رأى عميد معهد الدراسات الإسلامية بالإسكندرية ما لم يره أحد غيره فى بر مصر. ومن ثم كشف لنا ما كان مخفيا ومستورا ومحيرا للجميع، فقد نقلت عنه صحف الثلاثاء الماضى (22/11) ما وصفته بأنه «شهادة خطيرة» على أحداث ميدان التحرير، خلاصتها أوردتها صحيفة «الأهرام» كما يلى: إن الرجل ــ الشيخ الدكتور جميل علام ــ كشف عن رؤيته مجموعة من الأشخاص فوق أسطح مبانى الجامعة الأمريكية (المطلة على ميدان التحرير)، وهم ليسوا من شباب الثورة. وقال: إن فريقا منهم كان ينهب ويسرق فى الجامعة، وفريقا آخر يقوم بإطلاق النار على قوات الأمن المركزى، وفريقا ثالثا يطلق الرصاص على شباب المتظاهرين. وأوضح أن هذه المجموعة كانت تضم ثلاثين شخصا، وقد تم التحفظ على بعضهم فى ميدان التحرير. أضافت الأهرام أن شهادة الدكتور علام جاءت أثناء المؤتمر الصحفى الذى عقده مساعد قائد المنطقة المركزية. 

قرأت الخبر مرتين لكى أتأكد من تفاصيل «رؤية» الشيخ الدكتور. واستوقفتنى عدة أمور منها أنها شهادة «آحاد»، وعند الأصوليين فهى شهادة ضعيفة لا يؤخد بها فى اعتماد الأحاديث النبوية إلا إذا وجد هناك ما يقويها. ويشكك فى صدقيتها إن الرجل وحده هو الذى أدلى بها، علما بأن وجود ثلاثين شخصا فوق مبانى الجامعة الأمريكية ليسوا بالعدد الهيِّن الذى يراه واحد ويعجز عن رؤيته آخرون. ثم أنه قال إن هؤلاء الأشخاص ليسوا من ثوار التحرير. ولم أفهم كيف تسنى له أن يتأكد من ذلك وأن يميزهم عن ثوار التحرير، الذين لا نعرف لهم زيا موحدا ولا سمتا مميزا ولا علامة بارزة تسمح للناظر بأن يتعرف عليهم بالعين المجردة من على بعد أكثر من مائة متر. ثم لابد أن يلفت نظرنا أنه ظهر فى المؤتمر الصحفى الذى عقده نائب قائد المنطقة المركزية، وكأنه جاء لكى يعطى شهادة براءة للقوات المسلحة والداخلية.
 
الأهم من كل ذلك أن رواية الرجل تقول إن أولئك الأشخاص يمثلون الطرف الثالث الذى دأبت الأبواق الرسمية على الإشارة إليه باعتباره المسئول عن الأحداث الجسام التى تطل علينا بين الحين والآخر. ذلك أننا درجنا على استقبال شهادات مماثلة عبرت عنها تصريحات وبيانات رسمية تقول إن القوات المسلحة بريئة وإن الشرطة وقفت لكى تحرس الناس وتحميهم، وإن المتظاهرين كانوا سلميين ومؤيدين ومن شباب الثورة «الكُمَّل»، لكن المشكلة فى الطرف الثالث الذى دأب على أن يندس وسط المتظاهرين، لكى يعكر الأجواء ويوقع بينهم وبين الشرطة والجيش.
 
هؤلاء «الأبالسة» الذين تنشق عنهم الأرض فى كل مناسبة لم يستطع أحد أن يبصرهم بعينيه ولا أن يقتفى أثرهم أو يدلنا على مكانهم. ولأسباب غير معلومة فإنهم يختفون فى المجهول، تماما كما أنهم يجيئون من المجهول، حتى كاد بعضنا يقتنع بأنهم ينتمون إلى عالم الجن والعفاريت. خصوصا أن أجهزتنا الأمنية التى قيل لنا يوما ما بأنها ترصد دبيب النمل وتحصى أوراق الشجر المتساقط فى البلد فشلت فى أن تعثر لهم على أثر.
 
وحده عميد معهد الدراسات الإسلامية بالإسكندرية الذى نجح فيما فشل فيه الجميع. وبعين «زرقاء اليمامة» التى تقول الرواية التاريخية أنها أبصرت وراء الأفق ما لم يبصره آخرون، بحدة البصر وعبقرية البصيرة، رآهم واستطاع أن يدقق فى ملامحهم جيدا، ويميزهم عن ثوار التحرير المعتمدين.
 
لعلها المصادفة التى جعلت شهادة الرجل مصدَّقة ومطابقة لرواية الأجهزة الأمنية والأبواق الرسمية، كما أنها مصادفة أيضا أن يظهر الشيخ واللواء فى مناسبة واحدة. لكن ملاحظتى الأساسية أن إخراج المشهد اتسم بسذاجة تشى بأن السيناريو أعده مخرج مبتدئ فشل فى السينما فقرر أن يوظف خبرته المتواضعة فى خدمة الأمن الذى هو فى خدمة السياسة.
 
لا أعرف كيف أحصى الشيخ الثلاثين «عفريتا»، وقسمهم بين لصوص يسرقون، ومتآمرين يطلق بعضهم الرصاص على المتظاهرين، فى حين يوجه البعض الآخر نيرانهم صوب عناصر الأمن المركزى. وإذا غضضنا الطرف عن أن الذين يسرقون لا يمارسون مهمتهم فوق السطوح. حيث لا يوجد شىء يسرق، الأمر الذى يجعل إحصاءهم متعذرا، فإن الرسالة التى قرأتها فى الشهادة المنشورة كانت كالتالى: هذا شيخ معمم قادم من الإسكندرية معقل السلفية رأى بأم عينيه ما نحاول أن نقنع الناس به لكنهم لا يصدقون أن العسكر جميعا ــ شرطة وجيش ــ أبرياء من دم المصريين، براءة الذئب من دم ابن يعقوب. إلا أن «الأبالسة» الذين لا يريدون لمصر خيرا هم الذين لا يكفون عن الظهور فى كل مناسبة قاصدين تشويه صورة العسكر والوقيعة بينهم وبين الشعب. وقد رآهم الشيخ المبروك وهم يطلقون النار على الشرطة البريئة والمواطنين الشرفاء فى نفس الوقت، تماما كما فعلوا فى موقعة ماسبيرو وفى ميدان الأربعين بالسويس وإبراهيم باشا فى الإسكندرية.
 
السؤال الذى لم أجد له إجابة فى التقرير المنشور عن «رؤية» الشيخ علام هو: هل هذه «الرؤية» شاهدها الرجل فى اليقظة أم فى المنام؟!

 

 

المصدر: الشروق / بقلم : فهمي هويدي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 279 مشاهدة
نشرت فى 27 نوفمبر 2011 بواسطة TAHAGIBBA

ساحة النقاش

TAHA GIBBA

TAHAGIBBA
الابتسامة هي اساس العمل في الحياة والحب هو روح الحياة والعمل الصادق شعارنا الدائم في كل ما نعمل فية حتي يتم النجاح وليعلم الجميع ان الاتحاد قوة والنجاح لا ياتي من فراغ »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

761,450

السلام عليكم ورحمة الله وبركات

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته