " . وهذا الحديث رواه البخارى (5269) فى كتاب الطلاق , باب الطلاق فى الإغلاق , ومسلم (127) فى كتاب الإيمان , باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر , وأبو داوود (2209) فى كتاب الطلاق (باب فى الوسوسة بالطلاق) , والترمذى( 01183) فى كتاب الطلاق (باب ما جاء فيمن يحدث نفسه بطلاق امرأته ) , وابن ماجه (2044) فى كتاب الطلاق (باب طلاق المكره والناسى) . وقال الصنعانى فى كتابه "سبل السلام فى شرح بلوغ المرام" : والحديث دليل على أنه لا يقع الطلاق بحديث النفس , وهو قول الجمهور , وأن الله تعالى لا يؤاخذ الأمة بحديث نفسها وأنه "لايكلف الله نفسا إلا وسعها" , وحديث النفس يخرج عن الوسع , والحديث دليل على أن الأحكام الأخروية من العقاب معفوة عن الأمة المحمدية إذا صدرت عن خطأ أو نسيان أو إكراه , وطلاق المكره لا يقع عند الجمهور , وقد استدلوا بقوله تعالى "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان" , وقال عطاء : الشرك أعظم من الطلاق , وقرر الشافعى الإستدلال بأن الله تعالى لما وضع الكفر عمن تلفظ به حال الإكراه وأسقط عنه أحكام الكفر , كذلك سقط عن المكره ما دون الكفر , لأن الأعظم إذا سقط سقط ماهو دونه بطريق الأولى . وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله عن الوسوسة فى موضوع الطلاق فقال –رحمه الله- : المبتلى بالوسواس لا يقع طلاقه حتى لو تلفظ به بلسانه إذا لم يكن عن قصد , لأن هذا اللفظ باللسان يقع من الموسوس من غير قصد ولا إرادة , بل هو مغلق عليه وكره عليه لقوة الدافعة وقلة المانع . وقد قال النبى صلى الله عليه وسلم : "لا طلاق فى إغلاق" , فلا يقع منه طلاق إذا لم يرده إرادة حقيقية بطمأنينة , فهذا الشئ الذى يكون مرغما عليه بغير قصد ولا اختيار فإنه لا يقع به طلاق (نقلا عن فتاوى إسلامية 3/277) . وقد كان فريق من العلماء يفسرون الإغلاق على أنه الجنون أو أى حالة تفقد الشخص القدرة على التمييز أو حرية الإرادة , والوسواس القهرى على الرغم من أنه ليس جنونا بالمعنى الدارج إلا أنه مرض يتميز باقتحام أفكار معينة لوعى الإنسان دون إرادة أو اختيار منه , وهو يدرك عدم منطقيتها وعدم صحتها ويحاول مقاومتها دون جدوى , وقد يدفعه المرض لتكرار أفعال بعينها بشكل قهرى , ولهذا يدخل فى نطاق الإغلاق المذكور فيما يخص موضوع الوسوسة . وعن ابن عباس رضى الله عنهما عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله تعالى وضع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " . حديث حسن رواه ابن ماجه (20459 ) فى كتاب الطلاق (باب طلاق المكره والناسى) . وواضح من تكرار رواية هذه الأحاديث بواسطة الكثيرين من الفقهاء أن الموضوع كان محل تساؤلات ملحة من الوسواسيين , وهذا ما نراه حتى الآن من عذابات الموسوسين الذين يسألون من حولهم عما إذا كانوا قد تلفظوا بكلمة الطلاق أو أى كلمة تشبهها أو قريبة الدلالة منها أو حتى أى فعل أو إشارة ذات علاقة بالطلاق , ويحاول المريض استفتاء علماء الدين وينتقل من عالم إلى آخر ولا يصل لقناعة أبدا , وإذا وجد أى اختلافات بين العلماء جرى وراءها ووسع نطاقها لكى تظل شكوكه حول موضوع الطلاق بلا إجابة , ومنطقه فى هذا الأمر أنه يخشى أن تكون حياته مع زوجته قائمة على الحرام , وهذا أمر شديد الخطورة بالنسبة له .
وقد يتساءل مريض الوسواس : كيف أفرق بين وساوس الشيطان وبين الوسواس القهرى , والإجابة على ذلك هى أن وسوسة الشيطان تكون فى أشياء محببة إلى النفس خاصة تلك المتصلة بالغرائز والشهوات , فى حين أن الوسواس القهرى يكون فى أشياء ترفضها النفس وتتألم بسببها ومع هذا لا تستطيع دفعها , وفى حين أن وسوسة الشيطان يمكن دفعها بالإستعاذة فإن الوسواس القهرى يعاود الإلحاح حتى مع الإستعاذة . والوسواس القهرى مرض يسببه خلل كيميائى فى المخ , ويحتاج إلى علاج دوائى وعلاج سلوكى . وبما أن الوسواس القهرى مرض فإن المصاب به يثاب على معاناته فى المرض حتى فى حالة وجود الأفكار الوسواسية المتصلة بالعقيدة فهو يتألم منها ويحاول الخلاص ولكنه لا يستطيع دون وجود مساعدة متخصصة , وهذا فرق جوهرى كبير بين أن يشعر الوسواسى المريض أنه خرج من دائرة الإيمان وبين أن يعرف أنه فى حالة احتسابه لآلام المرض يثاب عليها من رب رحيم يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ولا يكلف نفسا إلا وسعها.