أزمة المجتمع المدنى فى مصر لا أفهم لماذا لا نتعامل مع ملف منظمات المجتمع المدنى بما يستحقه من شفافية وشجاعة، كى نخلصه مما يلاحقه من لغط وشبهات، ونمحو من صفحاته آثار الغموض ومفردات العبط والاستعباط.
(1)
يوم الجمعة الماضى 12/8 كان الموضوع مثارا فى مختلف الصحف القاهرية. وذهبت صحيفة «الشروق» فى الاهتمام به إلى حد إبرازه فى العناوين الرئيسية للصفحة الأولى، التى بدت كالتالى: اخطر أزمة بين مصر وأمريكا منذ سقوط مبارك ــ القاهرة ترفض إشراك ممثلين عن المجتمع المدنى والقطاع الخاص فى إدارة صندوق المساعدات الأمريكية ــ واشنطن تعتبر «تخوين» المنظمات الممولة أمريكيا «تصعيدا غير مبرر» ــ وصحيفة تتهم القاهرة بشن حملة عداء ضد أمريكا.
من المعلومات التى نشرتها الصحف فى ذلك الصباح ان واشنطن قررت استدعاء رئيس مكتب الوكالة الأمريكية للتنمية بالقاهرة جيمس بيفر، بعد عشرة أشهر فقط من تكليفه بالمهمة. ونقلت صحيفة «وول ستريت جورنال» عن مسئول أمريكى قوله إن سبب الاستدعاء هو الاتهامات والجدل المثاران فى القاهرة حول المساعدات الأمريكية لمنظمات المجتمع المدنى. كما ان صحيفة «لوس انجلوس تايمز» ذكرت فى تعليق لها أن جهود الولايات المستمرة لتعزيز الإصلاحات الديمقراطية فى مصر «ينظر إليها بشكل خاطئ». وأشارت إلى أن المجلس العسكرى صور الجماعات التى تحصل على التمويل الأمريكى وكأنها تعمل لحساب حكومة أجنبية. وذكرت أن المجلس خاض معركة وراء الكواليس عدة شهور، لمنع واشنطن من اعطاء الأموال إلى الجماعات المؤيدة للديمقراطية خارج نطاق الإشراف المباشر للحكومة المصرية.
لأنه لا دخان بغير نار وراءه، كما يقول المثل الشائع، فإن هذه الأصداء الأمريكية تدل على أن موضوع المنظمات الأهلية أصبح مصدرا للقلق والتوجس من جانب السلطات المصرية التى ضاقت به. وهو ما تجلى مثلا فى الاتهام الذى وجهه فى 20/7 اللواء حسن الروينى عضو المجلس العسكرى لبعض المنظمات بالحصول على تمويل أجنبى وتدريب بعض عناصرها فى صربيا (حيث مقر المخابرات الأمريكية فى أوروبا).
(2)
ما ذكرته صحيفة لوس انجلوس تايمز عن معركة ما وراء الكواليس صحيح، لأن وزارة التضامن الاجتماعى وجهت فى شهر مارس الماضى رسالة عبر وزارة الخارجية تحفظت فيها على الانشطة التى تقوم بها وكالة التنمية الأمريكية فى القاهرة. واستند التحفظ على أن ثمة اتفاقا بين القاهرة وواشنطن وقع عام 1978، ينص على ألا تمارس مثل تلك الأنشطة إلا من خلال القنوات الرسمية فى مصر.
خلال الأسابيع التالية تواتر الحديث فى وسائل الإعلام حول اللعب فى الساحة المصرية من خلال منظمات المجتمع المدنى. ففى 23/6 نشرت جريدة «الشروق» تقريرا لمراسلها فى واشنطن ذكر أن السفيرة الأمريكية الجديدة لدى مصر أعلنت أمام لجنة الشئون الخارجية أن 600 منظمة مصرية تقدمت بطلبات للحصول على منح مالية أمريكية لدعم المجتمع المدنى. وأضافت أن الولايات المتحدة قدمت 40 مليون دولار خلال خمسة أشهر إلى منظمات المجتمع المدنى لدعم الديمقراطية فى مصر، بمعدل 8 ملايين دولار كل شهر (تعادل نحو 50 مليون جنيه).
فى 28/7 نشر الأهرام أن الحكومة المصرية تلقت تقريرا حول تقديم 600 جمعية أهلية مصرية طلبات للحصول على مبلغ 650 مليون جنيه خصصتها المعونة الأمريكية والاتحاد الأوروبى وصياغة المعونة فى كل من أستراليا وكندا وهولندا وألمانيا، وذكر الأهرام أن مجلس الوزراء شكل لجنة لتقصى حقائق الموضوع.
فى 9/8 نشر الأهرام خبرا عن قيام النيابة العامة بإجراء تحقيقات مع بعض الجمعيات والأحزاب التى تم تأسيسها بعد 25 يناير وقبله، «التى ثبت بالدليل القاطع تلقيها أموالا من الخارج».
فى 10/8 نشر الأهرام تعليقا لزميلنا أحمد موسى عرض فيه بعض المعلومات التى تضمنها تقرير حول الموضوع ذاته أعدته وزارة التعاون الدولى فى 14/7 حول أوضاع 123 منظمة أهلية مصرية. من هذه المعلومات ان الأمريكيين اقتطعوا 60 مليون دولار من المساعدات الاقتصادية التى تقدم لمصر. لصالح أنشطة «دعم الديمقراطية». منها أيضا أن إحدى المنظمات حصلت فى أبريل الماضى على 5 ملايين و600 ألف دولار لتنفيذ برنامج يستمر 9 أشهر ــ وحصلت منظمة أخرى على مليون دولار لإنتاج 30 حلقة تليفزيونية للعرض فى مصر حول ذات الموضوع. وحصل المعهد القومى الديمقراطى على مليونين و600 ألف دولار لتدريب مراقبين وطنيين ومرشحى مجلسى الشعب والشورى. أما المبالغ التى وزعت على بقية المنظمات والأحزاب المصرية فقد تراوحت بين 232 و900 ألف دولار.
لفت التعليق الانتباه إلى أن قرار مد العمل بالموازنة الفيدرالية الأمريكية تضمن نصا غير مسبوق يعطى واشنطن الحق فى توجيه مبالغ من مخصصات برنامج المساعدات لتمويل منظمات المجتمع المدنى دون الرجوع إلى الحكومة!
(3)
فى هذا السياق ثمة شهادة مهمة للدكتورة أمانى قنديل أبرز الخبراء المصريين المتخصصين فى شئون المنظمات الأهلية والمجتمع المدنى (حصلت على الدكتوراه فى عام 1985، وكانت اطروحتها حول نفس الموضوع، ومنذئذ وهى تعمل فى المجال الذى درسته). فى حوار معها ذكرت ما يلى:
● ان منظمات المجتمع المدنى بصيغتها الراهنة ظهرت فى مصر مع بداية الثمانينيات، فى ظل سياسة الانفتاح. وان رجال الأعمال فى القاهرة والإسكندرية هم الذين بادروا إلى انشائها لتشجيع برنامج الخصخصة. وأول جمعية تأسست فى هذا الاطار كانت الغرفة التجارية المصرية الأمريكية التى أصدر الرئيس السابق أنور السادات قرارا جمهوريا بإنشائها فى سنة 85.
● إن الطور الثانى من الجمعيات الأهلية اهتم بحقوق الإنسان. وكانت البداية بالمنظمة العربية التى كان تمويلها ذاتيا ومحليا. وبعدها ظهرت المنظمة المصرية التى كان تمويلها خارجيا، الأمر الذى أغرى آخرين بالدخول فى ذلك المجال، فخرجت منها 13 منظمة أخرى.
● فى ظل إغراء التمويل الأجنبى تكاثرت الجمعيات والمنظمات الأهلية كالفطر بعد ذلك، ورغم أن بعض المنظمات التزمت بالإطار القانونى المقرر وعرفت مصادر تمويلها، فإن البعض الآخر تعامل معها باعتبارها دكاكين ومنظمات عائلية، وفى حين أنها يفترض أن تكون تطوعية وغير ربحية فإن البعض حولها إلى مصدر للتربح ودعوا إلى صرف مكافآت وأجور لأعضاء مجلس الإدارة.
● فى الآونة الأخيرة حدث هجوم تمويلى على منظمات المجتمع المدنى فى مصر خصوصا من جانب المؤسسات الأمريكية. وظهر فى القاهرة وسطاء وسماسرة لإتمام صفقات التمويل. وتشير المعلومات المتوافرة إلى أن 14 منظمة فى مصر حصلت على تمويل يقدر بملايين الدولارات، كما أن إحدى المنظمات حصلت على 3 ملايين دولار لتسويق المرشحين لرئاسة الجمهورية الثلاثة، الذين يحصلون على أعلى الأصوات فى الاستفتاء الجارى على الإنترنت.
لا تعترض الدكتورة أمانى قنديل على التمويل الأجنبى إلا إذا كان مشروطا. وتدعو إلى ضرورة مطالبة الجانب الأمريكى بالإعلان عن المنظمات المصرية التى وزع عليها مبلغ الأربعين مليون دولار. كما تصر على الالتزام بالشفافية فى الموضوع، بحيث تتم احاطة السلطة والرأى العام بقوائم المنظمات المعتمدة على التمويل الأجنبى والمبالغ التى تتلقاها كل منظمة.
(4)
لا أخفى توجسا من التمويل الأجنبى فى كل أحواله، واعتبر أن الأصل فيه عدم البراءة خصوصا إذا كان مقدما من دول لها مصالحها وتطلعاتها. وقد استثنى التمويل الذى تقدمه منظمات دولية، وهو استثناء أتعامل معه بحذر لأن الدول الكبرى أصبحت تتحكم فى أكثر تلك المنظمات.
هذا التوجس يتضاعف حين تلاحظ ذلك الهجوم التمويلى الذى تتابعت موجاته بشكل ملحوظ فى أعقاب ثورة 25 يناير. ومن العبط والاستعباط أن يظن أحد أن أولئك الممولين تقاطروا محبة فى الشعب المصرى، ولكن التمويل فى هذه الحالة بوجه أخص ليس سوى رأس حربة لمحاولة الاختراق الخارجى. كما ذكر بحث الدكتور محمد سعيد ادريس فى مقالته التى نشرها «الأهرام» فى 2/8.
هذا الذى أدعيه ليس مجرد تخوف أو انطلاق من نظرية المؤامرة، لأن شواهد الواقع من حولنا تدل على أن لمنظمات الأهلية الممولة من الخارج أصبحت تؤدى دور المستشرقين فى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. إذ كان أغلبهم يقومون بمهمة دوريات الاستكشاف التى مهدت الطريق لتقدم قوات الاحتلال، وابتكروا لذلك علم الاجناس (الانثروبولوجى) لإنجاح التحكم فى الشعوب المحتلة.
لقد مهدت المنظمات الأهلية المدعومة من الفاتيكان الأرضية لانفصال «إيريان الغربية»عن اندونيسيا فى أواخر التسعينيات، كما كان لها دورها فى انفصال جنوب السودان عن شماله. وهى الآن تنشط فى الضفة الغربية لحث الفلسطينيين على التعايش والتصالح مع استمرار الاحتلال الإسرائيلى. وحين أصدرت الراحلة سناء المصرى فى عام 1998 كتابها «تمويل وتطبيع»، فإنها وثقت الدور الذى يقوم به التمويل الأجنبى لمنظمات المجتمع المدنى فى مد جسور التطبيع بين مصر وإسرائيل.
تعرف الموسوعة العربية للمجتمع المدنى المنظمات الأهلية بأنها تطوعية ومستقلة وغير ربحية. لكن كلمة الاستقلال تحتاج إلى تحريره إذ ليس يكفى أن تكون مستقلة فى إداراتها وانشطتها. لانها ان لم تكن مستقلة فى مصادر تمويلها فأى استقلال آخر لا معنى له. ذلك أن الممول هو الذى يحدد أجندة المنظمة التى يقدم إليها ماله.
من هذه الزاوية فان أغلب منظمات المجتمع المدنى المعتمدة على التمويل الأجنبى فى مصر تصبح مجرحة فى استقلالها، لذلك لم يبالغ السيد جمال عيد مدير الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان حين وصفها بأنها تخرب المجتمع المدنى ولا تخدمه.
إن المجتمع المدنى الحقيقى لا تقوم له قائمة إلا إذا اعتمد على التمويل الذاتى، الذى يكفل للمنظمات الاستقلال والديمومة والبراءة بطبيعة الحال. وللأتراك خبرة ممتازة فى هذا المجال انطلقت من عبقرية فكرة الوقف ــ التى بمقتضاها يتسابق الناس على عمارة الدنيا املا فى الفوز بعمارة الآخرة، إذ من خلال الوقف فإن المجتمع الإسلامى استطاع على مدار تاريخه ان يبنى نفسه مستقلا عن السلطة الحاكمة.
فى تركيا 75 ألف وقف مسجل فى الأناضول ونحو 178 ألف جمعية أهلية، تعتمد كلها على التمويل الذاتى، وتغطى مختلف الأنشطة الاجتماعية والخيرية والثقافية. وهناك جمعية لكل 830 مواطنا، بينما فى مصر جمعية لكل 2800، فصلت فى ذلك دراسة للدكتور إبراهيم غانم فى الموضوع نشرتها المجلة الاجتماعية القومية فى شهر مايو عام 2008.
لقد اقتبس الغربيون نظام الوقف من الدولة العثمانية. ولاتزال الوقفيات تمول أهم الجامعات فى الولايات المتحدة. لكن بلادنا هجرت الوقف وأصبحت تعتمد فى منظماتها الأهلية على التمويل الغربى، فاستبدلنا الذى هو أدنى بالذى هو خير.. وكانت النتيجة أنهم تقدموا بما اخذوه عنا. وكان إضافة لهم، وتعثرنا بما أخذناه عنهم وصار خصما علينا، فنال كل طرف ما يستحقه.
ساحة النقاش