مهم لا ريب أن نعرف ماذا يدبر الآخرون لثوراتنا، ولن نستغرب منهم أن يحاولوا اختطافها أو إجهاضها. لكن الأهم أن نعرف الذى فعلناه نحن بأنفسنا، لأنه المستغرب والمفاجئ حقا. 
 (1) 
أخيرا فهمنا من الإعلان الدستورى الذى صدر فى 25 سبتمبر الماضى أن أمامنا أكثر من عام لنقل السلطة إلى المدنيين فى مصر، إذا لم تطرأ أية متغيرات استدعت تأجيل المواعيد حتى إشعار آخر. وليس هناك ما يقطع بأن ذلك الاحتمال ليس واردا. وهذا الذى تمنيناه وانتظرناه. كان يفترض إنجازه هذا العام. ذلك أن التقدير الذى كان متفقا عليه فى اجتماعات لجنة تعديل الدستور أن تجرى الانتخابات العامة فى شهر يونيو، وأن يختار النواب المنتخبون أعضاء الجمعية التأسيسية التى ستتولى وضع الدستور الجديد خلال ستة أشهر، الأمر الذى يفتح الباب لانتخاب رئيس الجمهورية الجديد قبل نهاية العام، وللعلم والانصاف فإن اللجنة المذكورة كان قد طلب منها تعديل 6 مواد من دستور عام 1971، لفتح الباب للانتقال إلى النظام الديمقراطى المنشود، إلا أنها وجدت أن ضمان تحقيق هذه النقلة يقتضى تعديل 11 مادة وليس ست فقط، وهى التى أضافت نصا على المادة 189 دعا إلى تشكيل لجنة تأسيسية لوضع دستور جديد لمصر. ولم يكن ذلك ضمن ما طلب منهم، ولإحكام الانتقال إلى الوضع المستجد فإن اللجنة وسعت من مهمتها وأدخلت تعديلات على خمسة قوانين أخرى نشر الأهرام نصوصها المعدلة فى 21 مارس الماضى. وهى التى تتعلق بانتخابات مجلسى الشعب والشورى والأحزاب وممارسة الحقوق السياسية وانتخابات رئاسة الجمهورية. ومن يقرؤها جيدا يلاحظ أنها إضافة إلى الدعوة لإصدار دستور جديد. فإنها قررت عدة مبادئ غاية فى الأهمية منها فرض الإشراف القضائى الكامل على كل المستويات الانتخابية، النيابية والرئاسية. ومنها أن يكون التصويت ببطاقة الرقم القومى، وفى مشروع قانون الأحزاب طلبت لعضوية أى حزب توكيل ألف شخص فقط، ولكن المجلس العسكرى رفع الرقم إلى خمسة آلاف، كما اشترطت ألا يعتمد الحزب أية تفرقة على أساس دينى سواء فى عضويته أو برامجه أو سياساته، ولكن المادة عدلت بحيث اشترطت ألا يكون للحزب مرجعية دينية.
 
إزاء ذلك فبوسعنا أن نقول إن هذه الحزمة من مشروعات القوانين لو أنها صدرت حسبما كان مقدرا لكانت عجلة النظام الديمقراطى الجديد قد دارت، ولكان لمصر الآن شأن آخر، إلا أن الرياح أتت بما لم يكن على البال. ذلك أنه منذ أعلن عن  تشكيل لجنة تعديل الدستور، وتبين أنها برئاسة مسلم ملتزم هو المستشار طارق البشرى وأن بين أعضائها السبعة قانونى من أعضاء الإخوان المسلمين، حتى قامت الدنيا ولم تقعد. فقد استنفرت ميليشيات المثقفين الليبراليين والعلمانيين الذين احتلوا صدارة المنصات والمنابر الإعلامية، وشنوا ضدها حملة تشهير عاتية ــ إذ حاكموا اللجنة وأدانوا كل ما صدر عنها، وحرضوا الرأى العام على رفض التعديلات فى الاستفتاء عليها، وحين جاءت النتيجة بغير ما يشتهون، فإن بعضهم تحول إلى شتم الأغلبية التى صوتت لصالح التعديلات فى حين عمد أكثرهم إلى التخويف من حضور التيارات الإسلامية والترويع من احتمالات فوز ممثليها بالأغلبية فى الانتخابات. 
 
 (2) 
منذ ذلك الوقت المبكر نسبيا، شهرى فبراير ومارس الماضيين، أصبح الشغل الشاغل لأبواق ومنابر الليبراليين والعلمانيين هو تسويق تلك الحملة.
 
 أدرى أن تصرفات بعض الجماعات الإسلامية ــ السلفيين بوجه أخص ــ أقلقت الجميع، كما أن تصريحات بعض المنسوبين إلى تلك التيارات شوهت صورتها واستخدمت فى التخويف والترويع. لكننى أزعم أن تلك الأمور كانت عوامل مساعدة ولم تكن المحرك الأساسى للحملة. أعنى لو أن السلفيين لم يخرجوا وأن أولئك المتحدثين صمتوا أو قالوا كلاما إيجابيا، لما أثر ذلك على انطلاق حملة التخويف والترويع. حتى أزعم أن أولئك الليبراليين والعلمانيين لا يرون أن الخطأ فى ممارسات أو تصريحات بعض الإسلاميين، وإنما يعتبرون أن الخطأ يكمن فى مجرد وجودهم فى الساحة وتطلعهم إلى التساوى مع غيرهم من الفصائل فى الحقوق والواجبات.
 
كلنا نعرف الذى حدث فى مصر طوال الأشهر الماضية. من المطالبة بتأجيل الانتخابات حتى لا تقع «كارثة» فوز الإسلاميين. إلى الجدل حول الدولة المدنية والدينية، والمطالبة بإصدار مواد قانونية فوق دستورية، للحيلولة دون وقوع «المحظور» وتأثر الدستور الجديد بحضور الإسلاميين. بل والمطالبة بوضع شروط ومواصفات لعضوية اللجنة التى ستضع الدستور، تحسبا لتسرب «أولئك» الأشرار إليها.. الخ.
 
بالتوازى مع ذلك فإن الأبواق ذاتها لم تتوقف عن التخويف من «شبح» تأثير الإسلاميين  فى السلطة. فمن حديث عن مطالبة الأقباط بالجزية وقطع آذانهم، إلى تلويح بمسألة الحدود والعقوبات البدنية، مرورا بولاية الفقيه واستنساخ النموذج الإيرانی، والحديث عن رفع الإعلام السعودية والمطالبة بإعادة الخلافة الإسلامية فى أثناء زيارة رئيس الوزراء التركى رجب طيب أردوغان، وصولا إلى حظر المايوهات البكينى وضرب السياحة فى مصر. وهى عناوين ربما تحدث عنها أشخاص منسوبون إلى التيار الإسلامى، لكن الإعلام سارع إلى اصطيادها ونسبتها إلى مجمل ذلك التيار.
 
لا يتسع المجال لذكر التفاصيل، لكننى سأكتفى بواقعة واحدة لها ولأنها فى هذا السياق، ففى يوم الخميس 15/9 نشرت إحدى الزميلات فى صحيفة «اليوم السابع» تعليقا على إعلان وقعت عليه يتحدث عن شقة مفروشة للإيجار بحى المعادى، أشير فى ختامه إلى أن أصحاب البناية يفضلون المسيحيين لاستئجار الشقة.. وقد انتقدت هذه الإشارة بما تستحقه. لكن أديبا مرموقا من معسكر الليبراليين والعلمانيين كتب فى صحيفة «الأخبار» يوم الأحد التالى (18/9) معلقا بدوره على الإعلان ومستهجنا مضمونه، إلا أنه صب نقده على أنه إعلان لملاك مسلمين يرفضون التأجير لأحد من المسيحيين(!) ــ حيث لم يتردد فى قلب المعلومة بجرأة مستغربة، لاستجهان موقف المسلمين والتنديد بهم!
 
 (3) 
لدى ثلاث ملاحظات على ما جرى فى مصر. الأولى أن الأشهر الستة الماضية ضاعت فى المماحكات والتراشقات والجدل العقيم، وضاعت معها فرصة تأسيس النظام الذى من أجله قامت الثورة، حتى وجدنا أنفسنا فى نهاية المطاف أمام مليونية جديدة خرجت تطالب باسترداد الثورة يوم الجمعة الماضى (30 سبتمبر).
 
الملاحظة الثانية أن حملة التخويف التى حققت نجاحا نسبيا أعادت إنتاج خطاب النظام السابق بكل عناوينه ومفرداته وحتى شخوصه. بحيث أصبحت «فزاعة» ما قبل 25 يناير هى ذاتها فزاعة ما بعد ذلك التاريخ.
 
الملاحظة الثالثة أن حملة التخويف شملت جبهة أوسع بكثير مما نتصور. فالكلام الذى أطلقه البعض فى مصر وجدناه يتردد على ألسنة بعض الحكام المستبدين، الذين ما برحوا يخوفون من شبح الأصوليين والتطرف المرشح لكى يمسك بزمام الأمور فى حال رحيلهم (مبارك دأب على ترديد هذه المقولة للغربيين ولاحقا لوح بها القذافى وعلى عبدالله صالح وبشار الأسد). وهو ذاته الذى تداولته وسائل الإعلام الغربية وتحدث به السياسيون والدبلوماسيون، الذين اعتبروا أن صعود الإسلاميين يهدد مصالحهم. ويهدد الديمقراطية (كأنهم حريصون عليها!) كما أنه ذاته الذى حذر منه رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو فى تحذيراته وتصريحاته الأخيرة أمام الأمم المتحدة من تنامى تجليات التطرف الإسلامى. اختلفت التعبيرات والحسابات حقا، لكن الموقف ظل واحدا فى جوهره.
 
يهمنی فى السياق الذى نحن بصدده الصدى الذى أحدثته الثورات فى دوائر الدول النفطية العربية. ومبلغ علمى أن تلك الدوائر لم تسترح لانطلاق الثورات العربية،  وقد علمت من مصادر أثق فى معلوماتها أن هذا الموضوع كان محل تشاور بين قادة تلك الدول فى بداية الصيف. وأثيرت فى المشاورات أمور خمسة هى:
 
● أنه ينبغى بذل جهد لوضع حد لزحف تلك الثورات، حتى لا تتطاير شراراتها فى المنطقة.
 
● إن ظهور الجماعات الإسلامية بصورة مكثفة فى ساحة العمل السياسى ينبغى أن يتم احتواؤه، بحيث لا يتجاوز ذلك الحضور حدود المشاركة السياسية إلى التأثير على القرار السياسى.
 
● إن النفوذ التركى يتزايد فى العالم العربى، وهو قد يكون مرحبا به فى المجال الاقتصادى، لكن الحاصل أن ارتفاع أسهم حزب العدالة والتنمية ذى المرجعية الإسلامية، يفتح شهية الجماعات الإسلامية فى العالم العربى لأن تحذو حذوه فى طموحاتها.
 
● إن بعض وسائل الإعلام المؤثرة فى العالم العربى ــ قناة الجزيرة بوجه أخص ــ تؤدى دورا أكثر من اللازم فى التعبئة والتحريض بما يتجاوز الخطوط الحمراء التى ينبغى التوقف عندها. وإذا كانت الدول الخليجية قد أعربت عن قلقها من انتشار شرارات الثورات، فلا يستقيم فى ظل هذا الموقف أن تسهم بعض وسائل الإعلام الخليجية فى تأجيج تلك الثورات.
 
● إن الشعوب التى ثارت على حكامها ينبغى ألا تكافأ على ما أقدمت عليه حتى لا تتمادى فيما ذهبت إليه، وإنما ينبغى أن تتلقى رسالة «عدم الرضا» من الدول الخليجية.
 
 (4) 
معلوماتى أن التشاور حول هذه الأمور استمر طوال أشهر الصيف، وأن اجتماعات موسعة وأخرى ثنائية عقدت لذلك الغرض خلال تلك الفترة. ولست متأكدا من دور الأطراف الغربية فى تلك المشاورات، لكن الذى لا شك فيه أنها كانت على صلة بها.
 
عندما حل الخريف ظهرت فى الأفق إشارات عدة توحى بأن ما تم التوافق عليه دخل حيز التنفيذ. من تلك الإشارات ما يلى:
 
● إعادة الرئيس على عبدالله صالح إلى صنعاء لكى يمارس صلاحياته بعدما غاب عنها منذ ثلاثة أشهر كان يعالج خلالها فى الرياض من محاولة اغتياله. وكان الاعتقاد السائد أنه لن يعود حفاظا على الاستقرار فى اليمن، بعد الإصرار الشعبى واسع النطاق الذى يطالبه منذ ستة أشهر بالرحيل.
 
● التراجع فى تقديرات المبالغ التى كان قد أعلن عنها لتخفيف الضائقة الاقتصادية التى تمر بها مصر. فبعدما أعلنت إحدى الدول النفطية عن تقديم عشرة مليارات دولار، وتحدثت دولة ثانية عن سبعة مليارات وثالثة عن خمسة مليارات دولار، فإن هذه الأرقام خفضت، بحيث لم تتلق مصر حتى الآن سوى 500 مليون دولار وديعة من السعودية.
 
● صدرت تعليمات فى بعض تلك الدول بتقييد العمالة الوافدة من دول الثورات العربية ومن بينها مصر. وترتب على ذلك أن تقلصت بصورة ملحوظة عملية تجديد عقود العمل أو إصدار تأشيرات الدخول الجديدة. وتحدثت بعض الدول عن تنظيم جديد للعمالة الوافدة يؤدى إلى تسريح أعداد منهم.
 
● حدث التغيير فى إدارة قناة الجزيرة التى قادت حملة التعبئة فى المرحلة الماضية، بدعوى أن ثمة مرحلة جديدة اختلفت فيها سقوف الحركة، الأمر الذى كان لابد أن يستصحب ظهور قيادات أخرى تناسب الوضع المستجد.
 
كيف ستسير الأمور بعد ذلك؟ لا أعرف على وجه التحديد، ولكن الذى أثق فيه أنه طالما بقيت الجماهير العربية الغاضبة ثابتة على موقفها وصامدة فى الشوارع والميادين، فإننا ينبغى ألا نقلق على المستقبل. حيث ذلك الثبات كفيل بإفشال محاولات الإجهاض والاحتواء. كما ينبغى ألا ننسى أن شعوبنا فتحت أعينها أخيرا وأرادت الحياة، وأن ذلك إيذان بقرب استجابة القدر.. قولوا إن شاء الله.

 

 

المصدر: الشروق / بقلم : فهمي هويدي
  • Currently 28/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
9 تصويتات / 197 مشاهدة

ساحة النقاش

TAHA GIBBA

TAHAGIBBA
الابتسامة هي اساس العمل في الحياة والحب هو روح الحياة والعمل الصادق شعارنا الدائم في كل ما نعمل فية حتي يتم النجاح وليعلم الجميع ان الاتحاد قوة والنجاح لا ياتي من فراغ »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

720,494

السلام عليكم ورحمة الله وبركات

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته