نحو إدارة فاعلة للأزمات العالمية

د.محمد حسن يوسف

دكتوراه السياسات والإدارة  العامة

وكيل الدعم الفني للاستثمار، بنك الاستثمار القومي


مر الاقتصاد العالمي بأزمات كثيرة من الركود والكساد، كان أعظمها على الإطلاق ما عُرف باسم "الكساد الكبير" في ثلاثينات القرن الماضي، والذي كاد أن يقضي على النظام الاقتصادي الرأسمالي، لولا ذكاء الاقتصادي البريطاني الكبير "جون مينارد كينز"، الذي أشار بدخول "القطاع الحكومي" كلاعب إضافي مثله في ذلك مثل "القطاع العائلي"، دون أن يؤثر هذا الدخول على الكيان الفكري للنظام الرأسمالي أو آلية عمله. وبفضل هذه الفكرة نجا العالم من الانهيار، كما نجت الرأسمالية من الاندثار.


وكانت آخر هذه الأزمات العالمية، هي الأزمة المالية العالمية التي ضربت الأسواق المالية في عام 2008. وكانت هذه الأزمة تماثل في ضراوتها أزمة الكساد الكبير، ولكن كان هناك الغطاء الفكري الذي يوفر حلاً مثالياً للأزمة، فكانت " روشتة العلاج " واضحة، وعملت بها معظم دول العالم، ولذا استطاعت الدول الخروج من الأزمة بأقل الخسائر الممكنة.

ثم صحا العالم منذ ديسمبر 2019 وحتى الآن على كابوس آخر، غير اقتصادي هذه المرة، تمثل في تفشي وباء فيروس كورونا المستجد (COVID-19). وحيث إن المعضلة الحالية تتعلق بقطاع الصحة، فلم يتمكن الاقتصاديون هذه المرة من وضع حلول جذرية لهذه الأزمة إلا بعد أن تمكن علماء الطب من تحديد علاج ناجح لهذا الفيروس أو اكتشاف مصل يمكنه وقف انتشاره.


وحتى يمكننا فهم الأزمة الحالية التي يمر بها العالم، فلابد لنا من الرجوع للأزمات السابقة لمعرفة أعراضها، وكيف كانت معرفة هذه الأعراض ومواجهتها سبباً في توفير الحلول باتجاه الخروج منها. كانت معظم الأزمات السابقة بمثابة حدوث "صدمة" في جانب الطلب، حيث يؤدي تهاوي الشركات وإغلاقها إلى فقدان الملايين من البشر لوظائفهم، بما يمثل حدوث نقصان فجائي في القوة الشرائية المتاحة أمامهم، فيقل الطلب الفعال على السلع والخدمات. وإزاء تكدس المنتجات في المتاجر، يلجأ أرباب العمال لتقليص حجم أعمالهم، بما يعني خروج أفواج أخرى من القوى العاملة من سوق العمل، وتفشي البطالة، بما يؤدي لمزيد من نقص الطلب الفعال ... وهكذا تستمر هذه الحلقة الجهنمية في الدوران، بما يعني تعرض الاقتصادات الكلية لخسارات كبيرة.


ولذلك كانت الحلول الناجحة لعلاج حالات الكساد تتمثل في قيام البنوك المركزية والسلطات المالية بضخ حزم تحفيزية مالية كبيرة في صورة دعم للقطاع الخاص حتى يستطيع تعويض خسائره ومباشرة أعماله من جديد، فيبدأ في الإنتاج والتشغيل مرة أخرى، فينتعش القطاع العائلي ويتمكن من تلبية احتياجاته الخاصة، بما يؤذن برجوع الطلب الفعال إلى سابق عهده.


أما في الأزمة الراهنة، فتشير التقديرات المبدئية بوصول الخسائر المتراكمة في عامي 2020 و2021 إلى نحو 9 تريليون دولار، وهو رقم ضخم للغاية، يعادل حجم اقتصادي اليابان وألمانيا معا. كما أن التوقعات بشمول حالة الكساد كل من الاقتصادات المتقدمة والناشئة معاً، لتصبح أول مرة منذ الكساد الكبير تضرب حالة الكساد هذين النوعين من الاقتصادات معاً في وقت واحد.

والمشكلة أن الأزمة الراهنة تتفاقم حدتها لأن العالم لم يواجه "صدمة" فقط في جانب الطلب كما كان يحدث في كل مرة، حيث اضطرت الأعمال التجارية لتقليص حجم أعمالها وتقليل أعداد العاملين لديها. بل واجه العالم كذلك "صدمة" في جانب العرض، حيث فرضت ظروف " الإغلاق الكبير " بقاء 30  - 50 بالمائة من قوة العمل في بيوتهم رهن العزل الذاتي.

ومن هنا كانت الاقتراحات بتوفير حزم الدعم والمساعدات لكلا الجانبين: أي تقديم مزايا مالية وإعفاءات ضريبية لأرباب الأعمال والمنتجين وذلك لتفادي الإفلاس، بالإضافة إلى دعم ضروري للأسر حتى تتمكن من تلبية احتياجاتها وذلك لتفادي الوقوع في براثن حلقات الفقر. ولكن إلى أي مدى تستطيع الحكومات المضي قدماً في تقديم هذه الحزم من الدعم والمساعدات؟


وحيث تأخر توصل علماء الطب في اكتشاف مصل ناجع يستطيع القضاء التام على نمو هذا الفيروس ويقلل من شراسته وسرعة انتشاره كما سبق القول، فكان التوسع في تطبيق إجراءات العزل والإغلاق هو الحل المتاح أمام الحكومات. وتتمثل هذه الإجراءات في حظر التنقل، وفرض القيود على التجمعات، وتطبيق التباعد البدني والاجتماعي، والإغلاق الجزئي أو التام لمؤسسات العمل.


وحين اختارت بعض الدول إتباع سياسات من شأنها عدم التقيد بسياسات الإغلاق، فقد فوجئت بأعداد كبيرة من الإصابات، وجاءت توقعات المراكز البحثية بها بتعدي أعداد الوفيات لأرقام غير مسبوقة، مما اضطر هذه الدول للعودة مرة أخرى لسياسة الإغلاق.


وإزاء ذلك، كانت نصائح صندوق النقد الدولي في هذه الأزمة للحكومات هي زيادة الإنفاق على إجراءات الفحص والاختبارات للمشتبه بإصابتهم بالفيروس، ومناشدة المتقاعدين من الأطقم الطبية للعودة للعمل مرة أخرى، والتوسع في شراء الأجهزة والمعدات الطبية المناسبة، بالإضافة إلى إزالة القيود على تجارة المنتجات الطبية.


ولكن مع مرور الوقت وتزايد تكلفة الإغلاق، وجدت الحكومات نفسها أمام مأزق آخر: فقد يؤدي الإغلاق بالفعل لتقليل أعداد الوفيات، ولكنه في نفس الوقت سيؤدي لخسارة الملايين لوظائفهم، مما يعني الوقوع في حالة كساد لا يمكن لأحد التوقع بمدى زمني محدد للخروج منه. ومن هنا تعالت أصوات المنادين بعودة النشاط الاقتصادي الآمن بسرعة، لأن ذلك من شأنه أن يقلل من المصاعب التي يعاني منها الناس. من أجل ذلك بدأت الحكومات مراجعة حساباتها، والسماح بحدوث فتح جزئي للأنشطة مرة أخرى، مع الالتزام بمبدأ التجربة والخطأ حتى تستقر الأمور عند حدود آمنة.

 

وهكذا لم تكن الحلول الاقتصادية هذه المرة بمثابة حلول نهائية لأزمة صحية عالمية، نشأت من ظروف فرضت نفسها على العالم بسبب إصرار النظام الرأسمالي العالمي ومؤسساته الدولية على إتباع دول العالم لإجراءات العولمة التي تقضي بفتح على العالم على مصراعيه أمام حرية التجارة والحركة، ثم اضطرت للنكوص عن هذه الإجراءات إزاء انتشار المرض وسرعة العدوى منه.

<!--<!--<!--<!--

المصدر: -د. عثمان محمد عثمان، وباء كورونا وتبعاته الاقتصادية، سلسلة أوراق الأزمة: مصر وعالم كورونا وما بعد كورونا، القاهرة، معهد التخطيط القومي، ابريل 2020. - قسم الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، تحليل آثار فيروس كورونا المستجد على الاقتصاد المصري والسياسات المقترحة للتعامل مع تداعياته، القاهرة، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ابريل 2020. - د. محمد حسن يوسف، الازمة المالية العالمية: لماذا تستعصي على الحل؟، بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2013.
PLAdminist

موقع الإدارة العامة والمحلية- علم الإدارة العامة بوابة للتنمية والتقدم - يجب الإشارة إلى الموقع والكاتب عند الاقتباس

عدد زيارات الموقع

809,235

ابحث