ظواهر صوتية أم سياسية؟
فى صحف الصباح أن رئيس الوزراء الدكتور عصام شرف اجتمع لمدة ساعتين مع ممثلين عن ائتلاف لشباب ثورة 25 يناير، وأن ممثلى 18 حزبا سياسيا يضمهم التحالف الديمقراطى من أجل مصر عقدوا اجتماعا للتنسيق بشأن الانتخابات النيابية، وأن 22 حزبا وجهت إليهم الدعوة لمناقشة مبادئ الدستور الجديد. صحيح أن ذلك حدث يوم الاثنين الماضى (4/7) ولكن مثل هذه الأخبار أصبحت متكررة فى الصحافة اليومية، وهى تعبر عن ازدحام الساحة المصرية بالأحزاب والجماعات والائتلافات، التى تقدم نفسها بحسبانها «قوى سياسية» أو ليبرالية أو دينية وكلها بطبيعة الحال معبرة عن أهداف الثورة.
من حيث المبدأ لا أجد فى ذلك الكم من التشكيلات ما يثير القلق والانزعاج. وقد أجد فيها ملمحا إيجابيا يعبر عن الشوق والتنافس فى العمل العام. وهو ما يغير الانطباع الذى ساد طوال السنوات الثلاثين السابقة، حين بدا أن الناس انصرفوا عن السياسة واعتزلوا العمل العام، وقرروا الانسحاب بعدما يئسوا من أن يكون لهم صوت أو رأى. وهذا الذى حدث فى مصر ليس غريبا ولكنه تكرر فى بلدان كثيرة، خصوصا تلك التى خرجت من طور الكبت والقمع إلى فضاء الحرية. يؤيد ذلك ما يحدث الآن فى تونس، حيث تم إشهار 81 حزبا فى حين أن سكان البلد نحو عشرة ملايين نسمة، وحين يتجاوز سكان مصر ثمانين مليونا، فقد لا نستغرب إذا ظهر فيها أكثر من 600 حزب، إذا اعتبرنا ما حدث فى تونس مقياسا.
ذكرت من قبل أن اليابان بعد صدمة الهزيمة فى الحرب العالمية الثانية ظهر فيها ٤٠٠ حزب استمر منها ١٢ فقط فى الوقت الراهن، بينها أربعة فقط لها حضورها المشهود فى الشارع. وهو ما يعنى أن «المصفاة» الديمقراطية بآلياتها الانتخابية المتعارف عليها كفيلة بتحديد الأحزاب الجديرة بالبقاء والاستمرار، وتلك التى ينبغى أن تنسحب لتخلى الساحة لغيرها.
ما يهمنى فى الموضوع أنه يتعين التفرقة بين أعداد الأحزاب وأوزانها. ذلك أن الحزب أو المنظمة أو الائتلاف قد يكتسب شرعية قانونية أو واقعية، من خلال استيفاء متطلبات التأسيس، لكن تلك الشرعية تظل منقوصة ما لم تترجم على الصعيد الاجتماعى. بمعنى ألا تكتفى الجهة بالحضور على الأوراق أو حتى اللافتات وإنما يجب أن يكون لها حضورها المعتبر على الأرض. والمشكلة تنشأ حين يتصور القائمون على تلك التجمعات أن الأوراق واللافتات كفيلة بتحويلها إلى قوة سياسية ناهيك عن أن تصنع منها قيادة سياسية.
فى ظل النظام السابق كان فى مصر أكثر من عشرين حزبا شرعيا على الورق، ولكن هذه الأحزاب حين خاضت الانتخابات فى سنة 2005 لم تحصل على أكثر من عشرة مقاعد، فى حين أن جماعة الإخوان المسلمين التى كانت محظورة آنذاك فازت بـ88 مقعدا رغم التزوير والتدخلات الأمنية. الأمر الذى يدلل على أنه فى التحرك السياسى الجماهيرى فإن القوة تستمد من الحضور فى الشارع وليس فقط باستيفاء الشروط القانونية والحصول على الرخص وإشهار المقار وتعليق اللافتات.
ليس لدى أى تحفظ على تعدد الأحزاب أو التجمعات الأخرى، لكن تحفظى الوحيد ينصب على إصرار أى منها على فرض رأيه على الآخرين. وادعائه أنه الممثل الشرعى الوحيد للشارع أو الثورة أو الجماعة الوطنية المصرية. ذلك أن قبول السلطة بها لا يعنى حماس المجتمع لها كما أن حضور رموزها على شاشات التليفزيون ربما أعطاهم شرعية إعلامية، ولكن ذلك يوفر لتلك الرموز أى شرعية سياسية.
يفاقم المشكلة أن ثورة 25 يناير ليس لها «صاحب» يمكن أن يدعى تمثيلها لأنها ثورة جماهير الشعب المصرى بأسره، وما لم يتح للشعب أن يختار ممثليه من خلال تصويت حر يسمح لنا بأن نعرف الأوزان الحقيقية للكيانات التى يزدحم بها المسرح السياسى. فليس لأحد أن يحتكر تمثيل الثورة أو المجتمع مهما علا صوته أو ثراؤه أو قدرته على الحشد وإثارة الضجيج الإعلامى. وعلى كل صاحب مشروع أو رؤية لأى مجال يتعلق بالمستقبل أن يتواضع قليلا، بحيث يعتبر ما يقدمه لنا بحسبانه مشروعه هو أو رؤية جماعته، وليس مشروع الثورة أو رأى المجتمع.
على الأقل حتى نعرف وزنه الحقيقى، وما إذا كان مجرد ظاهرة صوتية تتردد فى الفضاء، أم ظاهرة سياسية ومجتمعية لها جذورها الممتدة فى أرض الواقع. خصوصا أن الثورة لم تتخلص من تزوير السلطة لإرادة المجتمع لتستبدلها بتزوير النخبة لتلك الإرادة.
ساحة النقاش