بستـان دوحة الحروف والكلمات ! للكاتب السوداني/ عمر عيسى محمد أحمد

موقع يتعامل مع الفكر والأدب والثقافة والخواطر الجميلة :

بسم الله الرحمن الرحيم

(   قصــة قصيـرة جــدا  )

الهالـــة العمــلاقـة  !!

كان يعلم جيداَ أن الخيال يعاني من خلل ويشتكي .. وأن الذي يتراءى أمامه لا يجاري مبررات العقل والمنطق !! .. وقد تعود من قبل أن يسافر بخياله عمق تلك الصحراء الشاسعة .. وهو ابن تلك القرية التي تطل عند حافة الصحراء .. فدائما حين يقف أمام داره وينظر يكون ذلك الفراغ الهائل الذي يجسد الكون .. تلك المسافات تلو المسافات عبر البيداء .. ومهما تجتهد النظرة فإنها ترتد خائبة دون أن تحدد النهايات .. تلك النهايات التي توحي بأن الأرض تعانق السماء .. ظاهرة يقبل بها العقل دون جدال حين يعجز عن المجاراة .. وفي تلك الليلة كانت السماء تفقد القمر .. والظلام هو سيد الأحول .. وكالعادة في تلك الظروف فإن العيون تشاهد الشهب وهي تضرب كبد السماء في ذلك العمق السحيق .. شرر من تلك الخيوط الرفيعة التي تتسارع كالأفعى تشق عباب السماء ثم تختفي فجأة في رمال المجهول .. تسافر تلك المسافات المستحيلة التي تلاحق المشارق بالمغارب .. مما تخلق جدلاَ خارج نطاق المعقول  .. تعود كثيراَ أن يشاهد تلك الأسرار في عالم الكون .. وخاصة في الأمسيات الدامسة .. ولكن قصة تلك الليلة تختلف كثيراَ عن إرهاصات العادة المعهودة .. حين أبت أجفانه أن تواصل الكرى قام من مرقده عند منتصف الليل .. ثم فتح باب السور الخارجي ووقف أمام بيته المطل على الصحراء .. كانت الليلة تتوسم بقتامه الظلام  .. رغم أن السماء كانت تعج بألوان النجوم .. فهي تلك النجوم التي تتراءى وتتلألأ ولكنها تؤثر البعد السحيق .. فهي كالعادة تتجنب حوزة الأرض وسكانها .. وقف هنالك والعيون تنظر في عمق الظلام البعيد المستحيل .. وفجأة برزت في الأفق البعيد شعلة من الوهج العجيب .. أنوار زاهية تتلألأ بروعة متناهية تنمو من الأرض ثم تصعد رويدا رويداَ نحو السماء .. تطول بأريحية مفعمة دون أن تترك أقدامها صفحة الأرض .. قبس من ذلك الأثير المجهول الذي يولد من رحم الأرض ليطال كبد السماء .. ثم يتقلص وينكمش في لوحة فريدة أخاذة .. تأخذ ألوان قوس القزح حين تريد .. أو تأخذ ألواناَ هي تلك البعيدة عن المألوف والمعهود ..  وقف ينظر للأمر العجيب وهو في حيرة شديدة .. وكان الحدث يجرى عند مسافة بعيدة عنه في عمق الصحراء ..  ثم فجأة بدأت تلك الهالة العجيبة تتراجع وتتقلص حتى اختفت عن الأنظار في جوف الثرى  .. ولكنها لم تصمد طويلاَ حين أطلت من جديد لتتلألأ وتلاحق عنان السماء ! .. تمثلت وتشكلت تلك الصورة مراراَ وتكراراَ حتى تعودت نفسه تلك المراحل تلو المراحل .. وبدأت سريرته تطمئن قليلاَ .. ولكنه رغم الحيرة والخوف الشديد بدأ يلاحظ أن تلك الهالة ترسل إشارات توحي بأنه هو المعني والمقصود .. فالهالة كانت تقترب منه رويدا رويدا وهي تطول وتنكمش .. وتأكد له جلياَ بأن الأمر ليس مجرد خلل في خياله .. إنما هو جدل يخالف الأعراف والمعقول .. وفي المراحل اللاحقة كانت الهالة تتجسد حين تطول في صورة إنسان يملك الهيئة الكاملة .. ثم كانت تشير له بالأيدي بإشارات مبهمة غير مفهومة .. عملاق من إنسان جسده مجرد هالة من الأنوار .. الأقدام فوق صفحة الأرض والرأس يلامس كبد السماء .. ومع ذلك فإن ذلك العملاق كان يجتهد كثيراَ ليتواصل مع ذلك الإنسان القزم !! .. ربكة فوق طاقة العقل ووقفة أمام الشبح المستحيل .. فركض نحو داره ثم أغلق باب السور بسرعة ورقد في سريره والأوصال منه تتراجف كأغصان النبتة الهشة الغضة .. ثم غطى العيون بكفوف اليد حتى لا يرى مراحل اللقاء الأخير .. ولكن تلك الهالة العملاقة لم تصدها الأبواب ولم تحتاج للمفاتيح حين وقفت أمام الدار لتكون القامة الفارهة فوق سماء المرقد عند رأس المخلوع .. فانحنى العملاق رويداَ نحو الراقد المفجوع ..  واقترب حتى دنا الرأس من الرأس .. حينها أدرك أنه لا يملك الخلاص .. ولم يتجرأ لينظر في عيون العملاق ولكنه أغمض العيون وهو يقرأ سورة الإخلاص .. ثم وشوش في آذانه العملاق .. وحينها نزلت على مسامعه كلمات وحروف هي من أروع المعجزات وأحلى النغمات .. تلك الحروف التي فقدت ملامح الرسم والشطحات المألوفة .. وتلك الكلمات التي فاقت روائع الألحان المعهودة المعروفة .. والتي لم تخطر يوماَ في عقل إنسان أو يجري في بال مخلوق  .. والحدث كان يجري بمصاحبة عبق يفوح بأروع العطر والطيب والمسك والريحان .. لحظات انتشاء وهناء سافر خلالها المقصود في غيبوبة مع روعة الخيال والألحان  .. ثم تمنى في الأعماق أن تدوم تلك اللحظات العجيبة الهنيئة .. ولكن كانت الخاتمة حين طبعت تلك الهالة العملاقة قبلة عزيزة فوق جبينه ثم تلاشت عن الوجود وكأن شيئاَ لم يكن .. عاش بعد ذلك العمر وهو يفكر كثيراَ في إرهاصات تلك الليلة الغريبة ..  ويعشق ويتمنى أن تعود تلك السيرة مرات ومرات .. ولكن هيهات هيهات فإن العمر قد فات منه الكثير ولم يتكرر الحدث .. كما لم يشاهد الهالة العملاقة بعد تلك الليلة الظريفة .

ـــــــ
الكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد  

OmerForWISDOMandWISE

هنا ينابيع الكلمات والحروف تجري كالزلال .. وفيه أرقى أنواع الأشجار التي ثمارها الدرر من المعاني والكلمات الجميلة !!! .. أيها القارئ الكريم مرورك يشرف وينير البستان كثيراَ .. فأبق معنا ولا تبخل علينا بالزيارة القادمة .. فنحن دوماَ في استقبالك بالترحاب والفرحة .

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 223 مشاهدة
نشرت فى 3 نوفمبر 2014 بواسطة OmerForWISDOMandWISE

ساحة النقاش

OmerForWISDOMandWISE
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

807,088