عنصرية الجنسية ..من الجاهلية !

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:
فالله خلق آدم من تراب، وجعل نسله من ماء مهين، وجعلهم شعوبا وقبائل ليتعارفوا، ورفع بعضهم فوق بعض درجات، ليتخذ بعضهم بعضا سِخريا في هذه الدنيا، وجعل الكرامة عنده لأهل تقواه، (ومن يهن الله فما له من مكرم).
قال الله تعالى: (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب)، وقال جل شأنه: (الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين)، وقال: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، وقال: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون).
فبين أنه سبحانه قد فاوت بين خلقه، فيما أعطاهم من الأموال والأرزاق والعقول والفهوم، وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة، ليسخّر بعضُهم بعضاً في الأعمال، لاحتياج هذا إلى هذا وهذا إلى هذا.
وهذا التفاوت وما ينتجه من السخرة، بعضه بأسباب مشروعة لتفاوت في الملكات والقدرات والغناء عن أهل الإسلام ودولته، وبعضه لأسباب غير مشروعة منشؤها الظلم أو الأثرة والتفضيل بغير شرع ولا هدى.  
وقد جعل الله المؤمنين إخوة، وأوجب العدل بينهم، كما قال: (وأمرت لأعدل بينكم)، (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي)، وعلى العدل  قامت الشريعة: (وتمت كلمات ربك صدقا وعدلا)، بل ما بعث الله الرسل ولا أنزل الكتب إلا ليقوم الناس بالقسط كما قال: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط).
ووجوب العدل بين الناس مما يعلم بالعقل:
وإن الظلم من كلٍ قبيح!    وأقبح ما يكون من النبيه.
ولا تنبل أمة من الأمم لاتقيم العدل بين رعاياها.
وإذا علم ما تقدم، علم أن الأصل هو تسوية الدول بين رعاياها من المسلمين في الحقوق والواجبات؛ لأنهم في حكم الشرع إخوة لا فضل لعربي على أعجمي منهم إلا بالتقوى، فلا يجوز التمييز أو التفضيل بينهم إلا لمقتضي تكون مراعاته من جملة إقامة العدل، فمن العدل على سبيل المثال أن يكون عطاء الدولة الإسلامية للأكثر غناء للإسلام أكثر، ومن العدل التفاوت بين أرزاق العمال بحسب وظائفهم وما تتطلبه من عمل وجهد، ومن العدل أن يستعمل لوظائف الدولة الأولى من حيث القوة والأمانة.
وهكذا كل أمر موكول إلى تنظيم الدولة أو الإمام ونوابه من الأمور العامة فالواجب فيه العدل بين المسلمين، فأخوة الإسلام مقدمة على كل رابطة قبلية أو إقليمية أو وطنية، وكما لا يجوز أن يخص ولي الأمر قبيلة بمزايا أو يحرم أخرى منها، فكذلك ليس له أن يخص بذلك أهل إقليم دون الآخر، وكذلك لا يخص أهل وطن دون وطن، والوطن في لسان العرب أخص من الإقليم.
لكن لما استعاضت الدول الإسلامية عن الرابطة الإسلامية روابط أخرى، وطنية أو قومية أو اتحادات خاصة وجعلت لرعايها أثرة بناء عليها، على غير هدى من الله في الغالب، أحدث هذا بين الناس تشاحا، وادعاء أحقية أو حقوقا لبعض الخلق ليست لغيرهم في بعض أرض الله بغير وجه حق، ومن العجيب أن تجد رجلين في دولتين متجاورتين لا يفصل بينهما شيء،  سموه حدودا وهمية! لو مد أحدهما يده لصاحبه لأمسك به! ثم تجد لهذا حقوقا! فوق الأرض التي هو فيها يشركه فيها آخر على بعد أميال سحيقة، ولا يشركه فيها القريب الذي أمسك بيده من وراء الحدود الوهمية، والأعجب أن هذا يحدث باسم الوطن والوطنية! بينما وطن المرء الأرض والمضارب التي نشأ فيها.
والمقصود أن هذه التفرقة المبنية على غير هدى بين المسلمين في الحقوق أحدثت تشاحا وأثرة وادعاء حقوق لأقوام ليست لهم في دين الله وسلبها من آخرين ربما كانوا أحق بها!
وهذا أوجب لكثيرين اختلالا في ميزان الولاء، وتنافسا بين منتسبي الدول والدويلات ليعلو بعضهم فوق بعض، ويفخر بعضهم على بعض بما آتهم الله وما أقدرهم عليه، حالهم كحال صبية جعلوا فريقين، فكل دأب على سبق الآخر، والعلو عليه، وربما الكيد لمنافسه، ووسمه بكل نقيصة!
وهذا النوع من العصبية على الجنسية مستشر مع الأسف لا تختص به جنسية دون أخرى، تجد هؤلاء يسخرون من هؤلاء، وهؤلاء يزدرون هؤلاء، وكثير من الجهلاء متنمر في دولته على غيره! وهذا ضرب من العصبية أشد قبحا من العصبية الجاهلية على اسم القبيلة، أو العشيرة، وذلك لكون القرابات بينهم من حقوق الصلة والدعوة والرعاية والمعروف ودفع السوء أعظم مما بين غيرهم، فالأقربون أولى بالمعروف، وفي حديث أبي رمثة قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده ناس من ربيعة يختصمون في دم العمد، فسمعته يقول: "أمك وأباك، وأختك وأخاك، ثم أدناك فأدناك"، وهذا ونحوه في ما يملك المرء من الحقوق الخاصة، فمن كان له مال ورأى أن يستعمل فيه من قرابته إحسانا وصلة فذلك حسن ولو ترك أكفأ وأقدر من غير القرابة، أما أن يتعدى ذلك إلى اختصاصهم دون الأمين الأقوى في الولايات والوظائف العامة التي أوجب الشرع أن ينظر فيها بالأصلح للمسلمين لا إلى فئة أوجهة أو إقليم فهذا ظلم وعدوان على حقوق الغير، وغش للمسلمين وضرب من الإفساد، فإن زاد نصرة ظالمهم، كان ذلك أقبح، بل إن اعتقد فضلا لقومه على الناس، لتمكنهم من بعض أمور الدنيا، ككثرة مال أو عدد أو نحو ذلك مما لا يحمد في دين الله لذاته كان ذلك جهلا.
وإذا كان المسلم منهيا عن أن يعتزي على غيره، منهيا عن الطعن في نسب غيره، أو الفخر بحسبه، متوعدا على ذلك، موصوفا فاعله بالجاهلية، وفي الحديث: لينتهِينَّ أقوامٌ يفتخِرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فحمُ جهنَّم، أوليكوننَّ أهونَ على اللهِ من الجَعْل الذي يُدَهْدِهُ الخرءَ بأنفِه، إنَّ اللهَ قد أذهب عنكم عُبِّيَّةَ الجاهليةِ وفخرَها بالآباءِ، إنما هو مؤمنٌ تقيٌّ، وفاجرٌ شقيٌّ، الناسُ كلُّهم بنو آدمَ، وآدمُ خُلِقَ من التُّرابِ.
فالفخر بالانتساب إلى دولة أقبح، إذا ظهر أن ما يقتضي الفخر من التماييز لم يبن على عدل وهدى، بخلاف الاعتزاء والفخر بالنسب ونحوهما من دعاوى الجاهلية التي تقوم على أمور معقولة عند الناس، كمكارم ورثها الآباء عن الأجداد.
ولما كانت العنصرية أو العصبية للدول ناشئة عما أحدث من تمييز في الحقوق، فلا غرو أن يعلو من كان أعظم عرضا وأوفر حقوقا وإن كان وضيعا في دين الله. وبينما يقع التغالب بين المتقاربين، فلا تجد اليوم غالبا منتميا لدولة عربية يفخر بجنسيته ليعلو منتميا لدولة يتمتع رعاياها بحقوق أوفر، ومكانة أكبر، ونعم دنيوية ومتع تترى، فلا يفخر على أمريكي ولا بريطاني ولا فرنسي ولا ألماني مثلا بجنسيته! وإن طالب بأن تكون له حقوق في الدولة التي ينتمي إليها ليست لهم، وقد يتحقق له هذا وقد يكونون أعظم حقوقا منه لما تفرضه دولهم من تعامل معهم  وما توجبه لهم من الحقوق في أي أرض وجدوا.
والمقصود أن هذه العصبية البغيضة المبنية على حدود وهمية بين المسلمين، وتمييز بين الإخوة بني على جور قل منكره اليوم، بل اعتقده عدلا ولم يجد حرجا في العمل بمقتضاها بعض أهل الغفلة من الصالحين، مما يجب أن يحذر منه، ويبين خطره، ويعمل على حسم أسبابه في دويلات الإسلام. قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة، فهو من عزاء الجاهلية، بل لما اختصم مهاجري وأنصاري، فقال المهاجري: يا للمهاجرين، وقال الأنصاري: يا للأنصار، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم! وغضب لذلك غضبا شديدا"، ومن المفيد في هذا المقام أن يطالع المرء ما سطره بعض الأعلام في نقد القومية، فكثير من  مفاسدها متحقق في هذا العصبيات.
وعلى دعاة الإسلام أن يدعوا الناس للعودة إلى النهج الأول، الذي يجعل العصبية على الأسماء وإن كانت شرعية كيا للمهاجرين، ويا للأنصار من الدعاوى الجاهلية، النهج الذي آخا فيه صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبل إخوانهم،  ثم لم يجد مؤمنوهم حرجا في أن يتقاسموا ما بأيديهم مع إخوتهم الوافدين عليهم، بل مكنوا لهم في أرضهم، بل أورثوهم الحكم وخلافة النبوة، بينما أجلوا بني قينقاع وبني النضير، الذين لم يأس على وطنيتهم غير المنافقين! (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم والله يشهد إنهم لكاذبون). هذا والله أسأل أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يؤلف بين قلوبهم، ويجمع كلمتهم، وأن يبدلهم بالعرى الجاهلية أخوة الإسلام ورباط التقوى، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

المصدر: إبراهيم بن عبدالله الأزرق -- موقع تاصيل
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 114 مشاهدة
نشرت فى 10 ديسمبر 2013 بواسطة MuhammadAshadaw

بحث

تسجيل الدخول

مالك المعرفه

MuhammadAshadaw
مكافحة اضرار المخدرات والتدخين ومقالات اسلامية وادبية وتاريخيه وعلمية »

عدد زيارات الموقع

938,940

المخدرات خطر ومواجهة

مازال تعاطي المخدرات والاتجار فيها من المشكلات الكبرى التي تجتاح العالم بصفة عامة والعالم العربي والإسلامي بصفة خاصة وتعتبر مشكلة المخدرات من أخطر المشاكل لما لها من آثار شنيعة على الفرد والأسرة والمجتمع باعتبارها آفة وخطراً يتحمل الجميع مسؤولية مكافحتها والحد من انتشارها ويجب التعاون على الجميع في مواجهتها والتصدي لها وآثارها المدمرة على الإنسانية والمجتمعات ليس على الوضع الأخلاقي والاقتصادي ولا على الأمن الاجتماعي والصحي فحسب بل لتأثيرها المباشر على عقل الإنسان فهي تفسد المزاج والتفكير في الفرد وتحدث فيه الدياثة والتعدي وغير ذلك من الفساد وتصده عن واجباته الدينية وعن ذكر الله والصلاة، وتسلب إرادته وقدراته البدنية والنفسية كعضو صالح في المجتمع فهي داخلة فيما حرم الله ورسوله بل أشد حرمة من الخمر وأخبث شراً من جهة انها تفقد العقل وتفسد الأخلاق والدين وتتلف الأموال وتخل بالأمن وتشيع الفساد وتسحق الكرامة وتقضي على القيم وتزهق جوهر الشرف، ومن الظواهر السلبية لهذا الخطر المحدق أن المتعاطي للمخدرات ينتهي غالباً بالإدمان عليها واذا سلم المدمن من الموت لقاء جرعة زائدة أو تأثير للسموم ونحوها فإن المدمن يعيش ذليلاً بائساً مصاباً بالوهن وشحوب الوجه وضمور الجسم وضعف الاعصاب وفي هذا الصدد تؤكد الفحوص الطبية لملفات المدمنين العلاجية أو المرفقة في قضايا المقبوض عليهم التلازم بين داء فيروس الوباء الكبدي الخطر وغيره من الأمراض والأوبئة الفتاكة بتعاطي المخدرات والادمان عليها.