بسم الله الرحمن الرحيم
( قصـة قصيـرة )
جــرت الأقــدار رغــم الحواجــز !!
عجيب تلك الفواصل التي تمثل فرضاَ يولد النوازع .. وهي تلك الموانع التي تجعل العزيز أكثر عزاَ .. وتجعل المطلوب أكثر طلباَ .. وتجعل الغالي أكثر قيمة وحلاوة .. وتجعل النادر أكثر ندرةَ .. وهي تلك المسافات التي تباعد ذات البين لتتوقد الوجدان أكثر شوقا وهياماَ .. وتجعل أحلام اللقاء أكثر حبوراَ ورقصاَ وسلاماَ .. والأزمان حين تمط طولاَ تخلق التلهف والاشتياق واللوعة .. والأبعاد حين تتباعد تلح بالاقتراب شبراَ بعد شبـر .. حيث تدق نواقيس الذكريات أياماَ وأياماَ .. وتتزاور أطياف الأعزاء في الخيال ألوناَ وألواناَ .. ذات يوم كان يجلس ذلك الشاب في مقعده بصالة المغادرة بالمطار .. الصالة كانت تعج بالمسافرين من ركاب الرحلات الدولية .. وقد برزت تلك الحسناء تلفت الأنظار بروعة حسنها وقيمة جمالها .. كانت جاذبة تجبر الأعين على الملاحقة والمتابعة .. فلم تسلم عين من رشاش النوازل .. كانت ذات جمال فوق معدلات المعيار .. ذات رونق أخاذ يمثل جدلاَ طاغياَ يفرض الاحترام والتبجيل .. أما مسافة البين في التواجد بينه وبينها فكانت تمثل أمتارا وأمتارا .. ثم صفوفاَ وصفوفاَ .. ثم أفرادا وأفرادا .. جلست مع غيرها في رفقة جنسها .. كما جلس الشاب مع الغير في رفقة جنسه .. وتلك هي مناسك الأعراف في بلاد الأخلاق .. حيث تلك الفواصل التي تفصل البين بشريعة المحاسن .. وتباعد البين بسنة الأعراف والأخلاق .. وصالة المغادرة كانت تعج بكل الجنسيات والأعراق .. وفيها ذلك الفاصل الذي يفصل بين الذكور والإناث .. فاصل ليس بذلك الظالم المجحف الكاتم للأنفاس .. ولكنه ذلك الفاصل النبيل المستمد من شرع الكتاب .. صورة عزيزة في كل أوطان الإسلام .. حيث تلتحق الأسراب بالأسراب .. ويلتحق النوع بالنـوع .. فهو ذلك الحاجز العفيف النبيل الذي يفصل البين لتكريم المقامات .. ويغلق منافذ الشبهات .. كانت الجموع صابرة ولا تظهر الملل والضجر .. وتلك هي مناسك السفر التي تتطلب نوعاَ من حكمة التحمل والاصطبار .. والصالة كانت لا تخلو من الهمهمة هنا وهنالك ،، ثم تلك النداءات من وقت لآخر لمكبرات الصوت في صالة المطار .. حيث تلك النغمة المعهودة : ( نرجو الانتباه ) ( تعلن الخطوط الجوية أل كذا عن قيام رحلتها رقم كذا والمتجهة بمشيئة الله إلى مطار كذا الدولي ، فالمرجو من السادة الركاب التوجه لبوابة السفر رقم كذا ، لإكمال إجراءات السفر والصعود لمتن الطائرة ) .. وفي أعقاب تلك النداءات كانت تتحرك جموع من الركاب صوب تلك البوابة المعنية .. وعندها كانت تحدث حالة من الفوضى الطارئة التي تموت بعد لحظات .. وتخلو جوانب من مقاعد الصالة .. حيث يرحل الراحلون ويبقى الجالسون .. وفي خضم تلك الربكة المؤقتة الطارئة التقت خلسة عينه بعينها .. وقد تجرأت تلك العيون وهي تكسر حواجز الأعراف .. ورغم أن تلك النظرات كانت مقرونة بنوع من الحشمة والوقار .. إلا أن تلك العيون لم تكتفي بالنظرة الأولى الخاطفة ( حيث يقال أنها النظرة الحلال ) .. ولكنها تمادت في جرأتها ثم واصلت وهي تلتقي بالتحديق من حين لحين .. كانت رغم جمالها الأخاذ جريئة في نظراتها .. لا تتراجع بحجة الحياء .. ثم جرت مراسيم الحوار بينهما بإشارات العيون وتلميحات خفيفة للبنان .. ثم في غفلة من الأعين أرسل لها ببسمة سريعة خاطفة .. فابتسمت له بدورها .. فكانت تلك البسمة هي الفاتحة التي أبعدت نوازع الوجل والحذر لدى الأطراف .. فالبسمة منها كانت كافية في تحطيم زجاج الكلفة البينية .. وقد أظهرت المجريات بأنها شخصية مرحة تمتاز بخفة الدم والروح .. ذكية لبقة لماحة سريعة في إدراك الإشارات بالعيون .. وتلك الإشارات والحوارات بالعيون قد كشفت الكثير من المعلومات .. حيث عرفت وجهات واتجاهات الأطراف .. وكانت من الصدف العجيبة أن تلك الوجهات والاتجاهات قد تطابقت في المقاصد .. فالوجهة هي نفس الوجهة .. والطائرة الميمونة هي نفس الطائرة .. نوازل من مترادفات الحظوظ .. وقد أدركت تلك النفوس حينها بأن المجال ما زال متاحاَ لبذل المزيد والمزيد من كشف الأغوار .. ثم فجأة كان النداء التالي هو لركاب الطائرة الميمونة .. حيث وجهة الأطراف .. وعندما تحركت الجموع كانت تلك صفوف الرجال وكانت تلك صفوف النساء .. ولكنهما تعمدا أن يتقاربا في حال الوقوف بالصفوف .. كما تعمدا بالتواجد داخل الطائرة في مقاعد متقاربة بقدر الإمكان .. وفي داخل كابينة الطائرة كانت اللحظات وفيرة وكافية لإكمال مشوار الحوار .. تبادلا الكثير من المعلومات عن سيرة البعض .. ثم فجأة ودون مقدمات أظهر شجاعة فائقة حين كشف لها بعبارة صريحة بأنه يريدها بالحلال .. فاندهشت كثيراَ من ذلك الاندفاع الجامح السريع .. فنظرت في عيونه عميقا متفحصة سلامة النوايا .. فوجدته صادقاَ مخلصا في مشاعره وقراره .. ولكنها تريثت بحكمة العقلاء ولم تجاري المجريات بنفس القدر من الحماسة .. ثم فجأة تحفظت ثم لزمت الصمت وهي تفكر في تلك الأحداث المتلاحقة السريعة .. كانت مترددة في أعماقها .. ولا تثق في تلك العجالة التي تربك المجريات .. ثم أمسكت وتوقفت عن حوار العيون والإشارات .. وأستمر الحال كذلك لمدة ساعة كاملة .. خلالها لم تلتفت لناحية الشاب إطلاقاَ .. أما هو فبعد أن أوجد الكرة في مرماها لم يتعجل الإجابة بالملاحقة .. بل التزم بالصمت والصبر احتراماَ لتحفظها وسكوتها .. ثم بعد تلك الساعة من الجمود والانتظار التفتت لناحيته ونظرت إليه .. فإذا بالدموع تملأ أحداقها وهي تقاومها بالمنديل .. ثم أشارت إليه خلسة بأنها موافقة على تلك الخطوة الجريئة .. وعندها كانت تلك اللحظة فريدة وسعيدة في حياة ذلك الشاب .. الذي كان يرقص طرباَ وفرحاَ وسعادةَ في أعماقه .. فطلب منها صريحاَ عنوان أهلها حتى يتقدم إليها بالباب حسب الكتاب والسنة .. كما طلب منها أن يشاور أهلها في تلك الخطوة المباركة .. فأخذت ورقة صغيرة وكتبت فيها كل التفاصيل التي توصل شريك الحياة في مستقبل الأيام لعتبة أهلها .. ثم سلمت الورقة للشاب في غفلة من العيون .. وفي تلك اللحظة كانت الطائرة الميمونة على وشك الهبوط في مطار الوجهة .. وعندها افترقت تلك القلوب الصغيرة التي لم تحس بويلات تلك السفرية المحظوظة .. ثم تفرق ركاب الطائرة كل لوجهته .. أما هو فقد كان حريصاَ ومتلهفاََ لإكمال ذلك المشوار الميمون .. وعندما وصل لعقر داره تحدث مباشرة مع أهله وأقربائه .. وقد رحب الكل بالخطوة السعيدة .. ثم بعد ساعات فقط تقدم لأهلها طالباَ يدها .. فكانت الفرحة الكبرى العظيمة حين تم القبول والموافقة من أهلها .. وبعد تلك الخطوة التمهيدية بأيام تمت مراسيم الزواج على الوجه المبارك السليم .. وبذلك بدأت حياة أسرة جديدة في عش جديد .. تلك النهاية السعيدة التي أوجدتها لحظات الصدف والسفر .. وهي لحظات قد تبرر وتعفو تلك الهفوة الناجمة عن تخطي حواجز الأعراف .. ولكن على المرء أن لا ينسى أن للأقدار تلك الأسباب التي تجري لحكمة الجمع بين قلبين بالحلال .
ــــــ
الكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد
ساحة النقاش