بسم الله الرحمن الرحيم
( قصــة قصيـرة جــداَ )
الصاحــب الــذي فــارق الحيـــاة !!
لقاء واحد في السنة .. محدد بالشهر والأسبوع واليوم والساعة واللحظة .. وكذلك فترة اللقاء محددة بثلاثين دقيقة دون زيادة أو نقصان .. ومكان اللقاء ثابت دون تبديل أو تغيير .. هي تلك الحديقة الجميلة التي تعج دائماَ وأبداَ بالزوار الكرام .. حديقة قد اشتهرت باستقبال الأسر والعائلات الكريمة العريقة .. بدأت سيرة اللقاء منذ كانت الأعمار في الآحاد فوق العاشرة .. وامتدت السيرة حتى بلغت الأعمار الآحاد فوق الخمسين .. كانت هي يافعة عفيفة حين تعهدت بذلك اللقاء .. وكان هو يافعاَ يكبرها بأعوام قليلة .. ذلك العهد الذي جرى بينهما حازما جازماَ تحت قسم بالله الخالق الرازق .. وشروط العهد كانت تقتضي ذلك اللقاء في المكان والزمان دون غياب أو أعذار .. إلا إذا كان الموت هو ذلك الحائل .. وهي شروط فرضت واقعاَ يلزم الوفاء مهما كانت موجبات العوائق .. ثم دارت الدوائر .. وتداولت السنوات وتلاحقت .. وعندها تبدلت الواجهات .. كما تبدلت الأمزجة .. وخرجت النفوس عن دائرة المراهقة والطيش .. وواصلت الأجساد نموها حين استلزم الأمر .. ثم توقفت حين وجبت واكتملت .. وأخيراَ بدأت تشتكي حين بلغت منحيات الوهن .. كما تبدلت خيارات الأطراف في مسارات الحياة .. فهو قد أصبح ذلك الآخر الذي يقود سفينة حياته الخاصة .. ويرتاد سواحله بالكيفية التي يراها .. وهي قد أصبحت تلك البعيدة الأخرى التي تملك حياتها وسواحلها الخاصة .. ولا توجد بينهما تلك الجسور المتينة التي تلامس الأطراف بذلك القدر من الهيمنة والمسافات .. ولا يعرف الطرف عن الطرف الآخر إلا ذلك القدر اليسير من المعلومات .. تلك الأسماء الأولى فقط دون أسماء الآباء .. ثم تلك الهوية التي تؤكد الانتماء لنفس الوطن .. والسكن في نفس المدينة .. وهي معلومات أولية كانت تأمل النمو والتوسع في يوم من الأيام .. وبالرغم من تلك المسافات التي تباعدت مع مرور الأزمان فإن تلك الأنفس قد التزمت بذلك العهد المقدس .. وكان ذلك الإصرار الشديد منهما في إتمام مراسيم ذلك اللقاء المقدس سنويا َ.. دون أي تكاسل أو تأخر أو توقف ! .. إلزام وإصرار من الأطراف كان يجلب الدهشة والعجب .. واللقاء في تلك الدقائق القليلة كان يتسم بينهما بروح العفة والكرامة وغاية الاحترام والتبجيل .. مجرد كلمات قليلة منمقة من سلام وتحيات ومجاملات .. ثم استفسارات عن الصحة والعافية .. ثم تلك الضيافة الكريمة بمشروب من العصير الطازج .. وبعدها تكون العجالة في إتمام مراسيم الوداع .. حيث تلك الكلمات المعهودة التي تؤكد مواصلة العهد القديم بالقول : ( اللقاء إنشاء الله في العام المقبل ) .
سيرة عجيبة لازمت السنوات والأعمار .. تلك العزيمة القوية العجيبة لدى الجانبين في إتمام ذلك اللقاء السنوي المحير للألباب .. فلم يتجرأ أحدهما في يوم من الأيام أن يخوض في المزيد من التفاصيل .. كما لم يتطرق أحدهما في مناقشة مناسك ذلك اللقاء .. أو يجتهد في إعادة ترتيبات اللقاء من حيث المكان أو الزمان .. بالإضافة إلى ذلك فإن أحدهما لم يبدي الرغبة في إنهاء أو التوقف عن ذلك النهج الذي قد طال .. وهو عهد لازم مراحل المراهقة والصبا .. ثم لازم مراحل الشباب .. ثم أخيراَ يلازم مراحل الكبار .. وتلك السنوات الطويلة من اللقاءات القصيرة لم تحطم عوامل التكلفة البينية .. كما أنها لم تمنع الأطراف من التحفظ الشديد .. فكانت الأطراف تتجنب المكاشفة الصريحة .. فلا يجتهد طرف من الأطراف لمعرفة أسرار الطرف الآخر .. ولا يلاحق الطرف بالسؤال تلو السؤال .. كل ذلك بالرغم من أن السنوات قد تلاحقت .. وأن الأعمار قد تقدمت .. فهو قد أصبح صاحب سفينة بركابها حيث الأبناء والأحفاد .. وهي قد أصبحت صاحبة سفينة بركابها حيث الأبناء والأحفاد .. وبالرغم من تلك الحقائق الفارضة فإن العزائم لم توهن فيما بينهما .. بل دائماَ كان ذلك الإخلاص والإصرار في إتمام مراسيم ذلك اللقاء المقدس .
ثم كانت مراسيم تلك السنة التي جاءت لتغلق غلاف الكتاب .. حيث بها تنتهي أسرار الحجاب .. ولا بد من خاتمة تنهي سيرة الأحباب .. جاءت كالعادة في موعدها وجلست في المكان .. مرت الثانية الأولى فلم يظهر الصاحب خلف الأبواب .. ثم مرت الثانية الثانية وما زال الصاحب يسجل الغياب .. ثم مرت الثانية الثالثة وعندها دخل الأمر في الشك والارتياب .. ثم مرت الثانية الرابعة وعندها تيقنت أن الصاحب قد رحل عن الدنيا وفارق الحياة وقد أصبح من أهل التراب .. فجرت دمعة ساخنة فوق خدودها .. وعندها أخذت منديلاَ تمسح به الدموع .. ثم جلست في هدوء حتى أكملت الدقائق الثلاثين ثم غادرت المكان .
ـــــــ
الكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد
ساحة النقاش