سلاح الإعلام ومعركة إثبات الذات
«سلاح الإعلام !» من أقوى وأنكى الأسلحة خاصة في عصرنا الحديث، بل يعتبره البعض أقوى من آلة الحرب المعاصرة رغم جبروتها وقسوتها، ذلك لأن الإعلام يعمل على تشكيل الأفكار وصياغة المعتقدات وتلك هي الأسس التي تحرك الشعوب والمجتمعات وتحدد منطلقاتها، وقد سمَّى بعض المفكرين الإعلام بالسلطة الرابعة، بل كان (هيجل) يقول معظِّماً لشأن الإعلام: "الصحيفة هي الصلاة العلمانية الصباحية للإنسان الحديث!"؛ وهيجل يتكلم من منطلق ثقافته الغربية العلمانية لكنه محق عموما في توضيح فكرة تأثير الإعلام على واقع المتلقي وأهميته في حياته.
غزو بصورة عصرية
يقول الأستاذ عبد القادر طاش -رحمه الله-: "يواجه المسلمون اليوم في مختلف أقطارهم ومواطنهم غزوًا فكريًا وثقافيًا وحضاريًّا رهيبًا، ولم يَعُد هذا الغزو الحضاري الشامل مقصورًا على الوسائل التقليدية للغزو من كتبٍ استشراقية، أو مذاهب هدّامة، أو مؤامرات استعمارية مكشوفة، لقد انتهى عصر الغزو الاستعماري الاستشراقي المباشر. إنَّ الغزو الحضاري الذي تواجهه الأمة الإسلامية يستخدم وسائل جديدة، وأساليب جديدة. إنَّ الرسالة الغازية تعبر إلى الأجيال الصاعدة، بل إلى العقول المثقّفة، عن طريق الخبر الذي تبثّه وكالة الأنباء، والتحليل السياسي، أو الاقتصادي الذي تكتبه الصحيفة، والصورة التي ترسلها الوكالات المصوّرة. والرسالةُ الغازية تعبر إلى العقول المثقفة عن طريق الفيلم التلفازي المدهش، وعن طريق شريط الفيديو، وعن طريق البرنامج الإذاعي المشوّق. والرسالةُ الغازية تعبر إلى الأجيال الصاعدة عن طريق فيلم الكرتون المتقَن. والرسالةُ الغازية تعبر إلى العقول المثقفة والأجيال الصاعدة عبر النظريات المدسوسة في مناهج التربية والتعليم، معلّلةً بدعاوي العلم والتقدم والاكتشافات الحديثة!!".
والواقع يشهد أن الآلة الإعلامية الغربية المعاصرة صارت جبارة وشلت قدرة قطاع كبير من الجمهور عن التفكير عبر طوفان التدفق المحموم للأخبار والمعلومات والتحليلات سواء كانت صحيحة أم كاذبة، كما أنها أججت العديد من الحروب النفسية وعمليات غسيل الأدمغة لاستبدال المفاهيم التي تتناقض معها بمفاهيم تتفق مع مصالحها.
ويكفيك دلالة على يقظة الآلة الإعلامية الغربية المغرضة أنها تتلقف كل ساقطة ولاقطة ممن يدعون حرية الفكر من كتاب أو فنانين أو باحثين من بني جلدتنا، فما إن يخوض أحدهم في نقد ثوابت الدين أو التهجم على علمائه الأبرار أو يروج لفاحشة أو يستهجن فضيلة.. إلا وانهالت عليه القنوات الإعلامية الغربية والمستغربة، تارة بعقد لقاء أو مداخلة أو تقديم جائزة، تحت دعاوى: كسر الجمود، ومحاربة الرجعية، ونبذ الظلامية.. وغيرها من مصطلحات فضفاضة لا تعجز قريحتهم عن ابتكار مرادفات عديدة لها.
وهذا مخطط إبليسي قديم، لم يسلم منه حتى عهد النبوة المحمدية، ففي حديث الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، يقول أحدهم وهو سيدنا كعب بن مالك -رضي الله عنه-: "فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ أَهْلِ الشَّأْمِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَعَ إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ، وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلَا مَضْيَعَةٍ، فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ، فَقُلْتُ لَمَّا قَرَأْتُهَا: وَهَذَا أَيْضًا مِنْ الْبَلَاءِ فَتَيَمَّمْتُ بِهَا التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بِهَا".
حصار إعلامي
يؤكد الأستاذ عمر عبيد حسنة في كتابه «مراجعات في الفكر والدعوة والحركة» أن الحصار الإعلامي اليوم - قبل مرحلة أقمار البث المباشر، والتي تنوي الدول القوية زراعتها فوق رُؤوسنا، وتسليطها على حواسِّنا حيثما كنَّا – يطبق علينا من كل جانب، وأن الاستهلاك الإعلامي في العالم الإسلامي للمواد المصنَّعة في الخارج يزيد عن 80 % من المطروح يوميًّا، ويأتي في معظمه محاكاة لأفكار وإنتاج وإخراج الدول المتحكِّمة إعلاميًّا، وشأننا في ذلك هو شأن الإنسان الاستهلاكي لأشياء الحضارة، العاجز عن إنتاجها الذي سوف ينتهي -شاء أم أبى- به إلى لون من الارتهان الإعلامي والثقافي والحضاري؛ وذلك لأن الإعلام لم يعد يقتصر على إيصال المعلومة، وإنَّما يُسهم في تشكيل الإنسان، وإعداده لقبول المعلومة التي يريد دون أن يدعَ له الفرصة لفحصها واختبارها لقبولها أو ردِّها".
الإعلام الإسلامي إن الأمل في تدشين إعلام إسلامي بديل يبدد الهيمنة الإعلامية الغربية صار واقعا وبدأت بشائره تظهر، خاصة وأن إحكام السيطرة على مصادر الخبر بات أشبه بالمستحيل بسبب دخول الشعوب في اللعبة الإعلامية، وذلك من خلال الشبكة العالمية (الإنترنت)، وبعض القنوات والصحف الهادفة، لكن الجهد مازال متواضعا، والحاجة إلى كواد ومصادر تمويل باتت ملحة لتدعيم مسيرة هذا الإعلام الوليد.يقول الأستاذ خباب الحمد: "إنَّ المشاريع الإبليسيَّة والمخططات الغربية أو الشرقية المعادية للإسلام، تحتاج لخطوات معاكسة ثابتة ومخطَّط لها من قبل المدافعين عن الإسلام عقيدة ومنهج حياة. ولا راد لتلك الخطط الغربية في محاولة الاستلاب الثقافي والعقائدي للأمة المسلمة؛ إلا بصناعة إعلامي إسلامي بديل يصل لجميع الكفرة أو المعرضين عن الإسلام لعلَّ هداية من الله تعالى تنالهم؛ لأنَّهم يعلمون أنَّه لو ظهرت الحقائق الإسلامية الناصعة، على مرأى من هذا العالم، لشهدوا للمسلمين بأنَّهم الأمَّة الحقَّة والخيرة من دون الأمم، لكنَّ التعتيم على الحقيقة، والغزو الإعلامي للأمة المسلمة يذكِّرني كثيراً بالأساليب العمليَّة التي يستخدمها الطغاة والكفرة بالتحذير من سماع منطق الحق والقوَّة بقصَّة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي -رضي الله عنه وأرضاه- حيث كان كفَّار قريش يغبِّشون عليه الحقائق، ويخفونها عليه، بعدَّة قوالب وأساليب، ولنتأمَّل ما قاله الطفيل قبل إسلامه: فوالله ما زالوا بي يقصُّون عليَّ من غرائب أخباره ويخوِّفونني على نفسي وقومي بعجائب أفعاله، حتى أجمعتُ أمري على أن ألا أقترب منه وألا أكلمه أو أسمع منه شيئاً، حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كُرْسُفَاً [أي قطنا] فَرَقَاً من أن يبلغني شيء من قوله وأنا لا أريد أن أسمعه"
أفلا تعقلون
لكن هذا الصخب الإعلامي لابد له من عقل واع يغربله، وفكر راق يمحصه، فالإعلام معركة وعي قبل أن يكون مجرد رؤية سطحية لفضائية ما أو مطالعة عابرة لجريدة، ويجدر بنا أن نعود إلى قصة الطفيل الآنفة الذكر لنرى ماذا صنع أمام هذا الزخم الإعلامي المغرض تجاه الرسول -صلى الله عليه وسلم- ودعوته، فيقول -رضي الله عنه-: لكني ما إن دخلت المسجد حتى وجدته قائمًا يصلي عند الكعبة صلاة غير صلاتنا، ويتعبد عبادة غير عبادتنا، فأسرني منظره، وهزتني عبادته –[وانتبهوا معي لأهمية السلوك]- ووجدت نفسي أدنو منه، شيئًا فشيئًا على غير قصد مني، حتى أصبحت قريبًا منه، وأبى الله إلا أن يصل إلى سمعي بعض ما يقول –[وكذا دعوة الحق رغم كل الضغوط والحروب]- فسمعت كلامًا حسنًا، وقلت في نفسي: ثكلتك أمك يا طفيل.. إنك لرجل لبيب شاعر، وما يخفى عليك الحسن مِن القبيح، فما يمنعك أن تسمع مِن الرجل ما يقول،فإن كان الذي يأتي به حسنًا؛ قبلته، وإن كان قبيحًا؛ تركته؟!