توسدت الرؤوس الأكتاف, وارتفع صوت غطيط من مكان ما فى المقدمة . تشاغلت بتقليب صفحات الآيباد , فالرحلة طويلة ولايزال الوقت مبكرا للشعور بالملل . صوت القطار الرتيب تضافر مع غبشة المساء - التى راحت تنسحب فوق الحقول - فطمأنا نفسى , وأزالا التوتر الذى عادة ما يصاحب بدايات الرحلة . لم يمض وقت طويل حتى لمحته مقبلاً يتصبب عرقاً , فاجأنى بالتوقف أمامى ومال بجدية ثم همس : نحن مقبلون على كارثة . قلت بانتباه : أى كارثة تقصد ؟ قال : أنصحك بالانتقال إلى عربة متأخرة , ستكون أكثر أماناً . اعتدل ومضى فى اتجاه المؤخرة . التفت لأراه يبتعد متسانداً على ظهور المقاعد , ويجاهد ليحتفظ بتوازنه حتى اختفى وراء الأبواب المتلاحقة .
لم تفلح محاولاتى لإقناع نفسى بأن الرجل ماهو إلا مهووس يهرف بما لا يدرك , حاولت الركون إلى النوم فظل ذهنى متيقظاً يكرر كلماته الغامضة. راقبت بذهن شارد أضواء المآذن ومصابيح السيارات العابرة وهى تفر أمام ناظرى من خلال النافذة . لفتت نظرى سرعة القطار المتزايدة رغم علامات الطريق التى تشير إلى اقتراب محطة رئيسية . خالجنى ارتياب بأنى قد اختلط على الأمر . لكن القطار اقتحم المحطة ينهب الأرض نهباً , مرقت الأرصفة تحت الأضواء الساطعة بما عليها من بشر , وسرعان ماتلاشت , وتحول الصوت الرتيب لعجلات القطار إلى هدير يعصف بالهدؤ الذى ران لفترة على المكان . عاد بعض الركاب الذين كانوا قد تأهبوا للمغادرة الى أماكنهم . واستلقوا على مقاعدهم , ألقيت نظرة على بقية الركاب اللاهين , مابين مستغرق فى النوم أو عاكف على الهاتف المحمول .
تحركت فى الممر بين المقاعد متخذاً طريقى نحو المؤخرة متفحصاً وجوه الركاب .

التقيت بالمحصل فى الجزء المخصص للبوفيه بالعربة الرابعة , عرفته من سترته الرسمية الملقاة على المقعد الدوار , بدا عليه الاستغراق الكامل وقد شمر عن ساعديه وافترش بجسده الضخم أرضية العربة وسط فوضى عارمة من قطع البازل الملونة . صاح بى دون أن يرفع بصره : احترس . لا تطأ القطع , إنها حديثة لم يجف طلاؤها بعد . بدا المشهد غريباً إلى درجة أيقظت خوفاً غامضاً بين أضلعى . حاولت أن أجعل صوتى ودوداً وأنا أصيح به متجاوزاً ضجة ارتطام الأوانى والمعدات وارتجاج الأسطح والحوائط : هناك خطأ ما , لم يتوقف القطار بالمحطة السابقة . قال الرجل وهو يتأمل الفراغ الذى يتوسط اللوحة متفحصاً قطع البازل بين يديه الملوثتين بالألوان : ألا تريد المشاركة .. إنها كبيرة للغاية على شخص واحد . صحت به وقد فارقنى الهدوء : أخبرك عن القطار .. قال وهو ينظر إلى للمرة الأولى : عد لمقعدك , ابتكر شيئا لتنشغل به . لا يزال الطريق طويلا .
تابعت سيرى فى اتجاه العربة الأخيرة أفتش عن قلق ما فى الوجوه , وأبحث عن الغريب الذى ألقى بالهاجس , فى العربة قبل الأخيرة استوقفنى راكب يقاوم التثاؤب بإشارة من يده , وهمس : لا تذهب إلى العربة الأخيرة , إنهم يفصلونها عن بقية القطار . لمحت العديد من ركاب العربة يعالجون قطعاً من البازل طرحوها فوق الطاولات المخصصة للوجبات أو فوق أفخاذهم , لا تختلف عن القطع التى رأيتها فى عربة البوفيه إلا فى صغرحجمها . كانت الأيدى والثياب ملوثة بالطلاء الرخيص . عندما أقبلت على العربة الأخيرة أوقفنى ازدحام العمال ذوى الزى الموحد الخاص بالشركة المسئولة عن تسيير القطارات وهم يعملون على فصل العربة الأخيرة . أفسح لى بعضهم طريقاً للمرور , تسمرت قدماى بالأرض وأنا أتشبث بالمقاعد بينما راحت قطع المعدات تتطاير وتتساقط من أيدى العمال مع ارتجاج القطار . ألقيت بصرى إلى العربة الأخيرة , كان الركاب مستغرقين كلية فى معالجة قطع البازل وقد تلوث كل شىْ بالطلاء .
سألت العامل الأقرب إلى : ألم يقم أحد بتنبيه الركاب كى يغادروا العربة قبل انفصالها ؟
كان هو نفسه الغريب الذى أسر إلى بالهاجس . كان شاحب الوجه حزيناً كالرسم الباهت . لم يكف عن توجيه العمال , لكنه أجابنى وهو يصرخ ليتغلب على صفير الرياح : ربما لديهم فرصة أفضل .
صحت به : إنهم معرضون للتصادم مع قطار قد يكون فى أثرنا .
أجابنى وهو يعاون فى جذب الرباط الأخير : صدام محتمل , خير من صدام حتمى
رحت كالمغيب أراقب العربة وهى تبتعد ويبتلعها الظلام ..ماأثار دهشتى أن الغريب كان الى جوارى يدقق النظر فى الظلام فى أثر العربة المتلاشية .

المصدر: https://www.facebook.com/mohsen.eltokhy?hc_location=stream ، الكاتب والشاعر سمير احمد القط
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 213 مشاهدة
نشرت فى 6 يونيو 2013 بواسطة SAMIRALSHEIR

مجلة (( نسمات عربية )) لشعبة المبدعين العرب

SAMIRALSHEIR
مجلة الكترونية ناطقة لحال الشعبة العامة للمبدعين العرب رئيس مجلس الادارة سمير عبد الرازق رئيس التحرير سمير احمد القط »

تسجيل الدخول

ابحث

عدد زيارات الموقع

38,460