بستـان دوحة الحروف والكلمات ! للكاتب السوداني/ عمر عيسى محمد أحمد

موقع يتعامل مع الفكر والأدب والثقافة والخواطر الجميلة :

 

بسم الله الرحمن الرحيم 

 

قصة قصيرة  

 فقط من محض الخيــال

 

أخـتـــــــــــي 

         تلك هي أختي .. رفيقة دربي .. والتي حين وعيت والتمست معالم الحياة وجدتها أمام عيني .. رفيقة الشقاوة  في مسار طفولتي .. صاحبة العداء الدفين وصاحبة الشجار والتناحر المستديم .. ولم أعرف عنها إلا معاني الخصومة والعداوة في مشوار طفولتي .. ذلك الخصم الذي يردد صدى أحزاني وبكائي .. وهي كعادتها منذ نعومة أظفارها كانت تحب وتنتشي بمشاجرتي وبمكايدتي .. وكانت تجيد العناد والخصام وتجند كل رغباتها لتكون عكس مرامي .. فإذا قلت لها يوماَ شرقاً قالت بل غرباً .. وإذا قلت لها يوماَ يميناَ قالت بل شمالاَ .. وإذا حكمت بأمر كانت عكس ذلك الأمر تناقض الحكم وتصر على النقيض .. وإذا بكيت يوماَ أزرف الدموع وجدتها ترقص فرحا وطرباَ .. وإذا ضحكت يوماَ أمرح بسعادةَ لحظات وجدت ملامح الأحزان فوق جبينها .. وكنت أتعجب من مواقف أختي حين تحب عنادي .. مع أنها كانت الوحيدة بمعيتي وجواري .. فكأنها خلقت لتعكر مزاجي .. فكانت تعشق كل أمر يجلب غمي وغضبي وبكائي .. ولم نلتقي يوماَ على موقف أو جملة أو حرف يعني الوفاق والاتفاق .. كما أننا لم نضحك يوماَ على سيرة أفرحت القلبين .. بل كان الشجار ثم الشجار والشجار .. وكان الخصام ثم الخصام والخصام .. وفي أوقات كثيرة كانت تناكفني حتى يحتد الشجار ويبلغ مراحل التشابك بالأيدي ثم العراك .. وعادة كانت تنتهي تلك المناكفة بالدموع التي تسيل فوق خدها وخدي .. والأعجب أن تلك الديمومة في سجال الشجار والخصومة البينية جعلتني أظن بجهالة أن ذلك الواقع هو السائد في بيوت الناس بين الأطفال الذكور والإناث !! .. ولم يخطر في بالي يوماَ أن تلك الحروب ليست بالضرورة .. وأن هنالك حياة غير تلك الحياة بدون ذلك العراك وبدون ذلك السجال .

         حكمت الأقدار أن تكون للأسرة فقط ولد وبنت .. فكنت أنا وكانت هـي .. وقد جاءت إلى الحياة قبلي فكانت تكبرني بعامين .. ترعرعنا سوياَ لنجتاز مراحل الطفولة في ذلك البيت الذي كان يخلو من الأطفال الآخرين .. كان ذلك الأب العطوف وكانت تلك الأمة الحنونة .. في أسرة هانئة متواضعة محافظة .. وحين كنا نتشاجر أنا وأختي كانت تتدخل أمنا في غياب الأب لتفض المشاجرة .. أو يتدخل أبونا في حال تواجده بالدار .. وبحكم جهلي وبراءة ظني كنت أعتقد أن أبي يفضلها علي .. وهي بحكم جهلها كانت تظن أن أمي تفضلني عليها .. فإذا تشاجرنا كما يحدث عادة بين أخ وأخت كانت أمي تقف بجانبي مدافعة عن ولدها .. وكان أبي دائماَ يقف بجانبها يدافع عنها ويحفظها من كيدي .. والحكمة ليست متعمدة إنما ذلك هو الأب الذي يظن أن عليه أن يحمي ابنته في حال الشجار .. لأن البنت مهما كانت فهي رقيقة المقاومة عند التشابك والتعارك .. وليست بدرجة ذلك العنف المتطرف لدى الأولاد .. ثم أن الوالد عادة يقف بجانب البنت حتى لا تتعرض البنت لضرب قد يترك آثاراَ تشوه جمالها وجسدها .. وتلك نقطة يوجد الحق للوالد أن ينحاز لجانب البنت مهما كانت مبررات الشجار والمظلمة .. أما تلك الأم الحنونة فكانت تدافع عن ولدها الوحيد وتظن أن ولدها ضحية مكائد ابنتها الماهرة في التخطيط والإيقاع .. تلك الابنة الشقية التي كانت دائماَ تنجح في كسب عطف أبيها بالدموع الخادعة الكاذبة .. ومجمل الأحوال كان يمثل ذلك الجدل المعتاد الذي يكون بين أطفال الأسرة الواحدة .. فهي تلك المناكفات والمشاحنات من حين لآخر .. وعادة تستمر تلك المظاهر السلبية البريئة في مراحل الطفولة  ..  ثم تتقلص وتتناقص تدريجياَ عند مراحل العقل والتعقل .. أما أنا وأختي فكانت معركتنا قوية ومبالغة في الحدة والخصام .. وكانت العداوة والخصومة قوية بدرجة تفوق المعدل العادي لدى الآخرين .. فكم من المرات مزقت لها الكتب المدرسية وجعلتها تبكي وتولول حتى يعود أبي فتحكي له الرواية بالزيادة وبالرتوش اللازمة .. ثم أنال أنا تلك العلقة الساخنة .. وكم من المرات كانت أختي تخفي ملابسي المدرسية حتى أتأخر عن مواعيد طابور الصباح .. ثم ذلك الجزاء والعقاب من إدارة المدرسة .. وباختصار شديد كانت معركة الطفولة بيننا عنيفة وقوية للغاية .. ومع الأسف الشديد فإن تلك المعركة مع مرور الأزمان تركت أثرها البالغ في النفوس .. وأوجدت حاجزاَ مانعاَ بيني وبينها بذلك القدر الذي خلق نوعاَ من الجفاء الشديد والسلبية في علاقة الأخ مع الأخت .. وعندما كبرنا دامت تلك السلبية في صورة ذلك الجفاء وعدم الوفاق والاكتراث .. وكلما تعمقنا في مراحل التعقل كلما ابتعدنا عن دوافع الشجار بعدم التدخل في شئون الآخر .. فمرت السنوات بتلك السلبية القاحلة .. فلا أهتم بشئونها ولا تهتم بشئوني .. فكأنها ليست بأختي وكأنني لست بأخيها !!.

        مرت السنوات .. وكبرت الأجساد .. وتباعدت المسافات .. هي بصديقاتها وأترابها .. وأنا بأصدقائي وأترابي .. والخيط الرفيع الذي يربطنا هو فقط ذلك المسمى تحت مكنى أفراد الأسرة الواحدة !! .. وحين شاءت الأقدار فكرت في التأهل والزواج .. وبدأت الأسرة  خطواتها في مراسيم الاحتفالات .. تتبع في ذلك تلك العادات المعهودة في تلك الأيام  ..  ومن تلك العادات ما يعرف باحتفالات يوم ( الحناء ) لدى أهل العريس ولدى أهل العروسة .. والقرية التي نحن فيها تتميز بطقوسها الخاصة في الكثير من جوانب تلك الاحتفالات .. ومن تلك العادات أن جميع أهل العريس يلتقون يوم الحناء في بيت العريس .. كما أن جميع أهل العروسة يلتقون في بيت العروسة .. وبعد الانتهاء من مراحل التكريم والولائم تبدأ مراسيم وضع الحناء بالزغاريد والتباشير .. وعندها يجلس العريس مع مجموعة من الأصدقاء المقربين والإخوان الأشقاء فوق أريكة تتوسط بساطاَ مزركشاَ يفترش على الأرض .. ثم يتم تحضير العطور والحناء .. ومن التقاليد المقدسة في تلك اللحظات أن تتقدم القريبات من أولاة الأرحام  ( الأم والأخوات والخالات والعمات وبنات الأعمام وبنات الخالات ) بوضع نقطة صغيرة من الحناء في جبين العريس .. وكثرة النقاط فوق الجبين تعني كثرة الأهل من أولي الأرحام . 

       ويوم مناسبتي للحناء تتبعت تلك المراسيم .. وعندما جلست فوق الأريكة مع الرفاق والأصدقاء همت أحداهن أن تضع النقطة الأولى من الحناء فوق جبيني .. وذلك وسط زغاريد الحسان وتباشير الأحباب .. ولكن لذهولي وذهول الحاضرين سمعت أختي وهي تصرخ بأعلى صوتها وتأمرها بالتوقف !! .. ثم وقفت وسط الجمع وأقسمت بالله بأنها هي التي سوف تضع النقطة الأولى فوق جبين أخيها .. وفجأة تقدمت لناحيتي وهي تمسك بإناء الحناء في يدها .. وفي تلك اللحظة انطلقت الزغاريد والتباشير من الأهل والأصدقاء .. جلست أمامي مباشرةً وهي تحاول ان تأخذ قطعة من باقة الحناء .. كانت أختي في تلك اللحظات تلبس أجمل الثياب بمناسبة زواجي .. وحين جلست أمامي كانت تغمرها الفرحة العارمة .. وهي تجتهد أن تمنع دموع الفرحة التي تسيل فوق خدودها .. ثم فجأة التقت عيني بعينها فمالت برأسها باستحياء نحو الأرض .. فأمسكت بيديها .. فرفعت رأسها من جديد ونظرت في عمق عيوني وهي تزرف دموع الفرحة التي كانت تفلت من عينيها رغم محاولات الكبت بمنديلها .. وفجأة تعانقت أناملي بأناملها بشدة والفرحة تغمر القلبين .. وفي تلك اللحظة أحسست لأول مرة بأن أختي هي بحر من الحنان .. كما أحسست بأنها اقرب الناس إلى قلبي .. فرحة غامرة أنستني كل الماضي .. وأعادت لي أختي تلك التي فقدتها منذ نعومة أظفاري .. تأملت في ملامح أختي وكأنني أشاهدها لأول مرة .. فوجدتها تلك الأخت الجميلة غاية الجمال .. ودون اجتهاد مني بدأت دموع الفرحة تفلت من عيني .. وقد أحسست بالفرحة كثيراَ لعودة أختي إلى قلبي .. كانت تلك اللحظات من أجمل اللحظات في حياتي .. وزادت اللحظات جمالاَ حين مالت أختي وهمست في أذني وقالت : ( ألف ألف مبروك أخي العزيز !! ) .. ثم أردفت قائلة : ( أنا أحبك كثيراَ وكثيرا يا شقيقي الوحيد ) .. وتلك هي المرة الأولى في حياتي التي أسمع فيها مثل تلك الكلمات االمعبرة الحلوة من أختي .. فكم وكم تمنيت أن أسمعها من قبل !! .. كلمات عزيزة غالية أنستني قسـوة المرارة التي لازمت سنوات العمر في رفقة الشقيقة العنيدة  .. فتلك هي أختي العزيزة التي مشت معي مشوار الحياة منذ نعومة الأظفار .. ذلك المشوار بكل إرهاصاته .. تلك الإرهاصات التي تلاشت في لحظة فرحة وكأنها لم تكن يوماَ !!.. فيا لها من أخت من دمي ولحمي .

 

ــــــــــ

 

      قصة من محض الخيال :  تأليف الكاتب / عمر عيســى محمــد أحمــد     

 

OmerForWISDOMandWISE

هنا ينابيع الكلمات والحروف تجري كالزلال .. وفيه أرقى أنواع الأشجار التي ثمارها الدرر من المعاني والكلمات الجميلة !!! .. أيها القارئ الكريم مرورك يشرف وينير البستان كثيراَ .. فأبق معنا ولا تبخل علينا بالزيارة القادمة .. فنحن دوماَ في استقبالك بالترحاب والفرحة .

  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
17 تصويتات / 1999 مشاهدة
نشرت فى 28 إبريل 2011 بواسطة OmerForWISDOMandWISE

ساحة النقاش

OmerForWISDOMandWISE
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

801,718