بسم الله الرحمن الرحيم
( قصـــة )
موبقــات الطاغيــة !!
رونق السيرة في تلك الديباجة المقدسة .. والتي تحاط بالاحترام .. حيث الموانع التي تحـد من درك الغثاء .. والمقدار أعلى كثيراَ من مستويات العموم .. فهنا الوقفة تعني الرفعة والشأن .. ولا ينبغي الجرأة بالقدر الذي يتخطى الحدود .. وإن حدثت علامة الجرأة فلا تكون إلا أثراَ خافيـاَ في نفس تحدث الذات .. في خواطر خفيفة تلامس شغاف العمق بهمسة أو بوسوسة دون المجاهرة .. وتـلك الخواطر أبداَ لا تـرى النـور .. فالسيرة تلامس نوعاَ من القمم الرفيعة العالية التي لا تتعامل في أسواق الإساءة والتجريح .. فالمقامات بأهلها والأسواق بأهلها .. وما كـل كلام يقـال .. وإن رافق الكلام نوع من الصدق والحقائق .. فكبائر الملامة تليق فقط بأهل العلامة أصحاب المعيار الأدنى .. ولا تليق بهؤلاء السادة الذين يمثلون المعيار الأعلى .. ومن الخطوات التي تجلب السخرية أن يجتهد الصغير في تجريح الكبير .. فالألماس والجواهر بمقدارها .. ولا تخدش الجواهر إلا الجواهر .. ويدخل في شلة العبث من يجتهد في تشكيل الألماس بالنحاس .. فالأخير أعجز عن المقارعة .. ولا يكون في مقام النيل أو الخدش .. ويقال في المثل اليد التي لا تطال بالعض تملك المقدرة لتطال بالقبلات .. والندية هنا فقط مثال في إثبات الصفات وأضدادها .. وليست الندية بمعنى تعادل قوة التعادل بقوة التجاذب .. فهناك القـوي المفرط وهناك الضعيف الهزيل .. ولا جديد تحت السماء .. إلا أن للمقامات هفواتها وعيوبها .. وعيوبها قاتلة .
كان صادقاَ في روايته .. وأقسم بأن عيونه شاهدت الحدث بالتفاصيل .. ولم تكن المشاهدة باحتمالية الضبابية أو الشكوك .. بل كانت الأبعاد متوفرة بالقدر السليم .. حيث كل التفاصيل عياناَ وبياناَ .. والخطيئة كانت بجرأة لا تراعي الحرمات .. بل كانت تحدياَ سافراَ .. فاحتملت القرية الحدث على مضض وخوف .. والمدن عادة تقر بمثل تلك التشوهات بحكم الانفلات السائد فيها .. أما القرى فهي عزيزة في عفتها .. وتخلو عادة من علامات الفسوق .. ولذلك فإن الحدث أرعب القرية وسكانها .. والضربة الموجعة لم تكن من ند تقدر عليه أهل القرية بالمقارعة .. بل كانت الضربة من قوة فوق طاقة الفقراء .. فهناك حدث شنيع جرت مجرياته في وضح النهار .. ثم كانت السيرة التي فاحت في كتمان .. صاحب شأن يصطاد الشرف بقوة السلاح .. ومسكينة بريئة صاحبة عفة تسلب عفتها رغم أنفها .. ورغم أنف أهلها ورغم أنف عشيرتها .. والندية مفقودة كلياَ في المقامات وفي المقدرات .. تحدثت القرية كلها .. ولكنها تحدثت في السرية دون اللسان .. والنفوس استنكرت في الأعماق ولم تتجرا أن تقول في العيان .. فالضارب هو ذلك القوي صاحب الشأن .. والضحية هي تلك المسكينة البريئة التي أوقعها الجمال في براثن الذئب الكبير .. والحدث جرى بالصدفة حيث مرور بالجوار ثم لمحة خاطفة بعدها الكارثة الفاجعة .. وقد أمرها بالخضوع لرغباته فقاومت بشـدة .. ولكن ذلك القوي كان من حوله الأعوان من الجند والحرس .. والذين أرغموها بطاعة اؤلي الأمر .. ثم ابتعدوا عن الساحة حتى يشبع السيد جوعه .. وكان هناك آخرون من سكان القرية الذين شاهدوا جوانب من الدراما المحزنة .. ولم يتجرأ أحد بأن يمس المقام .. أو يتجرأ بحرف واحد .. بل كان الجميع على السمع والطاعة .. مرت اللحظات في صمت رهيب حتى نال السيد مرامه .. وانتهت فصول الدراما الكئيبة .. تحت مشاهدة وسمع الجميع .. والشهود جمع فيهم من يرائي ويوافق وفيهم من لا يوافق ثم يداري .. فهناك من يوالي مجريات الأحداث بحكم الوظيفة والطاعة العمياء .. وهناك الآخرون الذين يموتون خوفاَ من عواقب الأمور .. فيتمنون بتلهف شديد أن تأتي النهايات بسرعة .. وكالعادة فإن الزمن كان كفيلاَ في إنهاء الدراما التي دامت لدقائق ودقائق .. فكان لا بد للأحداث من نهايات .. ثم كان هناك إعلان من الحرس المرافق بأن تلك القصة يجب أن تتلاشى من الأذهان فوراَ .. وأنها لم تقع أساساَ رغم أنها وقعت .. فالتزم الجميع بالصمت إشارة بالقبول .. ثم أرتحل ركب الاعتداء السافر التي أرعبت وأنجست تلك القرية الآمنة المطمئنة .
ذلك الحدث الطارئ المفجع أوجد جرحاَ عميقاَ في نفوس أهل القرية .. والذين آثروا الصمت تحت غطاء الخوف والسترة .. ولم تتحدث الألسن عن السيرة جهراَ .. وكأنها كانت تخشى من عيون الجواسيس .. والتي كانت تتمثل لهم في صور أشباح خفية تتواجد في القرية .. ولكن دائماَ هناك في الناس مضغة الفطرة التي تجادل .. فلم ينام ضمير احدهم من أهل القرية الذين شاهدوا المجريات .. وقرر أن يخاطر بحياته .. وتجرأ ثم تحدث بالمكشوف مستنكراَ أمام الجمع .. ويا ليته لم يفعل .. فقد أدخل نفسه في دوامة خطيرة للغاية .. حيث تم إلقاء القبض عليه وتم زجه في السجن بتهمة محاولة اشانه سمعة صاحب الرفعة والشأن .. تلك السمعة الطاهرة السامية التي لا تقبل المساس بأي حال من الأحوال .. وتحت أي ظرف من الظروف .. ونال الويل والعذاب أثناء التحريات .. ولم يجد من يسانده من أهل القرية المغلوبة على أمرها .. فأفاق من سكرته أخيراَ .. وتيقن له أنه أخطأ التقدير في الندية .. وأن الرفاق بالقرية كانوا على قدر من الحكمة حيث جانبوا الجدار وقالوا يا ستار .. ثم كان الحكم عليه بالسجن لسنوات .. فأنشد في السجن قائلاَ :
أو لـم يكـن خيـراَ لنفسـي أن أرى مثل الجمـوع أسيـر في إذعان
مـا ضرني لـو قـد سكـت وكلمـا غلـب الأسى بالغت في الكتمـان
ــــــ
الكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد
ساحة النقاش