تمثل الإدارة الحكومية حجر الزاوية في التنمية الوطنية وهي المسؤولة عن تحويل الإرادة السياسية إلى مشاريع وخدمات والمهم إدارة الاختلاف في المجتمع وضبط السوق وتحقيق العدالة الاجتماعية. وكفاءة وفاعلية الأجهزة الحكومية وقدرتها على الاستجابة لاحتياجات الناس وتطلعاتهم هي الضامن لاستدامة الاستقرار والأمن والأمان والازدهار الاقتصادي.
وقد يكون ذلك هو السبب الرئيس وراء اهتمام كثير من دول العالم في تطوير الإدارة العامة تعليما وتدريبا وممارسة. فهذه الدول المتقدمة مثل الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا تتوسع في إنشاء أقسام وكليات الإدارة الحكومية وهي معقل الرأسمالية واقتصاد السوق.
فقد فطنت تلك الدول إلى أن القرارات والخطط والسياسات الحكومية هي العنصر المؤثر في بناء الاقتصاد وخلق بيئة استثمارية محفزة على الإنتاجية والإبداع. والنجاحات التي تشهدها بعض الدول النامية في شرق آسيا وغربها هي بفضل سياسات واستراتيجيات حكومية صارمة وواضحة نقلت تلك البلدان من مصاف الدول النامية إلى مصاف الدول المتقدمة.
وفي المقابل نجد أن كثيرا من المشكلات والتحديات التي تواجه دول المنطقة العربية وما تعانيه من عدم استقرار وصراعات وتباطؤ في وتيرة التنمية يعود لضعف الأجهزة الحكومية وانعدام الربط بين الجهود المبذولة والموارد المخصصة وتلبية احتياجات المواطنين.
وهنا ربما نتذكر أن الشرارة الأولى التي أوقدت انتفاضة الشعوب العربية ضد الأنظمة المستبدة سببها صفعة بيروقراطية عكست تسلط وسلب حرية مواطن كان يبحث عن وسيلة للتكسب والعيش الكريم. إن الانفلات البيروقراطي بتفرد البيروقراطيات العامة بسلطة صناعة اتخاذ القرار العام وما تتمتع به من حصانة خاصة في ظل غياب المسألة البرلمانية هو سبب كثير من المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعانيها كثير من الدول العربية.
وهذا ما يجعل الكثير منها حبيس التخلف على الرغم من محاولات الإصلاح الإداري التي هي في حقيقتها لا تتعدى كونها تحسينات شكلية لا تعالج جذور المشكلة. إن هناك فجوة بين الجهاز الحكومي والناس تصل إلى حد الجفاء. فبدلا من أن تكون الأجهزة الحكومية في خدمة العموم كما يفترض تدفع المواطن لأن يستجدي الخدمة استجداء! وهكذا تتعطل مصالح الناس ويتولد لديهم شعور بالإحباط وينصرف جهدهم في الحصول على الحد الأدنى من الخدمة. وبهذا تتناقص في المجتمع الهمة وتقل الدافعية نحو عمل الأفضل وتتخلق ثقافة أخذ الكثير بأقل القليل ليتحول المجتمع إلى الاستهلاك بدلا من الإنتاج.
ومع هذا التدني في مستوى الخدمات الحكومية نجد أن هناك انحسارا في الدراسات الحكومية تعليما وبحثا ودراسة واستشارة. فتخصص الإدارة العامة يتم استبداله بتخصص إدارة الأعمال ظنا أن المشكلة تتعلق بتدني كفاءة الأداء وأن ما يصلح للقطاع الخاص يناسب القطاع العام، وهذه مغالطة للواقع وخطأ كبير وعدم فهم لطبيعة القطاع العام وتعقيداته.
فالإدارة العامة تنشد تحقيق الصالح العام وهذا يعني التعامل مع التفاوت في الآراء والاتجاهات والتفضيلات ما يجعل من المستحيل تعظيم الرضا عند جميع مكونات المجتمع. إن القرار الحكومي لا يعتمد على المعيار الاقتصادي وإنما يتداخل فيه المعياران السياسي والاجتماعي، وبالتالي لا يمكن تحقيق الكفاءة الاقتصادية مقارنة بالقطاع الخاص، ولذا من الظلم نعت الجهاز الحكومي بعدم الكفاءة والاعتقاد بأن تطبيق مبادئ إدارة الأعمال هو ما سيعالج مشكلة تدني الأداء.
كما أن التوجه نحو الخصخصة قد يكون الحل في بعض القطاعات، ولكن بكل تأكيد هناك قطاعات لا يستطيع القطاع الخاص تقديمها بل إن الأدبيات تسميها فشل السوق. إذا إنها تحتاج إلى الشراء الجماعي وتستهلك جماعيا، هذا إضافة إلى أن الخصخصة يخالط عملياتها فساد إداري ومالي أو على أقل تقدير لا يستطيع البعض ممن هم أقل حظا في المجتمع تحمل تكلفتها والحصول عليها. وهنا تكمن أهمية تطوير الدراسات الحكومية ليس فقط في تحسين الإجراءات الإدارية الروتينية، وإنما في تجسير الهوة بين البيروقراطيات العامة والعموم بإجراء دراسات الرأي العام والتعرف على التوجهات العامة، هذا إضافة إلى صياغة نموذج للنظام الإداري وقياس الأداء والمهم تقديم برامج تعليمية متخصصة لإعداد القادة في القطاع العام. وهذا جميعه يستلزم إنشاء كلية للدراسات الحكومية يتداخل فيها تخصصات الإدارة العامة والاقتصاد والعلوم السياسية.
إن القضايا الوطنية أصبحت أكثر تعقيدا وتتطلب دراستها وتحليلها بنظرة شامله تنطلق من حقيقة أن القطاع العام هو مفتاح التنمية وأن الإدارة الحكومية توجه والقطاع الخاص يجدف. إن بلدا مثل السعودية يعتمد اقتصادها بنسبة كبيرة على القطاع العام جدير في أن يهتم بتطوير مجال التعليم والبحث في الدراسات الحكومية، بل إن السعودية تملك إرثا إداريا ومدرسة في الحكم والإدارة متميزة تستحق أن توثق وأن تؤطر تجربتها وأن تدرس وتجسد قيمها في العمل الحكومي.
إن وجود أعضاء هيئة تدريس سعوديون متميزون في مجالات الإدارة العامة والاقتصاد والسياسة تخرجوا من جامعات أمريكية عريقة وتطلب خدماتهم خارج السعودية يمثل داعما لإنشاء كلية للدراسات الحكومية. وأخيرا وهو المهم حرص خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين على التطوير بما يحقق الرفاهية والعدل والأمن والأمان للمواطن. إن الظروف التي تمر بها المنطقة تستدعي منا اليقظة والإعداد للقادم من الأيام وهذا لا يتأتى إلا من خلال إنشاء مؤسسة تكون بمثابة مخزون للتفكير الاستراتيجي والتنبؤ بالمستقبل وتطوير القيادات الوطنية والدراسات الاستراتيجية لتكون جسرا نعبر من خلاله إلى المستقبل، مستقبل يحقق طموحات ورؤى القيادة السياسية وتطلعات المواطنين.