لم أكن أعرف أن الزعماء السياسيين لهم أيضا «كرامات»، من تلك التى يتداولها عوام المتدينين فى أحاديثهم عن القدرات الخارقة لشيوخهم التى أودعها الله لديهم.
 
 وليس ذلك وحده أغرب ما فى الأمر، لأن الأغرب أن تظهر تلك الكرامات على يد زعيم شيوعى فى كوريا الشمالية. وهى الدولة الاشتراكية التى تحكمها أسرة واحدة منذ نحو نصف قرن، فقد حكمها كيم ايل سونج منذ عام 1945 ثم ورثه ابنه كيم جونج ايل فى عام 1994 وبعد وفاته فى شهر ديسمبر الماضى، تولى السلطة الحفيد كيم جونج أون البالغ من العمر 28 عاما.
 
لكن الإعلام الكورى أراد أن يحول الحدث إلى اسطورة ترددت أصداؤها فى آفاق الكون. فبثت وكالة الأنباء المركزية يوم الاثنين الماضى 9/1 الخبر التالى: فى نحو الساعة الخامسة وثلاث دقائق مساء (لاحظ الدقة) من يوم 19 ديسمبر عام 2011 ظهرت مئات من الغربان فى السماء من حيث لا ندرى. وحلقت فوق تمثال الجد الرئيس كيم ايل سونج، فى مدرسة تشانجدوك بمنطقة مانجيونجداى، حيث ظلت تصدر أصواتا أقرب إلى النواح كما لو كانت تبلغه بالخبر الحزين الذى التاعت له الأفئدة. ليس ذلك فحسب وانما ذكرت الوكالة فى وقت سابق ان عائلة من الدببة التى عادة ما تدخل فى سبات خلال فصل الشتاء الكورى غادرت مكمنها الثلجى وخرجت إلى الشارع باكية، حزنا على الراحل العظيم، ويعتقد أن العائلة التى ظهرت بحالة يرثى لها كانت تضم أما وأشبالها، حل بهم الجذع فلم يجدوا غير الدموع التى خرجوا يذرفونها أمام الملأ.
 
 
من ناحية أخرى، بدأ الإعلام الكورى فى إضفاء صفات النبوغ والعبقرية على القائد الجديد كيم جونج أول لتعزيز موقفه والإشادة بكفاءته النادرة. فبث التليفزيون شريطا وثائقيا عنه قال انه لا يشق له غبار فى الاستراتيجية العسكرية، حيث أحاط بعلوم الأولين والآخرين فى ذلك المجال، وانه قائد عسكرى متمرس. وأظهره الشريط وهو يقود دبابة ويصدر الأوامر لجنود فى أسلحة الجو والبر والبحر. ولتأكيد نبوغه المبكر ذكر الشريط أن المذكور وضع اطروحته الأولى فى الاستراتيجية العسكرية وهو لم يتجاوز ستة عشر عاما. وانه لا ينام سوى ثلاث أو أربع ساعات فى الليل، فى حين يصرف كل وقته لرعاية شئون البلاد.
 
 
ولأن الزعيم الجديد بذلك النبوغ والندرة فإن الصحف الرسمية دعت الشعب إلى الالتفاف حوله والدفاع عنه «حتى الموت». وكانت إحدى الصحف التى يصدرها لاجئون شماليون قد ذكرت أن سلطات بيونج يانج أمرت السكان بعدم اعتمار قبعات أو لبس قفازات خلال تشييع زعيمهم الراحل فى 28 ديسمبر الماضى، رغم البرد القارص، حتى يقتدوا بخلفه جونج اون الذى سار حاسر الرأس إلى جانب عربة نقل الموتى التى حملت اباه.
ليست جديدة عبادة الزعيم فى كوريا الشمالية، فالجد كيم ايل سونج كانت تطلق عليه أوصاف التعظيم والتبجيل التى تكاد تضارع أسماء الله الحسنى.
 
 وكنا فى السبعينيات نتندر على تلك الأوصاف، التى كانت تنشر ضمن عناوين المواد الإعلانية فى ملاحق جريدة الأهرام مدفوعة الأجر من قبل السفارة الكورية فى القاهرة. والطريف أنهم كانوا يدفعون آلاف الدولارات لنشر تلك المقالات المرسلة من بيونج يانج مترجمة إلى اللغة العربية. وبعد ان تظهر فى الملاحق الإعلانية، فإنهم كانوا يعيدون نشرها مرة أخرى فى الصحف الكورية، باعتبارها مدائح وإشارات من جانب الصحف المصرية بعبقرية الزعيم المحبوب الذى طبقت شهرته الآفاق وتغنى المصريون والعرب بنبوغه.
 
 
هذا النفاق الأخير الذى كان يعتمد على الكذب والتدليس أقل سوءا من النفاق الذى اعتمد على ازدراء الناس واستغبائهم، وافتراض إمكانية تصديقهم لنواح الغربان ودموع الدببة حزنا على وفاة الزعيم، وحين يحدث ذلك فى بلد ملاصق لكوريا الجنوبية، التى قطعت شوطا بعيدا فى تقدمها الصناعى على الأقل. فإن ذلك يثير أكثر من سؤال حول العصر الذى لا يزال يقف عنده نظام كوريا الشمالية، وحول مدى العزلة والتعاسة التى يعيش فى ظلها الشعب الكورى.
 
 
إننا لا نستغرب شيوع النفاق فى بعض المجتمعات غير الديمقراطية، لكننا نندهش لمدى التردى الذى وصل إليه مستوى ذلك النفاق. وإزاء يأسنا من إمكانية تغيير نظام مثل المفروض على كوريا الشمالية، فقد أصبحنا نتطلع لأن يمارس النفاق بصورة أفضل لا تحتقر عقول الناس إلى تلك الدرجة.

 

المصدر: الشروق / بقلم : فهمي هويدي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 180 مشاهدة
نشرت فى 12 يناير 2012 بواسطة TAHAGIBBA

ساحة النقاش

TAHA GIBBA

TAHAGIBBA
الابتسامة هي اساس العمل في الحياة والحب هو روح الحياة والعمل الصادق شعارنا الدائم في كل ما نعمل فية حتي يتم النجاح وليعلم الجميع ان الاتحاد قوة والنجاح لا ياتي من فراغ »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

720,331

السلام عليكم ورحمة الله وبركات

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته