حسن الخلق والتحبب
( الأرواح جنود مجندة ، ما تعارف منها ائتلف ، وما تناكر منها اختلف) ويزداد الإنسان بالإنسان تعارفاً إذا عامله بخلق حسن ، وتحبب إليه . وقد كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثال المسلم الخلوق ، حتى مدحه رب العزة فقال ( وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٍ )
* كما مدح فيه لطف معشره وحسن أدبه مع الناس ، فاجتمعوا إليه وأخذوا عنه ، وجعلوه أسوتهم ، فقال : ( وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ مهوى أفئدة من عرفه ، يفدونه بأرواحهم ، ويفضلونه على آبائهم وأولادهم .
وبحسن الخلق دخل عقولهم وقلوبهم ، فصنع منهم سادة الأمم وقادتها .
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ( . . وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى فينتقم لله عز وجل )
* وكان إذا رأى خطأ من أحد أصحابه نبهه بلطف دون أن يجبهه ، فيعمّم . عن عمر رضي الله عنهما أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعانا )
فالمسلم داعية ، والداعية ذو أخلاق ، والمدعو يرى الداعية ويقوّمه بما يفعل وما يصدر عنه من تصرف قبل أن يأخذ عنه ، حتى إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا أساء إليه أحد عفا عنه ، وإذا شتمه يهودي رد عليه بما يناسب دون أن يفحش .
روت عائشة رضي الله عنها أن يهوداً أتـَوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : السام عليكم (أي إنهم كانوا يدعون على النبي صلى الله عليه وسلم بالموت )
فقالت عائشة وهي الزوج المحب لزوجها ، الصبية المندفعة غير المتروية ـ فقد كانت في الرابعة عشرة أو أقل ـ : وعليكم ، ولعنكم الله ، وغضب عليكم .
إنه رد منفعل يوضح مدى التأثر الذي أصابها من اليهود حين سمعتهم يدعون على رسول الله جهاراً نهاراً بحجة أنهم يسلمون عليه.
فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : مهلاً يا عائشة ، عليك بالرفق ، وإياك والعنف والفحش ( جواب يدل على سمو في الأخلاق ، وترفع عن السفاسف ، وتحمل في سبيل الدعوة ، وهذا يغيظ الشاتم ويقلقه ، فالمشتوم أهمله ، ولم يرد عليه بعنف يوحي بانفعال وتحرق
قالت : أولم تسمع ما قالوا ؟! ( سؤال لم تطلب عائشة الإجابة عليه ، إنما أرادت الدفاع عن موقفها ، فقد ردت عليهم بمثل ما قالوا
قال صلى الله عليه وسلم : أو لم تسمعي ما قلت ؟! ( وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رد عليهم بقوله : ( وعليكم ) فكلامهم مردود عليهم والموت لهم . فكان جوابه لها بصيغة السؤال نفسه الذي لا يحتاج لجواب ، بل يحتاج أن تنتبه عائشة إلى معناه وفحواه . ( ردَدْتُ عليهم فيستجاب لي فيهم ، ولا يستجاب لهم فيّ )
فهو حبيب الله ورسوله يحميه ويدافع عنه ، واليهود أعداء الله لعنهم وغضب عليهم ، فدعاؤهم على النبي صلى الله عليه وسلم لا يستجاب ، ودعاؤه عليهم مستجاب . . فالويل لهم ثم الويل لهم.
أدب عظيم يعلمُناه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ويجمل بنا أن نتمثله ونحياه .
* ومن التحبب الذي يؤتي ثماره سريعاً : إشعار المخاطب أنه عندك ذو مكانة ، وأن له في قلبك وداً وإكراماً ، فإذا شعر بهذا اطمأن ، فكان إليك قريباً وإلى دعوتك مجيباً . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بارعاً في هذا المضمار :
فقد كان يُردف بعض أصحابه وراءه في سفره ، كما فعل مع معاذ بن جبل وعبد الله بن عباس وأسامة بن زيد رضي الله عنهم جميعاً وكان يطلب من أصحابه أن يدعوا له فهو بحاجة إلى دعائهم ، كما كان يخص بعضهم الآخر بلفتة كريمة منه صلى الله عليه وسلم ، ويلقبهم بالألقاب الكريمة أو الكنى الطيبة :
) الصدّيق ، الفاروق ، أمين الأمة ، سيف الله .. ) وكان يدعو لبعضهم بالخير . . و يؤثر الآخرين بشيء يحبونه . . وهكذا .
فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : أخذ رسول الله بمنكِبَيَّ فقال ) كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
تصوروا معي رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إليه ، ، ويستقبله بوجهه ، ويمسك منكبيه تحبباً ، وهو الفتى الشاب . . فيرى ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم عظيماً لا ينساه ، ولقد عُرِفَ عن ابن عمر أنه كان يمشي في المكان الذي كان رسول الله يمشي فيه ، ويتوقف في المكان الذي توقف فيه ، ويصلي في المكان الذي صلى فيه . . أليس هذا من حسن أخلاق سيد الدعاة ؟!! ألم يثمر هديه العملي في أصحابه ، حتى إن أبا سفيان قال في جاهليته : لقد رأيت هرقل في أصحابه ، وكسرى في أصحابه ، فلم أجد أحداً يُعظّم أحداً كتعظيم أصحابِ محمد محمداً ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم .
إنك إن مدحت إنساناً مسْلِماً بما فيه فقد استفدت أموراً عدة :
أولها : أنك ترفع من قدره ، وتشعره بمكانته عندك .
ثانيها : أنك تجعل بينك وبينه وداً ورباطاً من الأخوة والمحبة .
ثالثها : أنك تدفعه إلى التمسك بما فيه من خصال حميدة مدحته عليها .
رابعها : أنك تحثه على الاستزادة من هذه الشمائل .
خامسها : أنه ينجذب إليك وترتاح نفسك لسماعك ومعاشرتك والأخذ عنك . وهذا ما يريده الداعية المسلم من المدعو فتصل التربية والأفكار إلى قلبه وعقله دون عائق ، فيكون لك طيّعاً منقاداً . . وأنت تريد له الخير وتحرص عليه . ( على أن يكون مدحك له بما فيه ، وإلا كان نفاقاً ـ نعوذ بالله من ذلك ).
وقديماً قال الشاعر :
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ** فطالما استعبدَ الإنسانَ إحسانُ
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشجِّ عبد القيس :
) إن فيك خصلتين يحبهما الله : الحلم ، والأناة ) .
كما أنك حين تخبر أخاك أنك تحبه ، يحبك ويقبل عليك ، ويفتح قلبه لك ، وهذا ما يريده الداعية من الناس : حبٌّ وودٌ وراحة نفس وإقبالٌ . فقد روى المقدام بن معدي كرب قال :
قال النبي صلى الله عليه وسلم ) إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه أنه يحبه (
فلا يكون الود وداً من طرفٍ واحد .
ولن تكون العلاقة من جهة واحدة علاقة .
وسيظل الطرف الآخر يجهل نواياك تجاهه ، وتقديرك له ، وحبك اياه ، ( على أساس أنه في الله تعالى ) . إلا أن توضح ذلك فيتبادل الطرفان المحبة في الله فيكون رباط الأخوّة متين العرى مكين الأركان .
ساحة النقاش