بستـان دوحة الحروف والكلمات ! للكاتب السوداني/ عمر عيسى محمد أحمد

موقع يتعامل مع الفكر والأدب والثقافة والخواطر الجميلة :

بسم الله الرحمن الرحيم 

ذكريات مـع الساقيـة النوبية  !! 

مجموعة حائرة من آثار الماضي سقطت من قوافل النوبة التي رحلت منذ عهود .. دوائر وتروس خشبية انزوت فوق بعضها وهي حائرة لا تعرف المصير ..  ذهبت لناحيتها وأنا لا أصدق عيني  .. وحين اقتربت منها خافت واضطربت وارتجفت .. فهي ترتاب من معالم العصر الحديث .. ولا تعرف التعامل مع أجيال الإلكترونيات  .. وحين دنوت منها أكثر انزوت في داخلها وعانقت بعضها بقوة وشدة فهي تخشى من الغرباء  .. بقيت هنالك عاطلة لسنوات طويلة وقد رحلت أهميتها منذ عقود من الزمان .. ولذلك فعندما يجن الليل ويشتد الظلام هي تنادي أهلها خلف جدران التاريخ ..  فلا يجيبها أحد .. حيث ابتعدت قوافل النوبة في مسافات التاريخ طويلاَ .. ولا أحد يسمع النداء بالجوار .. دنوت منها أحادثها فإذا هي تنزوي في داخلها أكثر فأكثر ثم تنظر في عيني في حيرة مقرونة بالجفاء والخوف ..  وهنالك فاصل سحيق يفصل البين في الزمان والمكان ..  رغم أني لست بذلك البعيد في أهل الشأن .. وتدفعني صلة ما زالت تجري بالفطرة لأحاول التودد إليها أكثر فأكثر  ..  فوجدتها تنظر في عيني بنظرة ممزوجة بالشك والريب .. وحاولت أن أناشدها والرغبة في نفسي تلح بحضنها .. ولكنها كانت تزيح سواعدي عنها وتبعدها عن ملامسة جسدها بتحفظ عجيب ..  وحين أسألها عن أحوالها كانت لا تجيب  ..  بل كانت تنظر باستغراب في حروفي وفي معالم سلوكي .. وحينها أدركت أسباب خوفها وأسباب تحفظاتها ..  فهي لا تعرف عن حروفي شيئاَ ولا تفهم أقوالي .. كما أنها ترتاب من ملامح عصري في السلوك وفي المقام ..  فقلت لها أنا من ذلك النهر في الماضي .. حيث أنت ونحن ننتمي لشجرة النوبة حين يكون الحديث عن الجذور .. أحمل في دمي الكثير من ذكريات النوبة العظيمة ..  فنظرت إلي بدهشة كبيرة حين تكلمت بالحروف النوبية .. والتفتت تنظر لناحيتي بذهول شديد .. ثم بدأت تبكي وتزرف دموعها الغزيرة .. ثم تراخت وتراجعت عن بعضها البعض .. وقد علمت بأني من أحبابها في الماضي ..  وأدركت أن هنالك في الأرض ما زالت بواقي من آثار أهل السيرة  .. وهي التي كانت تظن أنها الباقية الوحيدة ..  فسألت في دهشة شديدة  قائلة : كيف يحدث ذلك ؟؟ !! .. ألست أنا الوحيدة التي سقطت من قافلة النوبة ؟؟ .. فقلت لها كلا لست أنت الوحيدة .. فهنالك آخرون ما زالوا تائهون خلف جدران الزمان .. فقالت عجباَ عجباً فاللحظة قد أوجدت أغرب السيرة !! .. ثم قالت أتدري يا هذا إن من أوجع الأمور وأقساها في هذه الدنيا أن تتواجد في أزمان الآخرين .. وأنا قد اختفت معالم زمني رويدا رويداَ حتى صرت وحيدةَ أجترع الذكريات الأليمة .. وفي خيالي البعيد ما زلت أسمع أصوات السواقي التي كانت بجواري .. واسمع صيحات  ( الأروتي ) الصغار الذين كانوا ينادون من فوق ظهري .. وكانوا يتحدون البعض في إسراع الأبقار لتركض السواقي وتفيض بالمياه الغزيرة .. وحينها كانت تشتكي الجداول من فيض المياه .. وتنتشي الأحواض من كثرة الخيرات .. كما أتخيل أصوات المزارعين في الحقول هنا وهنالك .. وأسمع خوار الأبقار في حظائرها .. وأتخيل تلك المراكب الشراعية التي كانت تتبختر فوق سطح الأنهار .. وفي المواسم الفياضة كانت السواقي تسهر الليالي لتؤرق النيام بأصواتها الحنينة ..  وفي أنغامها كانت الرقة الحزينة التي تعني صفاء الأصل والطينة ..  وكانت السواقي تبذل البركات والخيرات ليلاَ ونهاراَ .. وتجود بأقصى ما لديها من العطاء .. ذلك العطاء الذي كان يعادل الحسنة بعشرة أمثالها .. وفي المعية كانت بركات النبي الصالح الخضر عليه أفضل الصلاة والتسليم كما كان يقول أهل النوبة في الماضي   .. ثم قالت :  آه من ذلك الزمن البعيد الذي طال رحيله وسافر أهله .. والحياة أمام عيني أصبحت غائبة .. والموجودة أمامي ليست بتلك الحياة التي عرفتها .. والسواحل ليست بتك السواحل التي عشقتها .. والطيور ليست بتلك الطيور التي أعتدها  .. والمعالم ليست بتلك المعالم التي واكبتها طوال عصري وحياتي ..  واليوم أنا هنا وحيدة خلف جدران الزمن فلا أبقار ولا تربال ولا صمد يجيد المقال .. سافر الجميع في مجاهل الماضي وتركوني وحيدةَ غريبةَ في زمن الآخرين .. فيا ليتني كنت في مقدمة الراحلين الذين شبعوا الموت وتولوا من ساحات الأحزان والذكريات .. ولكني بقيت في عصر غير عصري ونفسي تريد الرحيل .. واللحاق بأهل النوبة في مجاهل التاريخ ..        تلك كانت أسرار ركام الساقية الحزينة  .. تلك الأسرار التي ليست بغائبة عن أذهان النوبة أينما تواجدوا فوق سطح الأرض  .. والكل يدرك جيداَ أنه يقف عند ذلك المنحنى الذي يقفل سيرة الماضي ليفتح السيرة الجديدة .. وإقفال السيرة ليس بذلك اليسير المتاح الذي تتحمله القلوب .. إنما هي تلك السيرة التي تغلي في الأعماق وتمثل الأحزان والغليان .. ولكن دائماَ نكتم السيرة  في الأعماق ثم نمتثل لحكم الأقدار بالرضا والافتخار  . 

ــــــــــ
الكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد

OmerForWISDOMandWISE

هنا ينابيع الكلمات والحروف تجري كالزلال .. وفيه أرقى أنواع الأشجار التي ثمارها الدرر من المعاني والكلمات الجميلة !!! .. أيها القارئ الكريم مرورك يشرف وينير البستان كثيراَ .. فأبق معنا ولا تبخل علينا بالزيارة القادمة .. فنحن دوماَ في استقبالك بالترحاب والفرحة .

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 223 مشاهدة
نشرت فى 10 مايو 2014 بواسطة OmerForWISDOMandWISE

ساحة النقاش

OmerForWISDOMandWISE
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

778,630