بسم الله الرحمن الرحيم
( قصة ) مـراكب الصيـد !.!!!
مراكب الصيد النهرية .. هي ملامح هيكلية صغيرة الحجم .. لا تكترث بالمظاهر والجماليات .. وهي تلك الباهتة التي تشتكي القزمية .. هزيلة في هياكلها وقليلة في أحجامها .. وتستحيل المقارنة بينها وبين مراكب الصيد البحرية .. تلك العملاقة عند الحجة بالنسبية .. وهي عادة تشتكي عند المطية .. تتمايل وشيكة بالأذية .. ثم تستعدل إذا أنصف الراكب بنوع من الوسطية .. وتكاد تلفظ الروح إذا امتطى متنها أكثر من راكب واحـد .. نراها تتواضع وتجلس فوق سطح الماء .. وهي لا تخفي خوفها من عواقب العمق .. مراكب الصيد النهرية تتناثر في نقاط متباعدة هنا وهناك .. فهي انطوائية بالفطرة وغير اجتماعية ولا تقبل الرفقة في الغالب .. فتتباعد في المسافات البينية .. كما أنها تتباعد عن مشارف السواحل لتكون بعيدة عن الأعين .. وتلك سنة منذ قديم الأزمان حيث التطير والتشاؤم .. وصياد الأسماك هو من أكثر الناس اعتقاداَ في أمور الحظ والنحس .. والخيبة والنجاح لديه مرهون بمن يتواجد صدفة في طريق العودة أو الإياب من الصيد .. والمنكوب من الناس هو من يتواجد مصادفةَ في طريق الصياد .. فهو بالنسبة للصياد يدخل في مجال الظن .. إما أن يكون فاتحة خير وإما أن يكون جالب نحس .. ولذلك فالحكماء من الناس يتفادون مسالك الصيادين في حال ذهابهم وإيابهم .. وأشد المراحل خطورة في دواعي السحر والعين يكون عندما يعود الصياد بغنائم الصيد العالية .. فهو يحمل الغنائم ثم يجتهد في إخفائها من الأعين .. ثم يكثر الاستعاذة من العين والحسد .. وعالم صيادي الأسماك عالم مبطن بالكثير من أسرار المعتقدات والظنون المقرونة بالدجل والشعوذة .. وهناك الجديد الخطير من الأسرار التي ولدت من أرحام العصر الحديث .. حيث مرحلة تخرج المفهوم كلياَ عن الراسخ في الأذهان والمتعارف عن تلك المراكب الصغيرة .. وتلك الأسرار الجديدة تلمس جانباَ من هذه القصة .
الإنسان هو ذلك المراوغ الذي لا يعدم الحيلة .. وفي الناس من يحمل الفطنة والنباغة والذكاء ثم المقدرة في لبس ثوب الغباء .. وهناك آخرون يجتهدون ليظهروا للناس بأنهم أذكياء وفي قمة الدهـاء .. وعند الامتحان يسقطون حيث الغباء الشديد .. لأنهم في الحقيقة يفقدون كل مؤهلات العقل العالية .. بينما يتواجد في الناس ذلك النوع المبهم اللبيب الخطيـر .. صاحب العقل الكبير .. الذي لا يدعي بقوة عقله ولا يتفاخر بالذكاء .. ولكنه يدعي الغباء حتى يبعد الشبهات عن مآربه الذاتية الخطيرة .
الصدفة وحدها هي التي أوجدتنا في معية الشلة ذات يوم .. لنقع في ورطة كبيرة كادت تؤدي بنا إلى حبل الإعدام بالمشنقة .. ونحن عادة نجتمع ونلتقي كل مساء عند ركن في منتـزه الحـي الوحيد .. والمنتزه يطل على ساحل النيل الجميل .. حيث هناك تلك المقاعد الثابتة التي تجعل النيل قبلة لها .. وكنا دائماَ نجلس هناك ونتسامر ثم نرتشف القهوة والشاي .. والمعروف أن ديمومة العادة تغلب الحواس بالتكرار .. ولذلك تعودنا في جلساتنا تلك أن نتحاور مع البعض والأعين غائبة تشاهد معالم وصفحة النيل الخالدة .. تلك الصفحة التي شوهتها علامات النقاط الباهتة لمراكب الصيد العديدة .. المتناثرة هنا وهناك فوق سطح النهـر .. ولكن أيضاَ الزمن أوجد فينا الفطرة بأن لا نبالي بالتركيز على تلك الأقزام .. لأنها أصبحت تمثل علامات عادية بلوحة في الحائط .. وفي أحد الأيام ونحن جالسون فجأة كان هناك سؤال عشوائي من أحد الرفاق الأبرياء .. حيث قال مستفسراَ لماذا نشاهد العديد مراكب الصيد أمامنا يومياَ ثم هناك قلة من الصيادين من يجتهد في الصيد !! ؟؟ ,, بينما نرى آخرين من الصياديين يجلسون فوق مراكبهم تلك الساعات تلو الساعات ولا يبذلون الجهد من أجل الاصطياد ؟؟؟ .. بل نراهم من وقت لآخر يعودون للساحل ثم يرتدون مرة أخرى لعمق النيل ؟؟؟ . ثم أردف قائلاَ : والملاحظة الثانية أن هناك ندرة شديدة في الصياديين الذي يتواجدون في البر وهم يعرضون الأسماك التي تعنى جهد الصيادين .. فإذا افترضنا أن تلك القلة هي المحظوظة بالصيد فلماذا يصر الآخرون الذين لا يصطادون طوال الشهر ومع نراهم يتواجدوا بإصرار في صحبة النهر والمراكب ليلاَ ونهاراَ ؟؟ .. تلك ملاحظات كانت جديرة بالفحص والتنقيب .. ولكن الشعور العام السائد من الجميع كان تجاهل تلك الملاحظات .. لأنها لا تعني الشلة في أمورها .. ولأن أمر الصيد والصيادين ليس بتلك الأهمية .
. .مرت أيام على تلك الملاحظات وفي ذات يوم قدم أحدهم نحـونا .. شاب في ريعان العمر .. يملك العافية بالمعنى الحقيقي الذي يبعد الأسقام .. موفور الصحة ومفتول العضلات .. نظراته من أول وهـلة توحي بالذكاء وسرعة البديهة .. يبطن الكثير ويظهر القليل .. يجيد الفراسة حيث في ثواني قليلة رسم خريطة الوجوه .. يلتقط الكلمات بسرعة ثم لا ينتظر التكرار .. كانت منـه تحية الإسلام .. فرد الجميع التحية بالأفضل والأحسن ليكون الوئام .. فسأل إذا كان فينا من يحمل كشافاَ كهربائياَ يدوياَ .. فتعجبنا من ذلك السؤال البعيد عن مجريات الأذهان .. ونحن أبعد الناس حوجة لذلك النوع من الأدوات .. فكان لا بد أن نمازحه قليلاَ حتى نرفع الكلفة البينية .. فجاء ردنا له بالقول : نحن عادةَ نلتمس الظلام بالأيدي عند اللزوم .. فأبتسم ثم أظهـر الراحة من مزحنا .. ولكنه أردف قائلاَ : وبالعدم هل من يحمل في جيبه كبريتاَ أو ولاعةَ ؟؟ .. فضحكنا جميعاَ ثم قال احد الرفقاء مازحاَ من جديد : نحن بطلنا التدخين منذ زمان .. فضحك الشاب بعمق هذه المرة وكأنه وجد لحظة أنس مع جماعة أبرياء لا يجيدون غير المزح .. وبذكاء شديد وجد في جمعنا ضالة سهلة الرفقة .. جماعة من شباب لا ينفعون ولا يضرون .. فآثر الجلوس وأستأذن بأن يكون في الرفقة .. فرحبنا به جميعاَ .. وأبدى الرغبة في المزيد من السجال والحوار .. وقبل ذلك أبـدى رغبته بالتعارف بنـا .. ورحب الجميع بالصحبة والمعية الجديدة .. ا.. ثم تنافس الجميع في تقديم واجب الإكرام .. حيث العروض بتقديم البارد الحلال أو القهوة أو الشاي .. فطلب القهوة وهو منشرح الصدر .. ومن تلك اللحظة أصبح فرداَ يمثل العضوية الكاملة في صفوف الشلة .. ويوماَ بعد يوم كان يندمج مع الرفقة أكثر فأكثر .. ولكنه في جوهره كان يملك من الذكاء والفطنة ما يفوق مقدرات الشلة كثيراَ .. وهو في سنوات عمره يقارب أعمار الشلة .. ثم مع مرور الأيام أثبت لنا بأنه من الأثرياء .. وأنه يملك من المال والثراء فوق ما يتخيله العوام أمثال الرفقة .. وقد اخرس تواضعنا كثيراَ عندما بادلنا إكرامنا له بالقهوة بإكرامه لنا بالعشاء الفاخر في أفخم فنادق البلدة .. وجرى الحدث مرات ومرات مما أدخلنا في حيرة النفوس .. فنحن أعجز في أن نجاريه بالسجال ..
وواقع الحال كان يجبرنا بالسكوت على مضض .. ثم مع الأيام تعودنا دوامة الاستكانة .. وماتت فيـنا نخوة الإدعاء بالكبرياء .. ولم يتجرأ احد منا يوماَ بالسؤال عن أسرار الرجل الماضية .. وهو بدوره أستطاع بذكاء شديد أن يوجد خطاَ يمنع التجاوز لحد يقف عنـده مقام الكلفة .. ودامت شهور وأيام كانت هانئة السيرة بمعية ذلك الشاب الثـري .. تلك الأيـام الرغدة التي تسميها الشلة فيما بينها بأيام السعادة الطارئـة .
وذات يوم ونحن كعادتنا نجلس في تلك المقاعد المطلة على النيل .. وفي معيـة تفقد الشاب الثـري .. فجأة كانت هناك قوة من رجال الأمن والمباحث الذين حاصروا الشلة بإحكام شديد .. ثم القوا القبض على الجميع .. كنا في حالة حيرة وإرباك شديد .. ولا ندري شيئاَ عن مجريات الأحداث التي توالت بوتيرة سريعة ومزعجة ومهينة للغاية .. والأشد ألماَ في الأمر أن رجال الأمن استخدموا تلك القيود الحديدية ( الكلبشات ) في الأيدي عند الاعتقال مما زاد الأمور أكثر إحراجاَ وتعقيداَ .. ثم تم ترحيل الجميع إلى مركز الشرطة المحلية .. وهناك كانت المعاملة أشد قسوةَ .. حيث كانت المجريات تتم تحت خاصية الاهتمام الشديد وتحت هالة كبيرة من رميات الشبهات .. والنعت الذي أصبح يلازم الشلة هو نعـت ( شلة مروجي المخدرات ) .. وجرت المجريات والتحريات من أعلى سلطة في الأمـن .. ثم كانت الويلات التي كالت الشلة في الحبس والتحريات .. وكل يوم مرحلة من مراحل التحقيق والتحري .. وأشكال وألوان من الأسئلة المحيرة التي غالباََ ما كنا نعجز عن فهمها .. والتلميحات بالرأفة والحكم المخفف في حالة الإقرار الصريح بترويج المخدرات .. وكانت اجتهادات الأمن تصر على صدق الحدس لدى رجال المباحث والرقابة .. والمطلوب منا فقط الإقرار بثوابت التهمة بالترويج في المخدرات .. ولكن الفطرة الصادقة في شلة لا تمتلك الذكاء الكافي في المراوغة كانت تتم المواجهة .. والصورة الماثلة كانت زوبعة من أهل التحري والأذكياء مع شلة من الأغبياء الأبرياء .. والإنكار المطلق كان من الجميع بصدق النوايا والضمير .. رغم المحاولات الاحترافية من رجال التحري النجباء .. ثم التحقيق باستخدام سياسة التفرق والانفراد بين أفراد الشلة لإيجاد الثغرات .. وفي كل مراحل الزوبعة العنيفة فإن أفراد الشلة كانوا يجهلون الحقائق بالكامل .. ويجهلون أساس المجريات .. ثم كان الفرج يوماَ عندما طلب المتحري بالاجتماع مع كل أفراد الشلة .. ثم في قرار مفاجئ أعلن المتحري أن أفراد الشلة كلهم أبرياء من تهمة ترويج المخدرات .. وبعدها تكشفت الأسرار بالتوالي .. فذلك الشاب هو القطب الذي تدور حوله الأحداث .. حيث كان يملك عدداَ من مراكب الصيد الصغيرة .. وله عدد من أفراد العصابة الذين ينتمون إليه ويروجون المخدرات تحت أوامره .. والخطة الذكية في كل العملية هي أن تلك المراكب المسمية بمراكب الصيد كانت تخصص وتعبأ بالمخدرات يومياَ .. ثم تبحر بحمولتها من المخدرات لتتواجد في أواسط النيل .. وهناك المشترون للمخدرات الذين عادة يأتون للسواحل لشراء المخدرات ولديهم إشارات معينة متعارف عليها .. وعند رؤية الإشارة تتوجه إحدى تلك المراكب للشاطئ لإتمام عملية البيع والشراء .. ثم تعود مبتعدة مرة أخرى لداخل النهـر .. والأعجب أن العمليات كانت تتم أيضاَ في الليل .. ومشتري المخدرات كانوا يقفون عند الشاطئ ثم يستخدمون إضاءات معينة باستخدام الكشاف الكهربائي أو باستخدام شعلة الكبريت .. وعند ذلك تتوجه إليهم إحدى تلك المراكب وتتم المبايعة .. وقد كان ذلك الشاب المروج للمخدرات هو من أكبر مروجي المخدرات في البلد .. ولكنه كان مراقباَ من قبل الأمن منذ فترة طويلة .. والخطوة التي أوجدت النكبة للشلة هي تلك الصداقة التي ربطت الشاب بهم .. مما أوقعهم في سلة الشبهات في ترويج المخدرات .. ولكن الأعجب في الأمر أن ذلك الشاب أقر بواقع الأحداث .. ثم بشجاعة نادرة وبذكاء شديد استطاع أن يبرر ساحة الشلة من التهمة الخطيرة .. حيث أثبت للمتحرى أن هؤلاء أقل مقدرة وأقل ذكاءً من التعامل في أمور الممنوعات والمخدرات .. فقام المتحري بالتحقق في مقدرات الشلة الذهنية .. فوجدهم فعلاَ مجموعة أقل مقدرة وتعاملاَ في تجارة لا يقدر عليها إلا العمالقة أصحاب العقول الكبيرة .. فتلك مجموعة على نياتها خالية من نوابغ الشرور .. وخالية من مراوغات الذكاء .
وما زالت هناك أسرار خلف تلك الأقزام الصغيرة التي تظهر الضعف والهزال .. وتظهر الرجفة عند ملامسة سطح المياه .. تلك هي قصة مراكب الصيد .. وذلك هو فقط جانب من أسرارها العجيبة .
ساحة النقاش