11-4-2012 | 00:54

قامت بالمغامرة: هبة راشد

مغامرة حقيقية خاضتها صحفية "المشهد" التي تخَفَّت في شخصية فلاحة لكشف أسرار إمبراطورية المخدرات التي حوَّلت فرع دمياط لنهر النيل بمحافظة القليوبية إلى  "شاطئ الجحيم".. كما يطلق عليه الصيادون والفلاحون الذين انقلبت معيشتهم الهادئة إلى حياة مليئة بالرعب والأخطار؛ بعد أن تحول شاطئ النيل في تلك المنطقة غابة يحكمها قانون "البقاء للأقوى".

حال من الغموض سرعان ما تنتابك بمجرد التحدث إلى سكان "شاطئ الجحيم"، بل وحال من الفضول أيضًا لمعرفة ما يدور خلف الستار. ومع كل التحذيرات التي واجهتُها من أهالي المكان، إلا أنني قررتُ خوض التجربة، لكشف أسرار إمبراطورية المخدرات.

وكنت أعلم جيدًا أن دخول هذا العالم الخفي، ومحاولة كشف المستور يحتاج لمبررات قوية، وتخطيط محكم، حيث إن الغريب مُعَرَّض للقتل فورًا، فهذه الوحوش المقنعة بوجوه البشر لا تتعامل سوى بلغة الرصاص.

وبالفعل بدأت رحلة الموت بعدما تقمصت دور "نرجس"، وهي الفلاحة التي تعمل في الأراضي الزراعية على جانبي "شاطئ الجحيم"؛ لتكون تلك حجتي أمام "شياطين البحر"، والتي من خلالها أستطيع الدخول إلى شاطئ قرية "ميت العطار"، وهي إحدى قرى محافظة القليوبية، وتعتبر تلك القرية بمثابة المفتاح السري لاقتحام 42 وكرًا مسلحًا لتجارة المخدرات على شاطئ فرع دمياط يحمل كل منها اسم قريته.

الطريق إلى الجحيم

بدأت الرحلة فجر ذلك اليوم القارس البرودة، المشبعة سماؤه بالغيوم، حين توجهت لموقف السيارات بمدينة بنها، ومنها أخذت طريقي لقرية "ميت العطار"، وما إن وصلت حتى توجهت لأحد أصحاب الأراضي الزراعية، وأخبرته بأني غريبة عن تلك القرية، جئت من إحدى قرى محافظة الغربية لأعمل هربًا من ظروف الحياة القاسية، ولحسن الحظ أن "عم رضا"، وهو صاحب تلك الأرض كان رجلًا طيب القلب تأثر بقصتي، وقرر مساعدتي وتوفير عمل شريف لي في حمايته. وقد أخبرته بأني سأعمل معه نهارًا وأعود ليلًا لإحدى صديقاتي. ووافق العجوز الطيب، واصطحبني معه في إحدى سيارات النقل العام، ومضينا في طريق ضيق تربته رملية، ولكنها سرعان ما تحولت للطينية عند اقترابنا من الشاطئ الذي بدأت معه مغامرتي.

 وبالفعل بدأت العمل في أرض "عم رضا"، الذي كان هو مرشدًا لي دون أن يعلم، وأخبر الجميع بأني قريبته.

قصة العذاب

ذات يوم كان "عم رضا" يجلس في حقله يستند برأسه لإحدى الأشجار الكبيرة وعيناه مليئتان بالدموع، فجلست إلى جواره، وتساءلت: ماذا بك يا عجوز البحر؟ أراك تنظر للمياه وكأنك تتحدث إليها؟! فنظر بعيدًا، وقال: "آه.. لقد اغتصبوك يا فرع النيل". وتلك هي الكلمة التي بدأ بها قصته التي رواها بصوت حزين قائلاً: "ساهم نظام مبارك في تشريد أكثر من 20 ألف صياد وأسرهم منذ أكثر من 7 سنوات لصالح أصحاب المزارع السمكية بعد أن قضت كراكات وزارة الري على الأسماك النيلية؛ بدعوى تطهير مجرى النيل، برغم علمهم بأن تلك الأماكن هي محميات طبيعية يضع بها السمك بيضه؛ الأمر الذي شعر معه الصيادون بأن حياتهم تُغتَصب أمام أعينهم، وليس هذا فحسب بل كانت المحاضر تُحرَّر ضدهم، وتقدر الغرامات الباهظة، في حين أنهم لا يجدون قوت يومهم..

وكانت النتيجة الطبيعية أن أصبح فرع النيل شبه خال من الثروة السمكية، ومع تدهور الحال اتجه بعضهم لطريق الضلال ليتحول الصياد صبيًا من صبيان تجار المخدرات، وتتحول شبكته سلاحًا يحمله، إلى أن جاءت الثورة لتمحو الظلم، ومعها تنفسنا الصعداء، وبدأت أصوات استغاثات الصيادين تصل للمسئولين بوزارة الري لحماية ثروتنا السمكية، ولكن مع حال الانفلات الأمني، احتل "شياطين البحر" شاطئ النيل، ولم تتوقف الخسائر على تشريد الصيادين وضياع قوت يومهم، بل وحصد أرواحهم على يد تجار المخدرات، وليتحول فرع النيل لأكبر وكر للمخدرات والسلاح والبلطجة، ويعيش أهله في كابوس في غفلة من رجال الشرطة.

"دولاب" المخدرات

كان شاطئ النيل قريبًا من أرض "عم رضا" التي كنت أعمل بها. عندما تقف على إحدى ضفاف النيل ترى منظرًا خلابًا يخطف عقلك لعالم ساحر من الجمال حيث مياه النيل والسماء الصافية واللون الأخضر الذي تتلون به تلك اللوحة الجميلة التي هي من إبداع الخالق سبحانه وتعالى، ولكن هؤلاء الشياطين أرادوا أن يحيلوا هذا الجمال إلى جحيم!

وأثناء وقوفي في صمت، غارقة في هذا الجو، إذا بأول وكر للمخدرات يظهر أمام عيني، أو كما يطلقون عليه "دولاب المخدرات"، وهو ذلك القارب الصغير الذي يحمل جميع أنواع المخدرات، بينما أصحابه بجواره على البر حاملين السلاح، ويقومون بعملهم على أكمل وجه، وتقديم مخدر البانجو في ورق جرائد ملفوف بإحكام وتقطيع مخدر الحشيش إلى قطع صغيرة؛ تمهيدًا لبيعه لضحاياهم من خيرة شباب الوطن، فمنهم شباب الجامعات والمدارس يقفون طوابير تشبه إلى حدٍّ كبير طوابير الخبز، فهم كمن يتقاتل على قوت يومه، ويظل هذا الوكر ثابتًا لا يتحرك مادام الوضع آمنًا.

 واللافت للنظر ذلك الرجل مفتول العضلات الذي يحمل البندقية الآلية، ويقف لتأمين هذه القارب.. يا له من ترتيب عبقري ومدبر بدقة، فكل واحد يعرف عمله جيدًا، ويقوم به بمنتهى الدقة، وبعد فترة من وجودي في هذا المكان بدأت جولتي في مياه النيل، والتي رأيت فيها كثيرًا من الأوكار من بين 42 وكرًا للمخدرات على فرع دمياط الذي تقع عليه 5 من محافظات الوجه البحري، وهي: الدقهلية والقليوبية والغربية والمنوفية ودمياط.

 وتبدأ منظمة أوكار المخدرات من قناطر شبين القناطر بالقليوبية، وحتى قناطر دهتورا بمحافظة الغربية، ومنها دولاب قرية تفهنا العزب أمام المعدية بمحافظة الدقهلية، ودولاب قرية سهرجت أمام كوبري سهرجت، ودولاب قرية ميت العز قبل مصنع الطوب ودولاب ميت العبسي عند قرية عرب أبو ذكرى بمحافظة المنوفية، ودولاب كفر ميت العبسي، وفي محافظة الغربية يأتي دولاب قرية سندبسط الذي يقع أمام الجزيرة الوسطى، ودولاب قرية مسجد وصيف، ودولاب قرية الغريب يقع أمام محطة المياه، ودولاب قرية ميت الحارون عند مدخل القرية النهري، وغيرها من الأوكار التي رأيت المسلسل نفسه يتكرر في كل منها.

سألت "عم رضا" عن تلك الكميات الهائلة من الأسلحة: من أين يعثر هؤلاء عليها؟! فأخبرني بأن هناك أقوالاً بأن هذا السلاح تم تهريبه وقولاً آخر بأنه مسروق من خزائن الداخلية في الأحداث التي أعقبت الثورة، بل ورأى بعض الأهالي قنابل يدوية بحوزتهم.

أفلام سينما!

كانت المفاجأة التي كانت أن تُودِي بعقلي حينما رأيت سوقًا حقيقية للمخدرات.. نعم.. فبائعو المخدرات يُروِّجون لبضاعتهم كما تُروِّج بائعة الخضار لبضاعتها "بانجو بانجو..حشيش حشيش.. ابعت يا ابني".. وهناك شخص يقف بجوار كل دولاب ليُدَلِّل على بضاعته بلا خوف ولا حياء.. تلك البضاعة التي تقف عندها طوابير من الشباب والرجال المغيبين، والذين رأيت معهم مشهدًا نراه كثيرًا في أفلام السينما، ولم يخطر ببالي أنني سأراه في الواقع فهناك من الرجال من تمكنت السموم منه، وأصبح عبدًا لها يبيع هاتفه المحمول وساعته وكل ما يملك في سبيل الحصول على "الكيف" الذي أصبح ذليلاً له، بل ويقوم بإخفاء السموم في ملابس نجله الصغير الذي لا يتعدى من العمر 6 سنوات كحركة تمويهية.

 ونتيجة حتمية لما يحدث يرفع "شياطين البحر" أسعار سمومهم، وبالطبع تختلف أسعار القطاعي عن الجملة، مما أثار فضولي لمعرفة أسعار هذه السموم.

حالفني الحظ عندما قابلت إحدى بائعات السمك على شاطئ النيل فذهبت إليها بدعوى شراء السمك، ولكني كنت أريد أن أعرف منها بعض خبايا شاطئ الجحيم، فإذا بمفاجأة أخرى في انتظاري حيث بدأت تلك السيدة العجوز في التحدث معي عما يدور، وكأنه أمر طبيعي فرضته عليهم الحكومة بعدما قلَّ قوت الصيادين، ولم يعد لهم مأوى سوى تجارة السموم، وكنت أعلم جيدًا أن تلك البائعة تخفى تحت سمكها قطعًا من المخدرات لتبيعها لزبائنها، وهنا أردت أن أعرف الأسعار فتصنعت البكاء وتوسلت إليها أن تنقذني؛ بحجة أن والدي يطلب مني مواد مخدرة، وإلا سيقوم بضربي، فأجابتني بأن لفافة البانجو بـ 25 جنيهًا وقرش الحشيش 200 جنيه!

 

 حروب النيل

بعد تلك الرحلة المثيرة عدت إلى منزل "عم رضا"، وجلست بجوار زوجته التي لاحظت علامات الحزن على وجهي، فابتسمت وجلست بجواري، قائلة: "متزعليش يا بنتي.. لينا رب اسمه الكريم". فنظرت إليها متسائلة: كيف تستطيعون الحياة بين هذه النيران؟! فنظرت بعيدًا وامتلأت عينيها بالدموع، وقالت: نحن نشعر بأننا نقيم على أرض محتلة.. نعيش حياة متقلبة مثل البحر فأوقات هادئ وأخرى ثائر، وكذلك فرع النيل الذي يتحول في لحظة لحرب شرسة بالرصاص بين تجار المخدرات قد تسفر عن مقتل وإصابة الكثيرين، وعند سماع طلقات الرصاص يهرول كل منا إلى منزله حتى تهدأ الحرب، ولم يكتف شياطين البحر بحصاد أرواح البشر وخطف آخرين وطلب فدية من ذويهم مقابل تسليمهم، بل وصل الأمر لإحضار نساء لممارسة الرذيلة في القوارب دون حياء، وأضافت: "ده الطبيعي.. هنستنى إيه من قَتَّالين قُتَلَى زي دول.. هربانين من السجون؟! ارحمنا برحمتك يا رب".

كان هذا هو آخر يوم في مغامرتي، والتي أدركت من خلالها لماذا يطلق الصيادون والفلاحون على تلك المنطقة من فرع النيل "شاطئ الجحيم"، فهي بالفعل جزء من جهنم، فهو سوق للمخدرات والسلاح والدعارة بلا حاكم ولا قانون، وفي غفلة من رجال الأمن، وليس هذا فحسب، بل إنها تهديد صريح للاقتصاد هذه الدولة، فقد انتهت الثروة السمكية على يد "شياطين البحر"؛ الأمر الذي اختل معه التوازن في السوق، وأصبح السمك النيلي نادرًا، وتم تشريد 20 ألف صياد وأسرهم.. فمن المسئول؟! وإلى متى ستستمر المهزلة؟!

اعداد: عبيرابراهيم

المصدر: صحيفة المشهد

ساحة النقاش

Publishing
المهندسة/ عبير إبراهيم »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

570,128