الحرية في الفكر الفلسفي اليوناني

                                                      بقلم أ.د/ محمود مراد*

مقدمة

     على الرغم من هالة العظمة المحيطة بالفكر اليوناني القديم  ، وعلى الرغم من النظرة المترسخة إليه ـ خاصة عند الغرب ـ من أنه المنبع الأول للتفكير العقلاني الحر ، والمنشأ الأصيل للفلسفة ، فإن المطالع المحايد لهذا الفكر تتنابه الدهشة من اكتشاف أنه لم يكن فكراً مبهراً في بعض جوانبه على الأقل . فعندما ناخذ في التفتيش بين صفحاته عن الحرية الإنسانية مثلا نجد ـ وياللعجب ـ أن المفكرين اليونان الذين ناصروها مناصرة كاملة وصريحة على مدى ألف ومائتي عام هي عمر هذا الفكر لايتعدوا ثلاث مدارس فلسفية من بين المدارس الفلسفية الكثيرة التي كان هذا الفكر عامراً بها!!! بل أن مفكرين عظام من أمثال سقراط وأفلاطون والرواقيين لم يكونوا من المناصرين المدافعين عنها ، بل على العكس كانوا من المعارضين المنكرين لها .

     لا شك أن لمشكلة الحرية الإنسانية حيويتها المتجددة دائما ، لقد كانت الحرية ولا تزال تثير جدلاً طويلاً بين المفكرين حتى عصرنا الحاضر ، ولا زلنا نتسأل مثلما كان القدماء يتسألون عما إذا كان الإنسان في حقيقة أمره يتصرف مدفوعاً بفعل قوى خارجية تسيره أم أنه موجود حر يتصرف من وحي عقله وإرادته الحرة ، وهل يجوز لنا أن نميز الإنسان عن غيره من الحيوانات بأنه كائن حر الإرادة أم لا ؟ فإذا ما اتجهنا صوب فلاسفة اليونان في عصرهم الذهبي لنفتش بينهم عن هذه الحرية الثمينة وجدنا أنهم ينقسمون في معالجتها إلي ثلاثة اتجاهات رئيسة : إتجاه أنصار الحتمية الصارمة والذي تنكر للحرية تنكراً تاماً وجعل الإنسان خاضعاً في كل أفعاله وسكناته للحتمية الآتية من قوى خارجية تسيره وتدبر أموره دون أن يملك حتى الاعتراض ، وضم هذا الاتجاه الطبيعيين الأوائل وسقراط والرواقيين . ثم أنصار الحتمية غير الصارمة أولئك الذين نادوا بما يجوز أن نسميه "حتمية رقيقة" تفسح مكاناً للحرية الإنسانية جنباً إلي جنب القول بالضرورة ، وهؤلاء هم : أفلاطون وكريسيبوس الرواقي ، وأفلوطين . وأخيراً اتجاه المؤيدين للحرية الإنسانية الخالصة ، الذين ناصروا الحرية وهاجموا كافة أشكال الحتمية ، وهم السفسطائيين وأرسطو والأبيقوريين . وسوف يدور محور حديثنا هنا على هذا التيار الأخير.

     لقد آمن هذا الفريق من مفكري اليونان بأن الإنسان يملك القدرة على الاختيار الحر الواعي لبديل مناسب له من بين البدائل المتاحة ، وأنه مسئول مسئولية كاملة عن هذا الاختيار . لقد قاموا في مذاهبهم بعمل مزدوج : أنهم اهتموا بهدم كافة القيود والمعوقات الخارجية التي من الممكن أن تعوق نشاطنا الحر ، ثم قاموا بعد ذلك بتشييد الحرية الإنسانية على الإيمان الكامل بقدرة الإنسان التامة على تشييد واقعه وشخصيته الحرة الواعية تشييداً حراً. لقد رفض هذا الفريق الحتمية لأنه اعتبرها مبطلة ابطالاً تاماً للمسئولية الأخلاقية ، وتجعل أشكال اللوم والمديح والنصح والتربية نفسها عبثا لا طائل منه ، ويعطى مبرراً قوياً للمجرمين ليتنصلوا من المسئولية وبالتالي من العقاب .

    دعنا نحاول أن نقترب أكثر من كل مذهب من هذه المذاهب اليونانية المؤيدة للحرية :

1- الحرية عند السفسطائيين

    مع السفسطائية بدات الفلسفة اليونانية تدخل طوراً جديداً ، هو طور الفلسفة الإنسانية . حيث كانت السفسطائية ثورة عنيفة على الفكر الطبيعي السابق عليها، وفي الوقت ذاته فلسفة إنسانية خالصة تهتم بدراسة الإنسان ليس بوصفه عقلاً جامداً ، بل كإرادة فعالة حرة تسعى إلي تأكيد ذاتها واثبات نجاحها في كافة المجالات العملية.

    جاءت السفسطائية تعبيراً قوياً إذن عن النزعة الفردية والتي كانت آخذة في الانتشار آنذاك ، وتأكيداً قوياً على الحرية الإنسانية ، التي يوظف فيها الإنسان كل قواه ومهاراته لتحقيق نجاحه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* باحث وأكاديمي مصري .

 في هذه الحياة . وامتد السفسطائيون بهذه الحرية إلي الدين والسياسة والفنون والأخلاق ، وجعلوها حرية قائمة على العقل الإنساني . لقد تنبه الناس ـ كما يقول تسللر ـ إلي أن الضمير ليس كافياً بمفرده ولا نافعأ حقا ما لم يكن مستحسناً بواسطة إقتناع الإنسان الذاتي ، ومشبعا لمصلحته الفردية . لقد فقد الإنسان إحترامه للشيئ الحقيقي بوصفه كذلك ، ولم يعد يقبل شيئاً على أنه حق وهو عاجز عن التأكد منه ، ولن يشغل نفسه بشيء لا يستطيع أن يستبين المنفعة الشخصية العائدة عليه منه.[1]

    ركز السفسطائيون في برامجهم التربوية التي اضطلعوا بتعليمها على تثبيت هذا الشعور بالحرية ، والاعتزاز بالنفس في نفوس الشباب اليوناني . لقد أمنوا بامكانية تعلم الفضيلة والنجاح ، وذلك إذا ما تعب الإنسان واجتهد في السعي إليهما . وجسد ذلك إيمان السفسطائية بحرية الإرادة الإنسانية ، إذ لو كانوا قد أمنوا بأن الإنسان في كل أفعاله مجبر على قول وفعل أشياءً بعينها ، لما كانوا قد رأوا أن هناك فرصة ممكنة لتغيير أفعاله وشخصيته واكتسابه الفضيلة بواسطة التعليم السفسطائي ، ولما كانوا قد نظروا إلي الحياة على أنها سلسلة من الأفعال الحرة التي يتخذها الإنسان لتحسين وضعه وتحقيق ذاته في الحياة. ونجد جورجياس السفسطائي يعيش عمراً مديداً ، وعندما يُسئل عن السبب يرد  ذلك إلي أنه استطاع أن يقهر الضرورات الخارجية والنفسية ، فكان طول عمره هذا راجعا إلي تمتعه بالحرية النفسية الكاملة في حياته ، وأنه لم يغتم أو ينشرح لذم أو مديح الأخرين له ، ولم يسمح لنفسه على الاطلاق بأن تُضلل باي شيئ يحد من هذه الحرية.[2]   

    وإذا كان هيبياس السفسطائي قد نادي بأن مثله الأعلى الذي يعلمه للشباب في برنامجه التربوي هو مبدأ الاكتفاء الذاتي ، والاستقلال التام عن الأخرين ، فقد رأي أنطيفون السفسطائي بأن الإنسان لن يستطع بلوغ هذا المستوى الأعلى من الحرية والاستقلال الذاتي الذي يعده به هيبياس إلا عندما يسيطر على نفسه ويلتزم بفضيلة الاعتدال والتناغم النفسي ، فلا يطلق العنان لشهواته الجسدية المهلكة ، بل يلتزم بالحكمة والانضباط الذاتي ، وراح أنطيفون يوصي تلاميذه بهذا ، فلا شيء أعظم تهديداً للحرية من الكآبة والأمراض النفسية التي يسببها إنهمااك الإنسان في الملذات . وصرح بأن أعظم متعة من الممكن أن يحوزها الإنسان هي متعة الهدوء النفسي.[3] ومن ثم يمكن القول بأن ما كان يسعى إليه السفسطائيون في برامجهم التربوية هو تحرير معاصريهم من رق العقول الذي كان مفروضاً عليهم من قبل . وبهذا أنزلوا الإنسانية محل الصدق المطلق الذي كان قبلهم ، ونادى زعيمهم بروتاجوراس في شعاره "الإنسان مقياس الأشياء جميعاً" بأن العقل الإنساني الحر هو الحكم الأوحد في المعرفة والأخلاق والسياسة ، ومن ثم نادى بنوع من الفلسفة الآنية التي تجعل الذات المدركة هي كل شيء على نحو ما سوف يفعل بركلي حديثاً.[4]

       وكم جسد كريتياس السفسطائي هذا الايمان بالحرية الإنسانية عندما وضع الإرادة العقلية أو كما اسماها "الطبع" في المقام الأعلى في تصريف أمور البشر ، إذ إليها يجب أن يخضع كل شيء في الحياة.[5] وهي التي تضفي الوحدة على الإنسان وعلى سلوكه. الإنسان الذي يحسن إستغلال إرادته العقلية في تحقيق سعادته يبلغ أقصى درجات الكمال في الحياة.

      طالبت السفسطائية بتوفير الحرية لإرادة الذات الفردية من أجل إصلاح الحياة البشرية والقضاء على الظلم والجور وكل صور استغلال البشر القديمة الدينية والطبيعية والفكرية والسياسية . فمع الفردية تبرز العقلانية واضحة ناصعة ، وفي بروز العقلانية تتحقق الحرية والاستقلال . لقد نادت السفسطائية بأن حياة الإنسان ملك خاص به يفعل بها ما يشاء . كما أن أفكاره ومعرفته ومعتقداته وأذواقه ورغباته كلها ملك له أيضا ، وبامكانه ألا يعترف باي سلطة أخرى ، ولا بمعيار أخر لسلوكه . والتمتع بهذه الأشياء المتاحة أمامنا هو الاستغلال الأمثل للحياة.[6] فلا عجب إذن طالما أن السفسطائية قد جعلت الإنسان بإرادته الحرة الواعية معياراً للأشياء جميعا أن نجدها في دراساتها في فلسفة الحضارة والدين والقانون ـ ترد السفسطائية الحضارة والدين والقانون إلي ابتكار الذات الإنسانية الحرة . وهي بهذه الخطوة تعكس بلا شك إيمانها العميق في الحرية الإنسانية ، وفي قدرات العقل البشري البالغة ليس على الصمود فحسب أمام الضغوط الخارجية ، بل وعلى خلق الدين والقانون ذاته.

      وجاءت منادة السفسطائية إلي اتباع قانون الطبيعة ونبذ العرف والتقاليد المتوارثة تجسيدا قوياً لإيمانها بالحرية الإنسانية . ففي اتباع قانون الطبيعة حفظ للحرية الإنسانية مما يحيق بها من إجحاف مصطنع خارجي ، لأن الطبيعة في نظرها هي التي تتيح للفرد أن يتصرف بطريقة حرة وصادقة ، متبعاً البحث الحر عن المنفعة ، ومستقلاً عن قيود القانون الوضعي التي تضر بهذه الحرية.[7] وقادت هذه المناداة باسقاط العرف السفسطائية إلي الدعوة إلي اسقاط كافة القيود المفروضة على البشر والمكبلة لحريتهم الطبيعية من قبل الأعراف ، ومن ثم طالبوا بإلغاء قانون الرق ، طالما أن الطبيعة قد خلقت الناس متساوين . فكانوا قادة للتنوير في المجتمع اليوناني المتزمت الذي كان يقدس الفروق الطبقية ، بل من السفسطائيين من كان ينادي إلي الأخوة العالمية الشاملة ، ونشر السلام والأمن بين سكان العالم أجمع . لذلك كانوا أول من انتصف للحرية في العالم القديم.

    لكن دعوة السفسطائية إلي الحرية لم تكن تعني دعوة إلي الفوضى والعبثية ، لأن الإنسان الذي يتبع وحي الطبيعة يعرف حق المعرفة كيف يتحكم في شهواته ، ويقهر نوازعة ، ويغلب نفسه الطماعة. فلا يمكن أن تكون الحرية لديهم تعني الأنانية الأخلاقية أبدا.[8] إن اعتراف البشر جميعا بالوحدة المتناغمة للطبيعة يقودهم لا محالة إلي التنظيم الإجتماعي المتوائم ، وإلي أن يعترفوا جميعا بالصورة المثالية للإنسانية المتحابة . فالجميع متساوون في الحقوق والواجبات ، وأحرار في الأفعال ، ولكن شريطة ألا يضروا بحريات الأخرين ، حتى لا يضر هؤلاء الأخرون بحريتهم هم أنفسهم. فكان إيمان السفسطائية بالحرية والمساواة ثورة فكرية انتصفت للنزعة الإنسانية في عصر كان اليونان جميعا ينظرون إلي الشعوب الأخرى غيرهم على أنها بربرية ، ولم يتخل فلاسفة اليونان العظام ـ سقراط وأفلاطون وأرسطو ـ عن هذه الدعوى على الاطلاق ، فإمن سقراط بها ، واعتاد دائما أن يشكر ربه كل يوم على أنه لم يولد بربرياً.

    لكن الحرية التي نادى بها السفسطائيون لم تكن حرية مطلقة بل كانت حرية مسئولة . فإذا كانوا قد اعتبروا الإنسان الحر هو الإنسان الذي يسلك وفقا لطبيعته الإنسانية الخاصة ، وغير الحر هو ذلك الذي يخضع لأشكال من الجبر الخارجي : سواء من الأعراف المصطنعة أو من الأوهام والخرافات التي تصور له وجود آلهة وعقاب بعد الموت ، فلم تكن هذه الحرية تساوى عندهم الفوضى ، بل حرية مقيدة بالمسئولية الكاملة عن الأفعال . وقد جسد بروتاجوراس في شعاره "الإنسان معيار" واقعة حرية الإرادة الإنسانية تجسيداً صريحاً . فهو يؤكد على مسئولية الإنسان الكاملة عن أفعاله طالما إختارها بمحض إرادته الحرة . ولولم يكن الإنسان مسئولاً عن فعله الذي يفعله بناءً على قرار إرادته الحرة لما كان لأشكال العقاب والتأنيب ـ كما يقول بروتاجوراس ـ أي معنى ، ولا أحقية اصلاً ، فلا أحد سوف ينبري ليعلم أو يؤنب أو يعاقب من ترجع جرائمه إلي قوى أخرى غير إرادته الحرة . فمن الحمق أن يعاقب إنسان الضعفاء والمذنبين وهو يعلم أن هذا النوع من الخطأ من عمل الطبيعة.[9] ولم تنظر السفسطائية إلي العقوبات التي توقعها القوانين على أنها إنتقام من المجرم ، بل اعتبرتها وسيلة لتربية هذا المجرم وتقويم سلوكه ، وكذلك ردع الآخرين عن الاقدام على هذا الفعل الإجرامي بدورهم في المستقبل.

    ولقد نظرت السفسطائية ـ نتيجة لإيمانها بالحرية الإنسانية ـ إلي الشخصية الإنسانية على أنها من تشييد الإنسان وحده ، وأنها مكتسبة من خلال إختياراته الحرة المستقيمة . فنحن الذين نبني شخصيتنا بأنفسنا ، والقدر لا وجود له أصلا ـ كما قال كريتياس السفسطائي ـ إنه لخرافة قالها عقل أخرق ، وكل أفعالنا نابعة من ذواتنا الحرة ، والشخص الذي يضحي نبيلاً قوي الشخصية يكون أفضل من القانون نفسه.[10]

    وما نود أن نؤكد عليه أخيراً هو أن السفسطائيين في إيمانهم بالحرية الإنسانية كانوا الرواد الأول لأفلاطون وأرسطو والمدارس التالية ، إذ بعد إثارتهم لهذه الإشكالية لم يعد ممكنا للفكر اليوناني بعدهم أن يتجاهلها ويعود إلي الانكباب على دراسة الطبيعة كما كان ويهمل الإنسان . بل كان لابد أن يواصل السير خلف السفسطائية في نفس الطريق.

2- الحرية لدى أرسطو

     لايدين أرسطو بشيء كثير إلي أفلاطون في التصور الذي يطرحه للحرية الإنسانية ، إذ كان رواده العظام في ذلك السفسطائيون . والسبب في ذلك أن أفلاطون كان يشغله في المقام الأول التوصل إلي تعريف شامل مناسب للمدينة المثالية فلم يول سوي عناية بسيطة للفعل الفردي، في حين اهتم السفسطائيون اهتماماً عظيماً بتحليل علية الفعل البشري . فجاء أرسطو فخرج على مثالية استاذه المتطرفة هذه ، وانتهج ـ بتأثير السفسطائية ـ نهجاً واقعياً غائياً يهتم بالفردي اهتمامه بالكلي على حد سواء.

    اهتم أرسطو بإنصاف الفرد وتحريره من كافة اشكال الحتمية التي قال بها السابقون عليه ، فانتقد الحتمية الطبيعية التي قال بها السابقون على سقراط ، وهاجم حتمية سقراط العقلية ، ورفض شمولية دولة أفلاطون ، وقلص دور الإله في الكون ليقضي على الحتمية اللاهوتية .

    لقد أمن أرسطو بالحرية الإنسانية إيماناً راسخاً جعله يؤكد على أن بناء شخصيتنا في هذه الحياة واحداً من الأشياء التي تكون في متناول استطاعتنا ، فنحن مسئولون عن نوع الشخصية الذي نصير إليه في رأيه .[11] وكذلك عن الفضيلة أو الرذيلة التي نفعلها ، ومن ثم يوصينا أرسطو من هذا المنطلق بأن نتبع الوسط في كل افعالنا لنفوز بهذه السعادة في الحياة ،[12] ولولا إيمان أرسطو بهذه الحرية لما كان قد أوصانا بهذا أبدا.

   كان الإنسان في نظر أرسطو الكائن الوحيد الذي يتمتع بنفس فاعلة عاقلة حرة قادرة على التعميم وعلى الابتكار ، وسعادته وفضيلته في حياته ترتكزان فحسب على عمل عقله وحده ، وليس على ضروب الحظ أو الضرورة ، أو على الوهب الإلهي. صحيح أن الطبيعة تقدم الإستعدادات الأولية التي تساعد على تحققها ، إلا أن الإنسان هو المشيد الأعظم لسعادته . لذلك يطالبنا أرسطو بأن نخطط لحياتنا ، لأن حياة غير مخطط لها لا تستحق الإلتفات إليها أصلاً ، إذ فيها لا نعرف ماذا سوف نفعل ، ولماذا ، وكيف يمكن أن نصل إلي ما نريد ، إنها لسخافة محضة لا تستحق أن تُعاش.[13] ولن يتم التخطيط لهذه الحياة بدون العقل ، إذ لا يكون الإنسان فاضلاً وسعيداً إلا من خلال إتخاذه لسلسلة من الاختيارات المتروية عقلياً لأفعال معينة من بين كل الأفعال المتاحة أمامه ويرى أنها مؤدية إلي الفضيلة . ولما كانت الشئون الإنسانية أموراً نسبية ومتغيرة في رأي أرسطو ، ولما كانت أيضا خيرات الحياة التي تقدمها الطبيعة للبشر ليست كافية للجميع ، فقد وجد أرسطو ضرورياً أن يؤكد على أهمية التعود على اتخاذ الإختيارات الصائبة على الدوام لبلوغ السعادة . غير أنه لا يجب أن يُفهم من ذلك أن الفضيلة مجرد عادة فحسب ، وإنما ينبغي إضافة إلي ذلك أن يكون فعلها متعمداً . وينبغي أن تُكفل هذه النية في فعل الخير بواسطة العقل العملي الذي به يختار الإنسان الأهداف الفردية من الفعل في الحياة العملية.[14]

    نظر أرسطو إلي الإنسان على أنه العلة الفاعلة لأفعاله في هذا العالم ، فهو مبدأ سلوكه ، وعلة لمعلولات ممكنة الحدوث ، بل هو علة في إحداث أفعاله كما يكون علة في إنجاب أبنائه . وتقوم المسئولية الإنسانية على هذه الأفعال التي يكون الإنسان العلة الفاعلة والمختارة لها.[15] ونفس الإنسان هي المبدأ المحرك الحر في رأي أرسطو داخل الإنسان الذي يحرك البناء العضوي من خلال التروي والاختيار العملي [16]، لكي ينجز هذا البناء الأفعال المؤدية إلي تحقيق سعادة الإنسان المشبعة لمطالب كل من العقل والشهوة على حد سواء . وتتجسد هذه الفاعلية الإنسانية الحرة في ـ رأي ارسطو ـ فيما يتخذه الإنسان في حياته من اختيارات حرة . وكان هذا القول رائداً في فلسفة الفعل الإنساني . وحق لديفيد روس أن يقول " إن تصور أرسطو للإختيار المتعمد كان أول محاولة لصياغة مفهوم الإرادة كمفهوم محدد ومميز عن العقل الذي كان لدي سقراط.[17] فماذا كان أرسطو يعني بالاختيار المتعمد الذي أقام عليه الفاعلية الإنساية؟؟

     عرف ارسطو الاختيار المتعمد بأنه " فعل ما يكون مصدره العلي داخل الإنسان نفسه ، ويعرف هذا الإنسان كل الجوانب والملابسات الجزئية التي يقع فيها هذا الفعل."[18] وتشير كلمة " المصدر العلي" هنا إلي عنصر الرغبة ، لذا كان الاختيار لدي أرسطو قائماً على مقومي العقل والرغبة معا .[19] وقد اعتبر ديفيد روس أن قول أرسطو هذا باعتماد الاختيار الحر على الرغبة والعقل أبرز ما يضيفه أرسطو إلي الفكر السابق عليه.[20] 

    فكان الاختيار الحر لدي أرسطو وحدة متألفة من عقل ورغبة ، أو قل كان رغبة مترتبة على تروي عقلي يبدأ بمشيئة وينتهي إلي إقرار بالفعل . وقد علق أرسطو صحة الإختيار البشري بشرط أن تكون الرغبة خيرة والاستدلال عليها سليماً ايضا .[21] إن العقل بمفرده ليس كافياً للفعل الحر " لأنه بذاته لا يحرك شيئاً ، ويحتاج إلي الرغبة كجانب دافع له على الفعل ، كما أن الرغبة بدون العقل مجرد إندفاع أهوج وليس إختياراً واعياً حراً ."[22] لذلك تحدث أرسطو عن الاختيار الحر بوصفه شيئاً أكثر من مجرد الرغبة وحدها أو مجرد التروي العقلي وحده فقال عنه أنه " رغبة مسترشدة بتروي عقلي في إختيار ما يناسبنا مما في إستطاعتنا فعله."[23]

     فإذا كان الاختيار الحر لدى أرسطو رغبة متروية عقلياً في وسيلة في استطاعتنا فعلها للوصول إلي غايتنا ، وكان الإنسان هو وحده المتمتع بالحكمة العملية (التروي العقلي) فإن الاختيار المتعمد قاصر لدى أرسطو على بني الإنسان وحدهم دون بقية الموجودات . وعلى مسألة إمتلاك البشر لملكة التروي العقلي والاختيار الحر هذه تقوم المسئولية والتكليف الأخلاقي والقانوني للبشر في رأي ارسطو . لذا كانت الفضيلة والرذيلة أمورا خاصة بالبشر وحدهم . وهذا ما جسده أرسطو في تعريف الفضيلة بأنها "ذلك الذي ينبغي أن يختار من أجل ذاته إختياراً متروياً عقلياً كالعدالة والسعادة ."[24] أو هي " إختيار الوسط الذي يناسبنا من بين البدائل المطروحة أمامنا ، فهي التي تحقق توازننا النفسي مشبعة لكل من العقل والرغبة معا."[25]

     فلا يرى أرسطو ما سبق وأمن به سقراط من قبل بأن الإنسان يكون مختاراً فحسب إختياراً حراً للفضيلة وحدها ، بل ذهب إلي أن الإنسان مختار ومسئول كذلك عن إختيار كل من الفضيلة والرذيلة على حد سواء . فالمتهتك يتبع ملذاته بشكل متعمد ويستجيب إليها عن إختيار ، معتبراً أن ذلك من واجبه ، وكذلك الفاضل ينتصر بشكل مختار منه على رغباته كذلك .[26] في الأول تتغلب الشهوة على العقل ، ويحدث العكس في الثاني ، وفي الحالتين تتصرف النفس بشكل إرادي حر. وأكد أرسطو هلى أن حياة الإنسان في جملتها سلسلة من الاختيارات الحرة ، وأن الإنسان هو المشيد الوحيد لشخصيته ولاتجاهه العام الذي يسلكه في الحياة.[27]

    غير أن هذا التأكيد الأخير سوف يجلب على أرسطو اعتراضاً مؤداه أن نوعية شخصيتنا لا ترجع في الحقيقة إلينا وإنما إلي ميولنا ونوازعنا الفطرية ، فلا نكون المختارين لها ، وإنما من كوننا قد ولدنا بالشكل الذي نحن عليه ، إنها هبة طبيعية كالصحة سواء بسواء.[28] ولا يستسلم أرسطو لهذا الاعتراض ، بل ويعتبره مغالطاً ، طالما أن البشر يعنفون بوجه عام على الظلم والجبن في حين لا يعنفون ولا يلامون على كونهم قد ولدوا مشوهين أو متخلفين عقلياً. فليست شخصيتنا مرساة بالطبيعة بل نحن الذين نشيدها إعتماداً على أنفسنا ، ومن خلال إختيارنا الحر.[29]

     فإذا كان الاختيار يقوم لدى أرسطو على مقومي الرغبة والعقل ، فمن الواضح أنه يفسح مكاناً في نسقه لحرية الإرادة الإنسانية ، وكذلك لحرية الاختيار الإنساني للأفعال التي تروق للإنسان وتناسبه في هذه الحياة . لقد كان إختيار الإنسان المتروي الحر ـ في رأي أرسطو ـ هو السيكولوجيا التي تكمن خلف كل فعل يصدر عن الموجودات البشرية الواعية . وهو الذي يميز الإنسان عن الكائنات الأخرى ، وعليه ترتكز القوانين والمحاسبات الأخلاقية . إننا أحرار لدى أرسطو ومسئولون عن أفعالنا ، فلا ترجع أفعالنا إلي أي علل أخرى خارجية غير تلك القائمة في ذواتنا ، فهذه الأخرة هي آصول أفعالنا الوحيدة.[30]

    بل إننا نرى أن قول أرسطو بأن الفضيلة هي اختيار الوسط شيء يؤكد على إيمان أرسطو بالحرية الإنسانية طالما أن هذا الوسط شيء نسبي يحدده الإنسان بنفسه ، حيث أنه هو الذي يحدد في المواقف التي تقابله الكيفية التي سوف يتصرف بناء عليها وفقاً لحكمته هو العملية. وجسد أرسطو كل ذلك في تعريفه للفضيلة بأنها " نزوع إلي الاختيار متوائم بشكل جوهري مع الوسط الملائم نسبياً لناً والمحدد بواسطة حكم العقل."[31]غير أن أرسطو يشترط ضرورة وجود الفضيلة داخل الإنسان لضمان إستقامة الاختيار الذي يتخذه بشكل حر ، فيختار الإنسان الوسط ولا يفرط في أفعاله ، وبدون الفضيلة سوف ينحرف الإختيار الإنساني عن الطريق الأصوب وينكب الإنسان على هدف شخصي أناني يحاول تحقيقه بشتى الطرق بما فيها الطرق المنحرفة أخلاقياً.[32]

    كان أرسطو إذن مناصراً قوياً للحرية في الفكر اليوناني ، اعتبر الإنسان مختاراً حراً لأفعاله ، وغير خاضع لأي صورة من صور الحتمية ، كما كان الإنسان لديه مسئولا مسئولية كاملة عن إختياراته الحرة ومحاسب أخلاقياً وقانونياً عليها . أما الحساب الأخروي فأغلب الظن أن أرسطو لم يؤمن به. ومن ثم وضع أرسطو العقل الإنساني فوق الطبيعة ، وجعل هذا العقل هو المميز للإنسان ، وهو أساس التكليف والمسئولية التي تكون قاصرة بمعناها الكامل على الإنسان وحده . لقد كان الإنسان لديه المسئول عن أفعاله الحرة وعن بناء شخصيته التي يجسدها في إختياراته المختلفة . فردود أفعالنا تنبع من نوعية شخصيتنا ، ونحن مسئولون عن هذا الرد ، وفي الوقت نفسه عن شخصيتنا.[33] وفي رأيه لا تقوم الأخلاق والمسئولية والمحاسبة إلا على أفعالنا المختارة الحرة ، على افعالنا التي نصدرها ونفعلها بناء على تقريرنا العقلي ، وعلى رغبتنا الباطنية في فعلها .

3- الحرية عند الأبيقورية

    كانت الأبيقورية صفحة ناصعة من صفحات الفكر اليوناني ، فقد كانت صوتاً عالياً مناصراً للحرية الإنسانية ، ومهاجماً للأنساق الحتمية التي تنكرها. ناصر أبيقور زعيمها القول بتمتع الإنسان بحرية إختيار أفعاله ، كما اعتبره مسئولاً كاملاً عن هذه الأفعال ، صحيح أنه أمن بالنزعة الذرية التي قال بها ديمقريطس وهي في الحقيقة اقرب صلة بالحتمية منها بالحرية ، لكن إيمان ابيقور الراسخ بالحرية جعله يجري تعديلات كثيرة على هذه الذرية للتوافق مع القول بالحرية الإنسانية . لقد ترسخت في ذهنه قناعة كاملة بأن الحرية هي قدر الإنسان المحتوم الذي لا يملك الفرار منه ، وأخذ يهاجم كافة المذاهب الفلسفية التي تنادي بالحتمية ، وأعتبر أن موقف المفكر الحتمي موقف يشل صاحبه ، ويجعله حتى عاجزاً عن مجرد الدفاع عن نفسه ، لأن المرء الذي يقول بأن كل الأحداث تحتمها الضرورة لا يكون لديه برهاناً يرد به على نقد من يقول بالعكس ، وذلك لأنه وفقاً للنسق الحتمي نفسه فإن موقف هذا الأخير في حد ذاته حدثاً ضرورياً.[34]  

    تمسك ابيقور ومعه مدرسته بمبدأ حرية الإرادة الإنسانية ، ومن أجل ذلك أقصى أي علل خارجية (طبيعية كانت أو إلهية ) عن التدخل بأي بشكل في إملاء الفعل الإنساني ، وجعل مصدر هذا الفعل العقل الإنساني وحده . ونظر أبيقور إلي مبدأ الحرية هذا على أنه طوق النجاة للخروج بالإنسان من الحتمية المفضية إلي الشلل هذه ، ومن دائرة الأقدار ، فلا ينطلق الإنسان في كل أفعال إلا وفقا لإرادته الحرة هو ، ومن ثم فلا تحتم عليه فعله ، ولا لحظة الابتداء متطلبات الزمان ولا المكان ولا الإرادة الإلهية بل عقله وحده.[35]ومن أجل ذلك نظر أبيقور إلي العقل الإنساني على أنه أساس التكليف ، والذي تقوم عليه المسئولية الإنسانية . وانتهج نزعة مادية فردية عقلية لكي يفسح مكاناً في نسقه الفلسفي للحرية الإنسانية ، وذلك من أجل أن يحفظ على الإنسان هدوئه وسلامه القائمان في عقله ، ويحميه من الخوف من قوى عديدة لا تحصى ، وطالب الإنسان بأن يجاهد للإبقاء على حياته الفردية متحررة من الاضطرابات والمخاوف .

     لقد كانت الخطوة الأولي التي اتخذها أبيقور في نسقه الفلسفي هي السعي الجاد إلي تخليص معاصريه من الأوهام والمخاوف المسيطرة على عقولهم وتقف حجر عثرة أمام سعادتهم الكاملة ، وحريتهم التامة في هذه الحياة . صحيح أنه كان يعيش في ظل عصر ملئ بالطغيان السياسي واللاجتماعي ، وصحيح أيضا أن ظروفه الشخصية كانت محبطة إلي أبعد الحدود فقد كان أبيقور يعيش في فقر ومنفي ومرض ، إلا أنه أعلن تحديه لكل ذلك  ، وأعلن بأن السعادة تكمن داخل قدرة الإنسان عندما يريد ذلك ، بل واعتبر أن العمل على تحرير الإنسان من مخاوفه هذه والتي تقيد إنطلاقه المهمة التي ينبغي أن تضطلع بها الفلسفة ، وأن عليها أن تعلم البشر كيف يعيشون حياة عقلية متزنة ، لا يرتضون فيها سوى بما تمليه عليهم عقولهم الحرة وحدها.

     كان الخوف من الموت ومن العقاب الأخروي ، والخوف من الآلهة ابرز المخاوف التي تكبل عقول معاصري ابيقور وتمنعها من الانطلاق وممارسة الحرية الإنسانية ، لذلك جعل أبيقور تحرير معاصريه من هذين الخوفين اللبنة الأولي في نسقه الفلسفي. ولتبديد الخوف المتوهم لدي البشر من الموت ومن الحساب الأخروي استند أبيقور إلي معيار المشاعر الحسية ، فالإنسان لا يشعر باللذة أو بالألم إلا من خلال الحواس ، ولما كانت النفس عند الموت تفني بفناء الجسد لأنها مادية مثله فلن يعد لدى الإنسان بعد الموت أي إحساس ، ومن ثم فلن يكون هناك إحساس ، ومن ثم فلن يكون هناك إحساس لا بالعذاب وبالنعيم ،[36] فإذا كان الأمر كذلك فإن الخوف من الموت وهم كاذب ، وعلى الحصيف أن يعود نفسه على الإيمان بأن الموت لا يمثل أي شيئ لنا ، بل عرض طارئ في حياتنا ، وعلينا أن نسعى إلي التمتع بالسعادة الكاملة في حياتنا الدنيا ، لأنها الوحيدة التي نعيشها ، أما الموت فيعني الرقاد الأبدي.[37] فلا يجب أن يحيل الإنسان حياته الوحيدة المتاحة له إلي جحيم بأن يقع فريسة لخوف خيالي من شيء لا وجود له . واعتبر أبيقور الخوف من الموت ومن الآلهة من الأساطير التي اصطنعتها السلطات السياسية لترسيخ أقدام حكمها المستبد ، ومنع العامة من الثورة عليها لتحسين أحوالهم ، ومن ثم يصيح أبيقور بمعاصريه قائلاً " ايها الحمقى لم تفزعوا مما لا يمكن على الاطلاق أن يمسسكم بسوء؟؟ إذ طالما أنكم على قيد الحياة فالموت بعيد عنكم ، وعندما تموتوا فلن تشعروا بشيء ، ولن تعرفوا حتى أنكم متم . إنكم سوف تكونون في راحة تامة مثلما كنتم قبل أن تولدوا."[38]

    أما الخوف من الآلهة فقد قهره أبيقور في نفوس معاصريه عندما أصر على تهذيب التصور التقليدي للألوهية بشكل يحفظ ويصون الحرية الإنسانية ، ويمحو الخرافة التي سلبت الإنسان كرامته وفاعليته الحرة ، وجعلته كائناً خضوعاً ألجمه الخوف. فألغي ابيقور اي تدخل لقوى خارجية إلهية في شئون الكون ، وحرص على محو فكرة أن الإله قوة متعسفة ، وأضحى الإله لديه هو المثل الأعلى للموجود الكامل السعادة الذي على البشر أن يقلدوه . فغذا ما أمكن تحرير الإنسان من كل هذه الأوهام ، وتنبه هذا الإنسان إلي عقله واتبع ما يمليه عليه هذا العقل من أمور ، أمكنه أن يحقق حريته وسعادته ، وأن يفوز بحالة الهدوء النفسي ، وهي حالة سلبية من السعادة اعتبرها أبيقور المثل الأعلي في هذه الحياة ، وطريق الإنسان الوحيد إليها هو الحرية النفسية من كافة الضغوط الخارجية.

   صحيح أن أبيقور قال بالمذهب الذري الذي قال به ديمقريطس من قبل ، لكنه أدخل فكر الانحراف الذري على حركة الذرات في الكون حتى يستطيع انقاذ الحرية الانسانية من الغرق في بحر الحتمية الذي اغرقها فيه ديمقريطس من قبل . إن فائدة الانحراف الذري أنه يحررنا من التصور القائل بوجود قدر صارم غير شخصي ، ويثبت وجود الإرادة الحرة الإنسانية ، وذلك لأن الذرات تنحرف عن مساراتها بفعل إرادتها هي نفسها الحرة وليس بفعل اي ضغوط خارجية عليها.[39] ولما كان العقل البشري يتألف من ذرات مادية ، ولما كان هو أيضا مصدر الحركة في الإنسان ، فإنه بالتالي يكون حراً في أفعاله . وتفسير ذلك أن النفس الإنسانية مادية بسيطة ومتماثلة عند الناس جميعا ، وما يؤدي إلي اختلاف أنماط الناس هو اختلاف الطريقة التي بها تنتظم ذرات هذه النفوس من شخص لأخر.

    استطاع ابيقور بإدخال فكرة الانحراف الذري الحر أن يحرر الإنسان من جانب من قبضة الضرورة الآلية ، فذرات العقل الإنساني تنحرف تلقائياً فتقدم على فعل شيء معين أو عدمه وفقاً لما يروق لها ، وهذا هو فعل الإرادة فيما ظن أبيقور .[40] وبهذا كسر قوانين القدر بواسطة مقررات الطبيعة ، إذ اعتبر قوانين الذرات وحركتها قوانين حيوية تلقائية . ولم يكتف أبيقور باقصاء كل الضغوط والقوى الخارجية عن حركة ذرات العقل الإنساني الحرة ، بل وأبعد عنها أيضا كل ضرورة داخلية في الإنسان نفسه ، إذ لا تحكم ذرات العقل لديه بواسطة ثقلها حكماً تاماً مطلقاً ، حتى لا يقال أن العقل مُقاد بواسطة الضرورة الباطنية ،[41] وإنما هي ذرات حرة في حركتها بالمعنى الأتم للكلمة . فلا يتألف الوجود الإنساني الحر من مجرد عمل ذرات النفس ، بل آمن بأن الموجودات البشرية قوى فاعلة أخلاقية مستقلة وعلية بالمعنى الكامل . ومعتقداتهم ورغباتهم وأهدافهم نابعة من عقلهم الخاص ، وسعادتهم تحت تصرف سلطتهم ، وإلا لما كانوا مسئولين عن أخطائهم ومحاسبين عليها أخلاقيا وجنائياً.[42]

    فلا يعتمد الفعل الإنساني الحر ـ في رأي أبيقور ـ على العلل الخارجية (اصطدامات الذرات) ولا على العلل الباطنية والتي تتمثل في حركة ذرات النفس الإنسانية الناشئة من ثقلها ، وإنما يكون العقل الإنساني عرضة للإنحراف كما يريد إلي الجهة التي يختارها دون أي اجبار . وقد اشار ليوكريتيوس إلي هذا الإنكار الأبيقوري للضرورتين الخارجية والباطنية على الفعل البشري ، وأكد على أن إرادة الإنسان وقدرته على التقرير والبت من الممكن أن تنتصر على بناء جسمه الطبيعي ، إذ لو كان العقل يُبني في لحظة الميلاد ، وأن أفعالنا تحتم علينا بواسطة الوزن الثابت لذرات عقولنا ، فسوف يكون من المتعذر إصلاحنا إصلاحاً تاماً ، ولن تثنينا أي صور من التأنيب على الاطلاق.[43] لذلك قال أبيقور " لا يرجع فشل بعض البشر القادرين بشكل طبيعي للوصول إلي هذه الغاية أو تلك إلي الذرات ، وإنما إليهم هم أنفسهم ، لذلك نتعارك معهم ، ونلقي بالمسئولية عليهم ، إذ أن هذا الخطأ راجع إلي نزوعهم النفسي الخاص وإلي تصوراتهم وميولهم."[44]

     لم تكن أفعالنا الحرة وحدها نابعة مما يمليه علينا عقلنا التلقائي الحر ، بل وكانت شخصيتنا نفسها في جملتها من بناءنا الحر . إننا مسئولون مسئولية كاملة عن بناء شخصيتنا ، فهذا البناء من صنعنا نحن أنفسنا منذ البداية . والأشياء التي تنبع بالضرورة من خلال إنطلاقاتنا مما يحيط بنا تكون في مجملها من جريرتنا ومعتمدة على أفكار ومعتقدات من صنعنا أنفسنا ، وكوننا نلوم ونؤنب المقصرين دليل على أننا أحرار في أفعالنا ، وإلا كنا واقعين في التناقض الذاتي ، كيف نلوم ونحمل المسئولية على ذلك الذي لا يملك الإنسان التأثير عليه.[45]لذلك أعلن أبيقور أن بوسع أي إمرئ في اي مرحلة من عمره أن يعدل من رغباته ، ويغير من شخصيته في ضوء ما يستجد من براهين عقلية متروية لديه ، فيصبح المرء سعيداً بعد أن كان شقياً أو العكس. ويستبعد ابيقور تماما أن تكون العادات والميول الشخصية النفسية من الممكن أن تصبح عوامل قسرية في ذات الإنسان بشكل لا يمكن فيه أن تُعدل تعديلاً كاملاً.[46] وأمن في الوقت نفسه أن المعرفة بامكانها وحدها أن تحدث إصلاحنا بهذا الشكل.

    كانت كل الأفعال التي يفعلها الإنسان إنطلاقاً من قواه الباطنية وحدها لدي الأبيقورية أفعالاً حرة ، بل وتطرف ليوكريتيوس بعض الشيء فقال إن كل الأحداث في الكون عرضية ولا وجود لأي ضرورة عليها. ويكفي نظرة سريعة على تصور أبيقور للكيفية التي بها تحدث الأفعال البشرية حتى نستبين كيف تقف الإرادة الحرة لديه وراء كل فعل يصدر عن الإنسان إذ أن ما يحدث عندما نهم بفعل ما هو أن هناك صورة ذهنية تبرز أمام العقل فتفجر في العقل مشاعر الانجذاب أو الابتعاد إلي الشيء الذي عرضت صورته هكذا أمام ذهننا وفقا لطبيعة ونوعية نوازعنا المصاغة . فإذا كان الفعل يبدو مناسباً ومحققا اللذة لنا فسوف تنشأ عن ذلك رغبة داخل عقولنا إلي إنجازه فننجزه والعكس صحيح.[47]ويتضح من الوظيفة التي يعزوها أبيقور هنا إلي العقل أن هذا الأخير عنده يعمل كمبدأ للحياة والنشاط التلقائي الحر . إذ بهذا الشيء القائم في صدورنا نتحرك حركتنا الحرة نحو طلب اللذة . إن إرادتنا الحرة هي التي تعطي البداية الأولي لهذه الحركة ، ومنها تفيض هذه الحركات على كل الأعضاء. إن ما يحدث في العقل من إحساس بانعدام الضرورة من داخله عند تأديته للأفعال ، وعدم إحساسه بأنه شيء مهزوم أو مضطر إلي أن يتحمل وأن يعاني هو الانحراف الطفيف في الذرات التي تؤلفه الذي قصده أبيقور في مذهبه.[48]

   لا يكون سلوك المرء محتوماً عليه بشكل صارم بواسطة القوى الخارجية لدى الأبيقورية ، بل أن الدافع والميل الباطني هو الذي يدفعنا دائما بشكل حر وتلقائي إلي أفعالنا. فلا توجد في الإنسان أي سلطة أخرى تعلو على سلطة إرادته العقلية الحرة . ينظر إلينا أبيقور على أننا كائنات عاقلة لدينا القدرة العقلية الحرة على أن نفكر ونتحكم في رغباتنا ، ونستحدث داخلياً إتجاهاً نقدياً نحوها فنختار إشباع ما نريد ، ونرفض إشباع مالا يروق لنا. ويقيم أبيقور المسئولية على قدرتنا على تعديل رغباتنا هذه في ضوء غاية معينة نقدرها تقديراً عقلياً وهي السعادة ، في حين تسقط مسئوليتنا عن الأفعال التي نفعلها تحت قهر القوى الاجبارية الخارجية أو قوى إنفعالاتنا الباطنية التي نفقد السيطرة عليها. وحتى عندما طالب أبيقور بضرورة وجود سيادة قضائية للدولة على الشعب ، اشترط أن تكون هذه السيادة بدرجة معينة تسمح بقيام أقصى مستوى من الحرية الفردية ، ويجعل سعادة المدينة متوقفة على وجود توافق تكاملي بين إرادة الفرد وإرادة القانون . لأن الإنسان لا يولد حراً لدى الأبيقورية ، وإنما يصل إلي الحرية التي هي اختيار يختاره هو وحده وليس قانوناً للطبيعة ، ولن يصل الإنسان إلي هذه الحرية إلا بالاتفاق مع غيره من بني البشر على قوانين تضبط العلاقات المتبادلة.[49]

     وإنتهي أبيقور إلي أن الحرية شرط أساسي للسعادة التي هي الغاية والكمال الطبيعي للحياة ، واعتبر الحرية ليست حقاً مكتسباً ، وإنما إنجاز يحققه الإنسان بيديه وبتخطيط عقله. لقد كان مصدر سمو أبيقور الفلسفي أنه قال بفرض الانحراف الذري فحررنا بذلك من قيد الضرورة الطبيعية الصارمة . لقد أعطانا أبيقور بفرضه هذا فوائد عظيمة ـ كما يقول تلميذه لوكريتيوس ـ إذ أقام القانون الأسمى للحياة الذي يسمى الحكمة ، وحرر الجنس البشري من نير الحتمية الصارمة التي تقضي على كل حرية وكل إنسانية داخل هذا الإنسان ، ومنح الإنسان طريقاً مضموناً لبلوغ سعادته في هذا العالم.[50]

 



[1] -  -E. Zeller: A History of Greek Philosophy, Trans by : S. F. Allyer, Longmans,        Green and co. London, 1881,  Vol. 11, p.504.                                                                                           

[2] - M. Untresteiner: The Sophists, trns by: K. Freeman ,Basil Blackwell, Oxford,        1954, p.94.                                                                                                                                               

[3] - W. Kaufmann: Philosophic Classics, vol. 1, Prentice Holl , U. S. A, 1961, p.82.     

[4] H.Baker: The Image of man, Harper torchbooks, New York,1961, p. 30.                   -

[5]                                                                                    M. Untresteiner: Op Cit, p. 332.-

[6]                   F. W. Bussell: The school of Plato, Methuen & Co., London, 1896, p.80.-

[7] - M. Untresteiner: Op Cit, p. 247.                                           

المصدر: مجلة التسامح العمانية العدد 25 شتاء 2009م
  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 7403 مشاهدة
نشرت فى 22 سبتمبر 2011 بواسطة MahmoudMorad

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

60,751