تشرين وفراط الزيتون

كتبها نبيل خالد سعيد خصاونة ،

ها قد بدأ شهر تشرين ليحمل معه اول تباشير المطر ويقلب الصيف الحار الى خريف هادئ

هواء تشرين مختلف عن باقي الشهور تشم فيه رائحة الارض بعد ان تبللها دموع السماء فتغسل الشجر وتمسح عن وجه الارض ما علق بها من ادران البشر

لتشرين في الذاكرة حكايات كثيرة أهمها لقاء الاحبة بعد طول فراق لقاء الفلاح مع شجرة الخير شجرة الزيتونة المباركة

شهر تشرين شهر الرصيع كنا ونحن صغار نجمع الزيتون الاخضر ونجلس على الارض بعد فرش المشمع وتصدر الاوامر من امي ما حدا بقوم الا اذا رصع حصته ، كنا نتفنن في البحث عن الحجر السهل الحمل لنضرب به حبات الزيتون فتتطاير منا هنا وهناك وهذه حبة راحت تحت النملية واخرى جلس عليها فلان فتركت في بنطاله بقعة تصعب ازالتها الا بمرور الايام ، وهذا يصرخ أخ دقيت اصبعي ويقوم مولولا يسب ويشتم وتترك الدقة اثرا اسودا تحت اضفره تحتاج الى اشهر لتزول ، كنت ارصع حصتي وقلبي يغلي لانني نصبت الفخة تحت التينة فهذا وقت صيد الحنيني ابو ذيل برتقالي واتحين الفرصة لاقوم

كانت امي تتولى جمع الرصيع ووضعه في دبيات البلاستيك الخضراء وتفرم عليه الفلفل والليمون ثم تركنها وما ان تنتهي حتى تحمد الله ان امنت المونة من الزيتون

هل تظنون ان الحكاية انتهت لا لا من هنا تبدأ الحكاية من بداية خياطة الممدات وتحضير السلالم ودلاوة البلاستيك وتنك سمنة الغزالين وعلب حليب النيدو ولفة اشوالات ابو خط احمر او ازرق وخيطان المصيص والمسلة المركونة منذ زمن فقد حان وقت عملها فكلها تلزم غدا واهمها النوم المبكر لتبدأ اول ايام فراط الزيتون

في الصباح الكل يقاوم النعس في تلك الاجواء التي بدأ يغلب عليها البرد واسمع اصوات التهليل والتكبير من ابي وامي ايذانا ببدء اليوم الجديد واضع يدي على فمي لاخفاء تثاؤب مفاجئ يحمل في طياته رفض جسمي مغادرة فراشه الدافيء .

وتبدأ حملة التعليمات باحضار كل ما هو مطلوب السلم والشوالات والمسلة والممدات

يلا خلينا نبلش بزيتونات الحاكورة جنب الدار بعدين بنروح نفرط زيتونات عدنان

بحركة عفوية تمد المفارش تحت الشجرة وتسمع قرقعة التنك ونحن نرمي فيه حبات الزيتون "لا تنسوا تلموا الحبات الواقعات بلاش تدملوهن. ناس تلقط الداير. وواحد يطلع على الزيتونه من فوق. دير بالك تقع لا تدعس غير عالجدع القوي" كلها تعليمات تصدر قبل البدء بالفراط

ويبدأ تساقط الحب على المفارش كالبرد بعد ان يسند احدنا السلم الى الجذوع العالية

اللي بعبي تنكته يفرغها بالدلو الكبير ديروا بالكوا تكسروا الجدوع الصغيرة لا تخلوا وراكوا ولا حبة يلا يمه استعجلوا قبل ما يخلص النهار أيام الزيت يمه اصبحت أمسيت كلمات ترددها امي أجمل من كل الالحان

ما ان ينتهي قطاف الشجرة حتى تصدر تعليمات جديدة يلا لموا المفارش وفرغوا الزيتون اللي عليها بالشوال نقبوا الورق لا تخلوه مع الزيتون ونملأ الشوال وتظهر علامات الفرح الحمد لله بركة هاي الزيتونة ساوت اشوال .

أجمل ما في الفراط ساعة الاستراحة بعد ان تركز ابريق الشاي على احجاره الثلاث ويتصاعد الدخان من تحته ، وما ان يغلي الشاي وتفوح منه رائحة الميرميه حتى يتدافع الجميع كل يحمل كأسه بيده ،صبوا للكبير بالاول تقولها امي .

تنتهي الاستراحة ونعود الى القطف حتى تعلن الشمس انتهاء اليوم عند المغيب بعد ان يتحول لونها الى لون الشفق وتصدر الاوامر يلا لموا الزيتون على الضو قبل ما تعتم الدنيا وتفعسوهن بجريكوا يلا حملوا الشوال على البهيم وروحوهن عالدار بلاش ينسرقن

ما ان ينتهي الفراط حتى تغمرنا الفرحة لاننا موعودون بالذهاب الى المعصرة ذلك المكان الذي تفوح منه رائحة الحياة

المعصرة ذلك المكان الذي يبقى ساكنا طوال العام ثم يهب من نومته اذا بدا فراط الزيتون وتدب فيه الحياة وترى تزاحم الكل على بابه مع ما به من ضجيج يدفعك لان ترفع صوتك اذا اردت الكلام فيخرج كالصراخ

كنت اذا ذهبت الى المعصرة اخذ فروة ابي لتقيني البرد في الليل ولاحس فيها بدفء حنانه

وانتظر دوري وانا اجلس على شوالات الزيتون تارة او اتمشى في المعصرة انظر الى عجنات الزيتون وقد طفى على وجهها الزيت منتظرا دخول الفرازة لفصله عن الجفت والماء

هناك عند الفرازة تتعالى اصوات الدعاء الى الله بالبركة بعد ان يحضر احدهم تنكاته ليملاها بذلك الزيت الذي يكاد يضيء ، الحمد لله، الله لا يضيعلنا تعب يردهها صاحب الدور والكل يقول آمين

تشرين لقد كبرنا وكبر غصن الزيتون وانت باق كما انت تعود في كل عام لم تتغير

ولكن تغيرت النفوس حتى اننا لم نعد نهتم بموسم قطف الزيتون