بسم الله الرحمن الرحيم
( قصــــة قصيــــرة )
لقــاء قلبيـــن في ســاحة المــوت ؟؟
لا تشتكي الأنفس من موبقات الأحداث .. وقد تعودت واقع الحال .. الموت هو نهاية خط كان يرعب الأنفس في السابق .. والآن الأنفس قد تعودت الموت .. حيث القتلى تحت الأقدام .. جثث أطفال ونساء وشيوخ .. وذلك الطفل يبتسم رغم موته .. ولعله قد وجد الموت واحة أفضل من حياة هي تلك القاسية .. وقد ارتحل تاركاَ الساحة للآخرين .. والأرض لم تشتكي يوماَ بالضيق .. ولكن الناس تشتكي ولا تطيق البعض .. ومع ذلك فإن الطفل يصر بأن يحتفظ بأسراره ولا يبوح بقصة الابتسامة .. وكم في الزاحفين من يتمنى تلك النهاية التي نالها الطفل البريء .. ويرجو مآلاَ مثل مآله و نهاية مثل نهايته .. ومع ذلك فإن أقدام الزاحفين تواصل الزحف فراراَ من موت قد يكون هو الأفضل في الخيار .. فذاك راحل بالموت قد ارتحل إلى مجهول يكتسي بالمعالم .. وآخر ما زال على الحياة ولكنه يزحف إلى مجهول هو ذاك المجهول .. وبدايات الأحداث كانت تشير بأن الحياة عزيزة وأن الروح غالية نفيسة .. فلذلك كانوا يركضون ليختبئوا من وابل الطائرات التي كانت تقذف بحممها كل المعالم على وجه الأرض .. دون أن تفرق بين البصير والكفيف .. أو بين المجرم والشريف .. ولكن رائحة الدماء أخيراَ بدأت ترجح جانب الموت على الحياة .. فلذلك فإن الناس الزاحفين من ساحات القتل والدمار بدءوا يتعايشون مع الموت دون وجل .. والأقدام تخطت مراحل الركض والهروب من قسوة الطائرات والمدافع الرشاشة لتسير دون مبالاة لخطر يجلب الموت أو لهروب يجلب الحياةَ .. والكل أصبح يرتاد المحن بشجاعة ميئوسة .. وهم في الحقيقة سكارى وليسوا بسكارى .. أما الوجهة والمصير فالأقدام هي التي تتكفل بالقيادة دون معاونة من عقول تشارك .. وهناك الزاحفون من كل الألوان والأطياف .. وتلك طفلة تجرها أمها وفي يدها دمية تمثل لعبتها المفضلة .. ولا تدري تلك الطفلة البريئة أنها في محنة .. تلك المحنة التي هي لا تساوي فيها مقدار ومقام تلك الدمية التي في يدها .. وقد تكون الدمية على سعادة لأنها تفقد عدة الحواس التي تجسد الأحزان والمعاناة .. وفي معية الزحف أيضاَ رجال ونساء وشباب وشابات وكهول وأطفال .. أسراب من البشر تلتقي مع بعضها عند خطوط الزحف دون أن تكون بينها سابق موعد أو اتفاق .. وفقط جمعتها الظروف والأحداث الجارية العنيفة تلك المدمرة .. الطرق الرئيسية مثلت أنهراَ روافدها الكتل البشرية التي كانت تصب فيها من كل حدب وصوب .. وقد شكلت الصورة لوحة أنهر تستقبل فيضانات جامحة تجتاح معالم الأرض بأمطارها وسيولها واجترافاتها .. والزحف البشري العنيف كان يتحدى أعتى موانع السدود .. ووجوه البشر الزاحفين كانت تميل للأرض بحزن عميق وهي في ذهول وتوهان .. وفي تلك المعية المرعبة لا فائدة في عزاء قد يخفف الروع والهلع عن الناس .. وحتى ولو كان هناك عزاء فلا يوجد من يعزي أو يقبل العزاء .. وقد توقفت مشاعر الحواس في الناس .. والمعالم فقط هي التي توحي بأن هناك خلق من البشر تزاول الزحف المقدس .. فلا كلام ولا نداء ولا جلوس ولا قيام .. وفقط تلك الاجتهادات التي تزاولها الأقدام دون هوادة .. فهي تلك الأقدام التي تصر على السير حتى نهاية المطاف .. أما الوجهة أما الغاية فليس بالضرورة تحديدها .
عيون الناس كانت ترى المعالم دون أن تكترث بها كثيراَ .. وهي في الحقيقة لا تريد أن ترى .. فكانت تفضل إمالة النظر إلى الثرى دون السماء .. لأنها تيقنت بأن المصير المتوقع اقرب للموت من الحياة .. وعيون ذلك الشاب في عمق الزاحفين كانت ترسل الكثير من الصور والإشارات للقلب في خضم تلك الأحداث المرعبة .. إشارات فيها معالم الحزن والموت والدماء .. وأخرى إشارات لا تكون إلا في عهود السلام الرخاء .. ولكن قلبه كان قد أغلق أبواب المشاعر والأحاسيس والرومانسية منذ اللحظة الأولى لانطلاقة مسيرة البؤساء .. وبالرغم من ذلك القرار الذي تفرضه الظروف التي تجري على الأرض فإن عيون الشاب أصرت ان تنقل صوراَ من الجوار .. ثم كانت تركز متعمدة على تلك الصورة .. وعاودت المحاولة مراراَ وتكراراَ .. وأخيرا استطاعت أن تكسب لحظة انتباهه من قلب ذلك الشاب .. كانت صورة فتاة جميلة في جملة الزاحفين .. تسير وحيدة دون أحد معها في الرفقة .. نظر إليها الشاب في خضم تلك المجريات القاسية .. ونظرت إليه لحظة ثم سحبت عينيها بسرعة واستحياء ثم حولت نظرها نحو الأمام .. أما هو فأرسل إشارة لوم سريعة لقلبه .. وهو يزجره ويقول له أين نحن وأين أنت أيها القلب الغشيم ؟؟ .. أي مجنون يفكر في هذه اللحظات العصيبة بنظرة هناء لزهرة تبدو عند حافة البراكين ؟؟ .. وتلك محاولة فيها الكثير من خطوات الغباء .. فرضخ القلب لحكم الأقدار .. وسكت على مضض وصرف النظر عن الموضوع برمته .. والفتاة بدورها وجدت نفسها في حيرة .. فهي لا تعرف نهاية المصير ولا تدري بمعالم المشوار المخيف .. والتجربة قاسية عليها وأكبر من طاقتها كثيراَ .. وهي ما زالت صغيرة تفقد تجارب المحن .. وقد بحثت يميناَ وشمالاَ وشرقاَ وغرباَ فلم تجد من يذهب عنها روعها وخوفها ويبعد عنها ويلات القادم المجهول .. ثم استمرت ودامت لحظات الزحف والهروب الجماهيري الكبير نحو المجهول .. ومرت الساعات تلو الساعات .. والسماء مازالت تمطر الموت من كل الجهات .. وفجأة أحس الشاب بأن يداَ غضة تمسك بيده فنظر حوله بذهول فإذا بالفتاة الجميلة بجواره وقبضة يدها في قبضة يده .. وأحداق تملئها الدموع .. قالت له في وجل لا اعرف أحدا أمسك يده .. وأنا خائفة أفقد كل معالم الأمن والأمان في هذه اللحظات المرعبة الكئيبة .. أما هو فقد كان شاباَ شهماَ مهذباَ ولذلك تعمد أن لا يكسر خاطرها وأن لا يظهر ما يفقد كبريائها .. فأبقى يدها في يده .. فتعانقت اليدان بشدة في ظروف تعني الموت لكليهما .. ثم توافقت الخطوات معاَ في طريق الزحف المجهول نحو الأمام .. ودون مزيد من حروف تقال .. وهي حروف قد لا تفيد كثيراَ في تلك الظروف والأحوال .. والصمت أصبح سيد المقام .. حيث الأهوال ألجمت الحواس وعطلت الأهواء التي كانت قد تحدث وتسري في الأجواء العادية .. والقلوب ببراءة تعدت حدود المحظور والممنوع تحت الاضطرار .. فتلك ساحات موت أهوالها أكبر من هواجس قد تطرق الأذهـان .
ـــــــــــــ
الكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد
ساحة النقاش