أحد التحديات التى تواجهها مصر فى المرحلة الراهنة هى كيفية أداء حق الشهيد والحفاظ على حق الوطن فى نفس الوقت. وإذا قال قائل إن الحقين وجهان لعملة واحدة، بمعنى أن الشهيد ما خرج وضحى بحياته إلا لأجل الوطن، فلن اختلف معه. إلا أننا نرى على أرض الواقع فكَّا للارتباط بينهما. فثمة من يقف متشبثا بحق الشهيد ومديرا ظهره لحق الوطن. وثمة من بدا منصرفا إلى حق الوطن ومستغرقا فيه إلى الحد الذى جعله متقاعسا عن الوفاء بحق الشهيد. 
ربما بدا هذا الكلام بحاجة إلى ضبط. ذلك اننى هنا لا أتحدث عن النوايا وإنما عن المآلات. إذ ربما كان التصرف الذى صدر عن هذا الفريق أو ذاك وقع بحسن نية، لكنه فى نهاية المطاف جاء على حساب حق الشهيد أو أدى إلى إهدار حق الوطن. فالذين أغلقوا مجمع التحرير الكبير مثلا ربما أرادوا أن يضغطوا على الحكومة لكى تستوفى حق الشهيد أو تستجيب لبعض المطالب العامة، لكن هذا التصرف أدى إلى تعطيل مصالح الخلق فيما لا حصر له من المصالح الحكومية التى توزع على طوابق ذلك المجمع.
 
لكى أكون أكثر وضوحا أقول إن ما أعنيه بحق الشهيد يتمثل فى أمرين، أولهما رعاية أسر الشهداء وتوفير العلاج والعمل للمصابين الذين ما عادوا قادرين على تدبير موارد معيشتهم وإعالة أسرهم بسبب الإصابات التى تعرضوا لها. الأمر الثانى يكون بالسير قدما لتحقيق مطالب الثورة، التى لأجلها خرج الشهداء وضحوا بأرواحهم. وأرجو أن تلاحظ أننى قاصدا تحدثت عن «السير قدما» لأن تحقيق أهداف الثورة يتطلب وقتا طويلا، ومن ثم فالمطلوب هو السير فى الاتجاه الصحيح مع وضوح الهدف المرتجى.
 
أما ما أقصده بحق الوطن فهو توفير المناخ المناسب لقيام أجهزة الدولة بمهامها فى خدمة المجتمع، وتمكين عجلة الإنتاج من الدوران ليس فقط لإنقاذ اقتصاد البلد وإنما أيضا لكى لا يؤدى تعطيل تلك العجلة أو إيقافها إلى مضاعفة أعداد العاطلين وقطع أرزاق العاملين.
 
الأمر ليس سهلا فيما يبدو. لأن حركة الجماهير تتم فى أغلب أحوالها بعفوية لا تمكننا من أن نعرف بالضبط من فعل ماذا. وإذا خطر لأى منا أن يتحدث عن ترشيد تلك الحركة فإنه سوف يعجز عن تحديد الجهة التى يخاطبها. أضف إلى ذلك أن التطور الحاصل فى ثورة الاتصال سمح لكل صاحب صوت أن يرفعه عاليا وأن يزايد على الآخرين وهو قابع فى مكمنه، الأمر الذى يمكنه من أن يجمع من حوله أنصارا من أقرانه. ويحول الصوت المجهول إلى قوة ضغط لا نعرف لها هوية أو وزنا على الأرض. وبطبيعة الحال فإنه إلى جانب المتحمسين المدفوعين بالنوايا النبيلة فإن الأمر لا يخلو من انخراط الفوضويين والمهيجين والعاطلين الذين وجدوا فى عباءة الثورة غطاء و«وظيفة» لهم، ولا أتحدث عن المندسين الذين تتعدد مقاصدهم.
 
هذه الهبَّات العفوية التى تنطلق من المجهول وتغذيها وتزايد عليها فى بعض الأحيان أصوات مجهولة لا تقطع الطريق فقط أمام محاولة الترشيد والإفادة من الضغوط الشعبية لدفع التحرك فى المسار الصحيح، وإنما تدفع البعض إلى ممارسة الإرهاب بحق أى رأى مخالف، وبخاصة دعوات الراغبين فى التصحيح والترشيد. وبات من السهل للغاية أن تتهم الأصوات المخالفة أو الداعية إلى الترشيد ببيع الثورة والتفريط فى دماء الشهداء، ولا يخلو الأمر من الاتهام بالخيانة، وهى التهمة التى قادت مئات الثوار إلى المقصلة على أيدى رفاقهم فى عهد شارل الثانى بإنجلترا وروبسبير فى فرنسا.
 
إننى أخشى أن نضعف من قوة الضغط الشعبى الذى نحن فى أشد الحاجة للاحتفاظ به كرصيد استراتيجى يحافظ على مسار الثورة. ذلك أن ابتذال المليونيات والتظاهرات والاعتصامات يفقد الضغط الشعبى رنينه ورصيده المفترض. ويفض من حوله أنصارا كانوا ممن حملوا الثورة على اكتافهم طول الوقت. أعنى بالابتذال تحديدا أن تطلق دعوات التظاهر والاعتصام فى غير موضعها. ذلك أننى لم أفهم مثلا ما قيل لى أن التظاهر أمام مبنى التليفزيون فى ماسبيرو قصد به الاحتجاج على أدائه السلبى والمطالبة بتطهير الإعلام. وهو هدف إيجابى لا يتحقق بهذا الاسلوب، لأننا لو سلمنا بهذا المنطق فسنجد من يعتصم مطالبا بإعادة هيكلة وزارة الداخلية، أو الحد من إهدار المال العام، أو المطالبة بالقضاء على الفساد المستشرى فى المحليات، أو غير ذلك من أوجه الإصلاح. ناهيك عن أن ذلك النهج يشجع آخرين على قطع الطريق احتجاجا على عدم وفرة أنابيب البوتاجاز أو إساءة توزيع المساكن أو انقطاع التيار الكهربائى. الأمر الذى يحول التظاهرات من ضغوط تمارس للإصلاح السياسى الحقيقى إلى مجرد هبَّات شعبية لمجرد التنفيس عما فى الصدور والتعبير عن الغضب. إننا نريد أن ندخر الميادين للتعامل مع القضايا الكبرى، ونريد أن يكون مجلس الشعب هو الساحة التى يقدم فيها النواب الذين انتخبهم الشعب الاستجوابات وطلبات الإحاطة لرفع صوت المجتمع وإيصاله إلى مسامع المسئولين ومحاسبتهم على أدائهم. وأخشى فى أجواء الهرج الراهن أن تختلط الأوراق بما يجعلنا نخسر الاثنين، فنضيع حق الشهيد ونهدر حق الوطن، بحيث يصبح «الانجاز» الوحيد اننا قعدنا نهتف فى الميدان بالنهار وعقدنا حلقات السمر فى الليل.

 

 

المصدر: الشروق / بقلم : فهمي هويدي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 287 مشاهدة

ساحة النقاش

TAHA GIBBA

TAHAGIBBA
الابتسامة هي اساس العمل في الحياة والحب هو روح الحياة والعمل الصادق شعارنا الدائم في كل ما نعمل فية حتي يتم النجاح وليعلم الجميع ان الاتحاد قوة والنجاح لا ياتي من فراغ »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

721,632

السلام عليكم ورحمة الله وبركات

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته