فى الفكر والسياسة:
من الثورة إلى النهضة..كيف؟
دكتور/ محمد السعدنى [email protected]
لاشك أننا أمام لحظة فارقة فى تاريخنا المعاصر، فرضتها ثورة جماهيرية قادها جيل من الشبان أجاد فهم العصر وتسلح بآليات التكنولوجيا ومعطيات العلم والحداثة، ثورة وضعتنا أمام تحدى إعادة كتابة التاريخ ورسم ملامح وطن يسعى للنهوض والتقدم فى عالم ليس فيه مكان للقاعدين والمتفرجين والمتطفلين على عطايا الآخرين وإبداعاتهم.
ولئن تكفلت الثورة بوضع نهاية لنظام سياسى سابق بدا متخلفاً ومفارقا لروح العصر وطبيعة العالم المتقدم حولنا، فقد جاء دور المفكرين والقادرين من نخبة الوطن فى مجالات العلم والإدارة والسياسة أن تبادر بوضع مشروع علمى وثقافى للنهضة، مستفيدة من قوة الدفع الناهضة فى المجتمع وفورة قواه الفاعلة وأشواقها لإنجاز دولة عصرية متقدمة، هذا أو تجرفنا الأحداث إلى سجالات السياسة التى لايزال تركيزها على الآليات دون الأهداف واهتمامها بالفروع دون الأصول وتغليب الشكل على حساب الموضوع.
ولئن اتفقنا من قبل أن التقدم ظاهرة معرفية بالأساس، دافعه الطموح الإنسانى ومحركه الإرادة السياسية ومحيطه الحيوى الفرد والمجتمع والمؤسسات، وأهم عناصره التعليم والبحث العلمى فى إطار مشروع فكرى للنهضة يخاطب المستقبل، وتحتشد له طاقات الأمة وعقولها المبدعة المفكرة وقواها المؤهلة الفاعلة وسواعدها المخلصة العاملة، فإن هذا ماحققته الثورة وأنجزت أهم عناصره ومتطلباته.
هذه هى روشتة التقدم والنهضة، وأحسب أننا قادرون عليها، شريطة أن نتوافق على أولويات أجندتها فى لحظة صدق تاريخى يؤسس لإعادة البناء "بروسترويكا" على خلفية من المكاشفة والمصارحة "جلاسنوست" والتجرد القادر على المراجعة والجرح والتعديل، دون إدانة لعصر بعينه أومحاكمة توجه بعينه أوتوجيه أصابع الإتهام إلى تجارب أصابت وأخطأت أو انتصرت وأنكسرت أوحاولت وأنحسرت عنها هالات الضوء وفلاشات التصوير، فبدت مفلسة عالية الكلفة. المطلوب إذن البناء على ما تحقق بالفعل من إيجابيات فى بنية الشخصية المصرية وصلابة تركيبة المجتمع وتماسكها مع روح جديدة نفخت فيها الثورة وأظهرت معدن المصريين النبيل الذى مثله مجتمع ميدان التحرير فى التضحية والتكافل وتغليب العام على الخاص والتسامى على مثالب الأثرة والأنانية وغلبة المصالح الضيقة.
وصفة النهضة ليس فيها ما هو معجز أو خارق أو مستحيل، فهى وصفة جربتها شعوب وبلدان ودول وأمم سبقت على طريق التقدم وحققت طفرات فى سبيل الإرتقاء والنهضة، وربما كانت ظروفنا أحسن وأفضل عشرات المرات مما كانت عليه أحوال هذه الدول وظروفها وتحديات مصائرها على الأقل بمما حققته ثورتنا الناهضة.
و فى تقديرى فليست المسألة المصرية إستثناء فى مسار التاريخ وليست معضلة تستعصى على الحل، غاية الأمر هى ترتيب الأولويات فى إطار رؤية شاملة قادرة على الإستشراف بعيداً عن الاستاتيكية والقعود والمبادرة بالفعل المحسوب بعيداً عن المخاطرة والنزق والتهور، وبأن توكل الأمور إلى القادرين عليها والمؤهلين لها والعارفين لشروطها وإستحقاقاتها. وهذا هو ما فعلته أمم سبقتنا فى النهوض والحداثة والتقدم . وأنظر إلى تجربة ألمانيا التى خرجت بتداعيات الحرب العالمية فى 1945 بدمار شامل و خراب بطول البلاد وعرضها، ولكنها فى خلال عشر سنوات من التخطيط العلمى والتفكير المنهجى المنظم، وإيقاظ الهمم وشحذ قدرات الناس وصمودهم و تحديهم وإستجابتهم لواقع مرير فرض عليهم أمل المستقبل والعمل له فى إصرار وإبداع وتفانى، لتصبح عضواً إقتصادياً فاعلاً فى السوق الأوروبية المشتركة ومحركاً لعجلة الإقتصاد الأوروبى وماكينة التقدم الصناعى العالمى، وكذا أنظر فى تجربة اليابان بعد الحرب العالمية كيف كانت و كيف أصبحت؟ ولماذا نذهب بعيداً، فلننظر فى تجارب دول كنا فى وضع أفضل منها فى الخمسينات والستينيات، مثل كوريا الجنوبية وماليزيا، وأين هم الآن وأين نحن؟ وماذا كانت روشتة النهضة عندهم وروشتة الإرتجال والعشوائية والسطحية و"شغل القطاعى" و"رزق يوم بيوم" فى تجربتنا المصرية غريبة الشأن عجيبة المآل. بل أين نحن من الصين والهند وهما أصحاب رحلة تاريخية لها نفس تعقيداتنا المصرية بكل ظواهر الشرق وخصائصه العاطفية والإنفعالية وأحلام اليقظة. ماذا فعلوا هم ليصبحوا قوى نووية وإقتصادية وتكنولوجية ناهضة بينما نحن لا نزال نتلمس الطريق و تتوه بنا مسالكه وتخاصمنا علاماته و إرشاداته.
الفارق الجوهرى هو أنهم أعملوا روشتة التقدم والنهضة التى جربها العالم وأثبت نجاحها، أما نحن فلا نزال نصر فى حمق شديد أن نعيد إختراع العجلة وإجتراح خطايا التفكير والتنفيذ والأداء والتوجه. لقد كتبت كثيراً عن نظريات التقدم وشروط النهضة وأصلت فكريا فى هذه المساحة فى مقالات سابقة، وأحسبنا اليوم بفضل الثورة يمكننا الدخول إلى حيز التنفيذ والبناء للحاق بالركب وتحقيق أهداف هى على مرمى البصر وفى متناول اليد.
لقد كان " التعليم والبحث العلمى" هما الشفرة التي صنعت بها هذه الأمم نهضتها، وسر انتصارها على أزماتها والخروج من دوائر تخلفها. عندما استقلت الهند في الخمسينات وفاز حزب جواهر لال نهرو كان أول قرار لحكومته هو تحديث التعليم وإعادة هيكلة مؤسسات البحث العلمى اللذان سرعان ماأصبحا نواة النهضة العلمية والاقتصادية التي شهدتها الهند. وقد أصبحت ماليزيا أحد النمور الاقتصادية الكبرى بفضل السياسات التعليمية التى أسس لها مهاتير محمد ووضع شفرة التقدم والنهضة بسياسات البحث العلمى وتوطين التكنولوجيا والإقتصاد المبنى على المعرفة.
لقد وضع مهاتير محمد المشروع الحضاري الوطني لماليزيا، الذى تمحور حول تأسيس مجتمع علمي متقدم قادر على الإبداع واستشراف المستقبل، مجتمع منتج للتكنولوجيا وليس مستهلكاً لها.<span> </span>
لقد كان من أبرز آثار المشروع الحضاري الماليزي إضطلاع وزارة التربية الماليزية بتطوير المعارف الأساسية وقدرات الابتكار لدى الطلاب بدءاً من الصف الرابع الابتدائي، وذلك بتصميم منهج دراسي يستهدف إكساب الطلاب مهارات التفكير والإبداع فى مجالات العلوم والتكنولوجيا والمعلوماتية والإتصالات، وتدريس مادة "المخترعات" في أربع حصص أسبوعية بواقع 40 دقيقة للحصة الواحدة. ولقد أصدروا في عام 1996 قانون يقضي بتحويل المدارس في ماليزيا إلى "مدارس ذكية" وأصبح لديهم بحلول هذا العام عشرة آلاف مدرسة ذكية في التعليم الأساسي، تطبق المفاهيم التتكنولوجية الحديثة في التعليم وترتبط بالإنترنت من خلال شبكة الألياف البصرية التي تمتاز بسرعة نقل الوسائط المتعددة، وإمكانية التفاعل مع برامج الذكاء الاصطناعى وتكنولوجيات الواقع الافتراضى والطبيعة التخيلية "V.R. "، وربطوها فى برامج طموحة مع مراكز التدريب وتحديث الصناعة، وقد تحقق هذا الإنجاز الكبير على الرغم من تعرض الاقتصاد الماليزي لأزمة عام 1997 عصفت بـالنمور الآسيوية وأطاحت باقتصادياتها، ورغمها شيدت ماليزيا عشرات الجامعات الحديثة الجاذبة لعشرات الآلاف من طلاب الدراسات العليا وفدوا إلى ماليزيا من 54 دولة. وقد تقدمت بذلك على الكثير من الجامعات المرموقة مثل: كينجز كولج، وبريستول، وجلاسكو. كما اختيرت الجامعة الوطنية الماليزية ضمن أفضل 89 جامعة في العلوم، ذلك بفضل الاهتمام بالبحث العلمى والابتكار والابداع.
وهكذا تحولت ماليزيا من دولة زراعية فقيرة يعتمد اقتصادها على تصدير السلع الزراعية والمواد الأولية مثل المطاط والقصدير وغيرها إلى دولة صناعية متقدمة، حيث شارك القطاع الصناعي والخدمي في اقتصادها بنسبة 90 %، وهى الآن رقم 18 في خريطة الصناعة العالمية، كما أدى هذا التحول إلى ارتفاع صادراتها من 5 مليارات دولار عام 1981 إلى أكثر من ستمائة مليار دولار سنوياً، وتضاعف دخل الفرد السنوي في ماليزيا سبع مرات، ليصبح أكثر من عشرة آلاف دولار، وانخفضت البطالة إلى 3 في المئة، والواقعون تحت خط الفقر أصبحوا 5 في المئة من السكان، بعد أن كانت نسبتهم 52 في المئة.
هذا ماحققته ماليزيا بفضل التعليم والبحث العلمى وتحويل الجامعات إلى مؤسسات إنتاج وإدارة المعرفة، وإنشاء وديان العلوم والمدن التكنولوجية وحاضنات ريادة الأعمال، وبفضل ثقافة مهاتير محمد الذى تخرج طبيباً فى جامعة سنغافورة ودرس العلاقات الدولية فى جامعة هارفارد ودرس الصحافة بالمراسلة وله مقالاته فى الاقتصاد والفكر والسياسة نشرها فى "الصنداى تايمز" وعمل مندوبا لبلاده فى الأمم المتحدة وكانت له مساهماته السياسية فى العمل العام. هو إذن لم يكن وزير الصدفة أو مسئول بالمجاملة وشلة الأصدقاء ووكلاء استوظاف واستوزار المحاسيب والمقربين محدودى القدرات والفكر والكفاءة.
هذه هى روشتة النهضة وكما ترى هى ليست معجزة، وهى قادرة لتنقلنا من الثورة إلى مشروع النهضة ..كيف؟ هذا حديث آخر.
________________________________ دكتور محمد السعدنى
ساحة النقاش