بستـان دوحة الحروف والكلمات ! للكاتب السوداني/ عمر عيسى محمد أحمد

موقع يتعامل مع الفكر والأدب والثقافة والخواطر الجميلة :

 

بسم الله الرحمن الرحيم

(  قصــة  )  ســـوق الأحـــد    !!

الإنسان قلب ومودة .. وحين يجود عطفاً يعادل ملائكة السماء .. وقلة تلك القلوب التي تجود  .. والشك أصبح قائماً في تملك البعض لذاك القلب أساساً .. إنما هي تلك الهياكل الصلفة من الجلمود المتحرك .. كانت بداية ليلة بعدها الغد هو العيد .. حيث كانت تتوق الأنفس لإشراقه شمس ذلك الغد .. وتهيأ الصغار والكبار للحظات الفرحة الكبرى التي سوف تعم ديار المسلمين  .. وفي القصة يلازمنا النهر في المعية .. لأنه يمثل ذلك القاسم الفاصل .. وهو النهر النعمة المتدفقة .. تلك النعمة التي تستمدها شرايين القلوب .. ولكنه صاحب الأمزجة والمواسم ..  فكان غاضباَ تلك الليلة حيث صادفت أحداث القصة لحظة غضب من غضبات ذلك النهر .. وهي اللحظات المعهودة بالسخط والغضب في مواسم الفيضان  .. والأنهر من صفاتها أن تمنع عناق السواحل  .. لتخلق واقعاً مفروضاَ ذلك الفاصل المستحيل الذي يوجد الجانبين  .. وهنا ساحل لأهل ديار وأحباب  .. فيه القرى وفيه المزارع وفيه المساجد والمدارس وفيه النبع والضرع  ..  وهناك ساحل بأهل ديار وأهل تجارة .. حيث الأسواق التي تلبي وتفي بالأغراض .. وحيث مقدمات العصر من المعطيات الجديدة .. والساحل هنالك يخصص نهاراً من أيام الأسبوع يسمى ( بسوق الأحد ) .. يجتمع فيه القاصي والداني من القرى والجزر المجاورة لشراء الضروريات والكماليات .. وكانت تلك المرأة التي عاشت على الستر والكفاف .. وما كان لها إلا أن تجاري الحياة بالقدر المستطاع .. فهي لا تملك الكثير كما يملك الكثيرون في قريتها  .. ولا تملك الجاه كما للآخرين .. رضيت بأحوالها .. وناضلت لتعيش وأطفالها حياة عفيفة كريمة .. وفي ذلك اليوم رحلت مع جموع الناس لسوق الأحد .. حيث الجموع التي توجهت لساحة السوق الكبير والنوايا الشاملة في اقتناء ضروريات العيد السعيد  .. من الأطايب والملابس الجديدة .. وأنواع العطور والحلوى والعصائر وغيرها  .. وجرت مجريات السوق بزحمة غير معهودة ..  والعلة أسبابها رغبة الناس في مواجهة العيد بما يلزم من الأغراض .. مضى ذلك اليوم في سوق الأحد بوتيرة نشطة غير معهودة .. ثم رويداً رويدا بدأت مساحة ذلك اليوم تفقد أجزاءها .. ومالت الشمس نحو المغارب .. معلنة نهاية مشوار ذلك اليوم الذي جاد كثيراً في سيرة الأخذ والعطاء  ..  وفي سيرة المساومات حيث البيع والشراء ..  ولاحت في الآفاق علامات الشفق الأحمر تؤكد اقتراب الليل   .. مما أوحى للناس أن تفكر في العودة لديارها  .. تلك الديار التي تستعد لاستقبال أحلى أيام عيد في المواسم  .. وفيهم أهل السواحل والجزر التي تقبع خلف النهر ..  ذلك النهر الذي لا يقبل المهادنة أو الاستهانة .. ولا بد أن تنحني له الهامات والرقاب بالاحترام .. والنهر صاحب أمزجة ..  وفي حال ركونه وسكونه هو ذلك الطيب الكريم .. حتى أنه قد يتنازل في بعض المواسم ليسمح للناس أن يعبروه مخاضاَ بالأرجل في الأماكن الضحلة .. أما في حال غضبه وجبروته فهو ذلك المعاند المشاكس القاسي الفتاك ..  ولا بد من وسيلة حكيمة لإخضاع ذلك النهر على السمع والطاعة في حال العبـور  ..  والوسيلة في تلك الأيام كانت المراكب الشراعية .. تلك المراكب الخشبية القوية الوارثة للمهارة النوبية .. وهي مراكب مؤهلة لتتحدى جبروت الأنهار في حال الغضب والفيضان .. وكذلك في حال المواسم العادية  .. ولكن لكل جواد كبوة .. ولكل فارس هفوة .. ولكل جبار قوة طاقة قصوى .

         تجمع الناس عند مشارف النهر للعودة والالتحاق بالسواحل خلف النهر  .. وفي تلك الليلة كانت هنالك مركب واحدة متوفرة لترحيل العابرين للساحل الغربي  .. وكانت عليها أن تتكفل بترحيل العدد الكبير من العائدين للديار  ..  وحين تجمعوا للركوب على المركب كانت العددية تفوق الطاقة القصوى كثيراً .. وكان لا بد من الموازنة التي تؤكد السلامة .. ولكن حالات الإصرار أبت أن تفارق الجميع .. حيث الكل كان يؤكد الأحقية والأولوية في بلوغ الساحل الغربي  .. وبعناد شديد تزاحم الجميع فوق متن المركب التي كانت تفقد الحيلة .. تزاحموا فوق متنها بالقدر المستحيل .. واشتكت المركب وتأنت ونادت بالويلات  ..  والأعالي منها بدأت تشارف وتقارب سطح الماء الهائج الغاضب .. وتعالت أصوات الحكماء والعقلاء .. والتي كانت تنادي بتخفيف الأوزان والأغراض والعددية .. ولكن لا حياة لمن تنادي .. حيث كان الإصرار من الجميع بالتواجد داخل المركب ..  والكل كان يصر على بلوغ الساحل الآخر بأية وسيلة وبأية حيلة .. والرغبات كانت ملحة في بلوغ الغد الذي يعني العيد مع الأهل والعشيرة  ..  ثم وقعت نقلة أخرى عجيبة في مسار القصة ..  فيقال والقول مرهون بذمة قائله  ..  بأن الساحة جرت فيها بعض الخيانات والمفاضلات الغريبة بين الناس  .. فإن ذلك الموقف المتأزم قد أفرز صورة قاتمة تجسد في قسوة الإنسان للإنسان .. تلك الواقعة القاتمة التي جعلت من الملائكة الأبرار أن تهرب من ساحة الظلم ..  وتنأى بنفسها عن مجاراة الأشرار .. فتلك المرأة البريئة نالت القسوة في السيرة .. ونالت في تلك الليلة أسوأ معاملة إنسان لإنسان .. فهي الوحيدة التي فقدت المعين والدعم حين قرر الجميع إخراجها من المركب قسراَ وقهراَ بأيدي الرجال الأقوياء .. أبعدوها من المركب وهي تبكي وتولول ..  وتركوها وحيدة في الساحل الموحش ..  كانت ترجوهم بشدة وترجو الرحمة من أعين ظالمة ..  وذنبها الوحيد أنها كانت لا تملك كما يملك الآخرون .. كانت فقيرة معدمة .. تفقد الجاه وتفقد الدعم وتفقد العون وتفقد المعين .. كانت ترجوهم ودموعها تجري مدرارة وتبلل ثيابها ليأخذوها معهم لأهلها .. فهي كانت تتمنى كما يتمنى الآخرون أن تقضي ليلة عيدها مع أطفالها وأسرتها .. وقد اشترت المقدور من أغراض العيد لأطفالها الصغار .. والأمل كان يحدوها كمثيلاتها أن تشارك العيد السعيد مع أحبابها ..  ولكن أبت تلك القلوب القاسية أن تسمع لصيحاتها واستغاثاتها .. بل لفظوها ورموها وأغراضها في البر الموحش .. وهي المرأة الوحيدة التي تمكنت منها الأيدي الظالمة .. أم الآخرون والأخريات من ركاب المركب فالكل كان يجد الدعم والسند والدفاع بطريقة ما من أحدهم .. إلا تلك المرأة المسكينة فهي لم تجد من يساندها في إلحاحها .. فأصبحت متروكة في ساحل رحل أهل أسواقه .. وحيدةً في ليلة مظلمة موحشة .. وحين غادرت المركب وابتعدت عن الساحل رويداً كانت تلك المرأة عاجزة تبكي لا تملك إلا أن ترفع كفها نحو السماء بالدعاء .. تلك المجريات التي أبكت عيون الملائكة في السماء .. وأضحكت أعوان الشيطان في الأرض .. ولكن دائماً للأقدار قول فاصل في الأحوال .. فالدعاء والكف المرفوع نحو السماء في ليلة عيد مبارك لو عقلوا يعني الوزن ويعني الكثير .. وتتجلى حكمة الدعاء المبذول من المظلوم حين يجتاز الحواجز النورانية ليمر نحو السماء دون الحواجب .. وحينها فإن الكفوف لا ترتد خائبة حيث هنالك عدالة السماء .

        النهر في تلك الليلة كان في أوج موسم الفيضان .. قوة شديدة في التيار المائي .. وانتشار مبالغ حيث تعدى النهر مساحة الحد المسموح ليختلس مساحات وفيرة من الجانبين .. ثم تلك العاصفة التي كانت تؤجج الأمواج ..  والمركب عند منتصف النهر نادت بالاستسلام ..  حيث ضعفت خشبة في قاعدتها .. فخرقت المياه منفذاَ في أرضية المركب لتشكل نافورة مياه عنيفة .. فوقع الهلع والخوف في قلوب الركاب .. وأجتهد الجميع في وقف ذلك المنفذ المائي الخطير .. ومن عجائب الأقدار أن الناس في لحظات يأس قد استغنت عن أغراضها للعيد حتى تتمكن من تسديد تلك الثغرة القاتلة .. وفقدت في المحاولات الكثير من ملابس العيد .. ولكن باءت المحاولات بالفشل  ..  والليل بدأ ينتصف ويهلوس بعلامات الظلام والرياح .. والمركب بدأت تفقد المسار الصحيح لتجاري التيار العنيف ..  وكانت هناك الصيحات والصرخات التي أزعجت سكون تلك الليلة المشئومة .. وحين سمع الآخرون تلك الصيحات والنداءات والاستغاثات في المناطق المجاورة تحركت الناس نحو السواحل .. وهناك أفراد من أهل ساحل من السواحل تحرك بمركب كبيرة للإنقاذ .. وحينما اقتربت مركب الإنقاذ من مركب النكبة تدافعت الناس للانتقال لمركب الإنقاذ بهلع وخوف شديد دون موازنة تعني الحكمة  .. مما أفقد المركب المنكوبة توازنها حيث مالت المركب لناحية الأكثرية المضطربة فاقدة السيطرة على نفسها لتنقلب رأساً على عقب .. وعندها وقعت النكبة والفاجعة الكبرى حيث أخذ النهر معه الأغلبية من الركاب .. الذين فقدوا الأرواح غرقاً في النهر الغاضب  .. وخاصة من النساء ..  وقلة من الركاب تمكنت من التنقل لمركب الإنقاذ .. وآخرون من الرجال تمكنوا من السباحة وبلوغ السواحل بعد جهد جهيد .. أم الأغلبية من النساء فما كانت لهن حيلة ..  فكانت ليلة كالحة قاتمة وشحت الديار بالأحزان .. أعقبها يوم عيد لم يشهد الأفراح في ذلك العام  .. بل كانت الساحات تقام فيها خيام الأحزان والآلام والعزاء  .. والناجية الوحيدة التي سلمت من لحظات الويلات والموت كانت هي تلك المرأة المغلوبة على أمرها .. فقد كتبت لها الأقدار أن لا تمر بتلك اللحظات العصيبة القاتلة المريرة .. وأن لا تكون في زمرة الهالكين .. ورب ضارة نافعة .. وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم . 

ـــــــــــ

الكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد

 

OmerForWISDOMandWISE

هنا ينابيع الكلمات والحروف تجري كالزلال .. وفيه أرقى أنواع الأشجار التي ثمارها الدرر من المعاني والكلمات الجميلة !!! .. أيها القارئ الكريم مرورك يشرف وينير البستان كثيراَ .. فأبق معنا ولا تبخل علينا بالزيارة القادمة .. فنحن دوماَ في استقبالك بالترحاب والفرحة .

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 157 مشاهدة
نشرت فى 30 مارس 2014 بواسطة OmerForWISDOMandWISE

ساحة النقاش

OmerForWISDOMandWISE
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

801,167