قال وزير الداخلية إن الشرطة لم تطلق الخرطوش على المتظاهرين. لكن أحد أعضاء مجلس الشعب بعد زيارة «الميدان» عرض فى جلسة جرى بثها على الهواء نماذج من الخرطوش الفارغ الذى تم إطلاقه. فى ذات الوقت أعلن مدير المبادرة الشخصية لحقوق الإنسان أن 46 مواطنا مصريا أصيبت أعينهم بالخرطوش خلال الأيام الأربعة الماضية. حين يحدث ذلك فليس أمامنا إلا أن نصدق الذى رأيناه ونكذب كلام وزير الداخلية. الأمر الذى يضعنا أمام أحد احتمالات ثلاثة، هى: أما أن الوزير يعلم أن الخرطوش تم إطلاقه بالفعل، واختار أن يواصل خطاب الإنكار الذى التزمت به وزارة الداخلية منذ بداية الثورة. حين قتل البعض برصاص القناصة أو فقدوا أعينهم وأصرت الداخلية على أنه لا توجد قناصة. وأما إن الخرطوش أطلق بغير معرفة الوزير، وهو ما لم يستبعده البعض ممن يؤكدون أن رجال الوزير الأسبق حبيب العادلى لا يزالون يهيمنون على الوزارة، ولم يتوقفوا عن مقاومة وإفشال كل محاولة لتغيير سياساتها أو إعادة هيكلتها. الاحتمال الثالث يستدعى فكرة الطرف الثالث، الذى سبقت الإحالة إلى دوره فى حالات سابقة. وفشلت كل الأجهزة الأمنية فى تقديم الدليل على وجود ذلك الطرف.
أيا كان الأمر فالقدر الثابت أن وزير الداخلية لم يقل الحقيقة. وإذا أردنا أن نفترض حسن النية فبوسعنا أن نقول إن المعلومات التى وصلت إليه كانت مغلوطة، فضللته وحاولت أن تضللنا فى ذات الوقت. هناك أمر آخر تؤكده مختلف الشواهد، وهو أن شيئا لم يتغير فى وزارة الداخلية. ربما تغيرت الوجوه والمسميات لكن السياسات لم تتغير. فجهاز مباحث أمن الدولة، أصبح اسمه جهاز الأمن الوطنى. ومن المفارقات أن التسمية الجديدة طرحت من جانب قيادات «المباحث» فى ظل وجود العادلى وقبل سقوط النظام السابق، وأريد بها فقط تبييض الوجه وتحسين الصورة. وفيما عدا تغيير الاسم فلا شىء تغير فى الجهاز الذى كان بمثابة الهراوة التى حكمت مصر طوال الثلاثين سنة الأخيرة على الأقل. أكثر من ذلك فإن الجهاز قرر أن يوسع نطاق عمله فقررت قياداته إنشاء وحدة جديدة باسم «مباحث الإنترنت»، بعدما انتبه الجهاز إلى خطورة الدور الذى تقوم به شبكة التواصل الاجتماعى فى التحريض وتعبئة الرأى العام. حدث ذلك فى عهد اللواء منصور العيسوى، وزير الداخلية فى حكومة الدكتور عصام شرف. وفيما علمت فقد تم تعيين أكثر من 35 شخصا فى هذه الوحدة، وأن هؤلاء الأشخاص ينخرطون فى المجموعات المختلفة التى تتعامل مع الشبكة ويوجهونها لصالح أو ضد مواقف وأشخاص معنيين فى مصر الآن (هل تذكر فرقعة هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر التى ظل مصدرها مجهولا؟). الخلاصة أن العقلية التى تدير الجهاز لم تتغير، من حيث انشغاله بتأمين النظام وليس المجتمع، وبالتلصص على الناس وليس حمايتهم.
لا أريد تبسيط الأمر، ولكننا يجب أن نعترف أولا بأن هناك مشكلة فى داخل وزارة الداخلية ذاتها. صحيح أنها ليست المشكلة الوحيدة لأن فى الشارع، وفى مجتمع ما بعد الثورة مشاكل أخرى. لكننا إذا حاولنا أن نرتب أولويات القائمة. فستكون مشكلة الداخلية على رأس تلك الأولويات.
إننا إذا اعترفنا بأن الداخلية كانت تحكم مصر طوال عهد مبارك، فإن ذلك يعنى أن سقوط مبارك واستمرار أجهزة الداخلية على حالها إن الرجل ذهب حقا لكن أذرعه ما زالت ثابتة فى مواقعها. صحيح أن أعوان العادلى تمت إزاحتهم، لكن أولئك الأعوان لم يكونوا يمارسون سلطانهم وحدهم، وإنما لهم مساعدون وتلاميذ تربوا وكبروا خلال تلك الفترة ــ من القرائن الدالة على استمرار أولئك التلاميذ أن وثائق ورسائل وزارة الداخلية لا تذكر كلمة ثورة 25 يناير. وقال لى من أثق فى معلوماته ومعرفته بما يجرى فى الوزارة أن كلمة «الثورة» إذا ذكرت فى أى وثيقة أو مكاتبة بوزارة الداخلية فإنها تشطب ويكتب محلها «أحداث 25 يناير». بما يعنى أنه بعد مضى عام على الثورة فإن تلاميذ العادلى لا يريدون أن يعرفوا بوجودها، وأنهم لا يزالون يعتبرونها أحداثا مؤسفة واضطرابات عارضة حلت بالبلد.
هناك اجتهادات متعددة فى كيفية إعادة هيئة الداخلية، ليتها تلقى اهتماما من جانب لجنة الأمن القومى فى مجلس الشعب. وليس لى أن «أفتى» فى المسألة، التى لا أشك فى أن أهل الاختصاص أدرى بـ«شعابها»، لكن ما أستطيع أن أقوله إن الوضع الراهن فى الداخلية ينبغى ألا يستمر، وأنه لا جدوى من أى هيكلة طالما بقى تلاميذ العادلى وسياساته فى مواقعهم التى تتحكم فى مفاصل الوزارة، وتحجب جيلا من الضباط الشرفاء الذين ولاؤهم الأول للوطن وليس للعادلى.
ساحة النقاش