ابتليت مصر مؤخراً بأصحاب النفوس المريضة والعقول المغرضة التي لا هم لها سوي المتاجرة بالدين والتمسح سطحياً بشعاراته والدين نفسه منها براء من أجل تحقيق مصالح دنيوية تافهة. ابتليت مصر بهؤلاء المتاجرين بالدين قبل ثورة يناير ، وزاد الابتلاء حدة بعدها .ابتليت بفئة يحلو لها أن تلبس النصوص الدينية من المعاني ما لا تحتمل لخدمة مصالحهم الشخصية وليس من أجل الإعلاء من شأن الدين، ابتليت بفئة نصبت من نفسها أوصياء على الدين وعلى حمايته ، وغفلت عن ثوابت الدين الجازمة بأنه لا وصاية لأحد في الإسلام على إيمان أحد . غفلت عن أن الله عز وجل خاطب نبيه المصطفي للرسالة والبعثة بأنه مجرد مذكر للناس فقط حيث خاطبه بقوله " فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر ." من أعطي من يطلقوا على أنفسهم لقب "سلفيين " الحق في أن ينصبوا أنفسهم أوصياء على عقيدة الناس ؟؟ من أعطاهم الحق في أن ينصبوا المحاكم الدينية ومحاكم التفتيش للناس فيقولون هذا مسلم وهذه مسلمة نحارب من أجل الحفاظ عليها في الحظيرة الإسلامية مع أن الإسلام لا وجود فيه على الإطلاق لمثل ذلك؟

   يا سادة أليس فيكم رجل رشيد ؟؟! أليس فيكم رجل يفهم جوهر الإسلام الناصع المضيء الذي لا يحجر في العقيدة ولا في الرأي ولا في التعبير على أحد ؟؟ بل حرية العقيدة والرأي فيه مكفولة للجميع . لقد أفرد الإسلام للإنسان حقوقاً كثيرة تخصه وحده وتميزه عن بقية الكائنات ، جعل له حقوقاً في مواجهة غيره من أفراد المجتمع ، وفي مواجهة الحاكم ، بل ويمكن القول بأن الإسلام أفرد له حقوقاً في مواجهة الله نفسه وهو خالقه ، فليس لله أن يعذبه مثلا إلا بذنب . وهذه الحقوق مصونة في الإسلام لكل البشر على السواء بغض النظر عن دينهم أو لونهم أو جنسهم ، ولا يمكن أن تعطل على الإطلاق ، وقد جاءت متفقة مع الفطرة البشرية ، وتستند على التكريم الإلهي للإنسان ، وترتبط بمفاهيم الأمانة والاستخلاف على الأرض.

    إن الحق والواقع يشهدان بأن الإسلام جاء في الأصل ليضمن الحرية للإنسان كحق من حقوقه الأساسية، بل وجعلها من أهم قيمه ، لأنها فطرة الله التي فطر الإنسان عليها، ولأنها احدي مقومات الشخصية الرئيسية للإنسان . وسواء في ذلك الحرية الدينية ، أو حرية الرأي والتعبير . لقد أعلن الإسلام الحرية للناس جميعاً ، وكفلها لهم بصورة لم تعهدها الإنسانية قديماً أو حديثاً. ولم يحدث في تاريخ الإسلام أن أكره إنسان على ترك دينه وإتباع الإسلام، ولا تم منع إنسان من ممارسة شعائره الديني في محل عبادته ، وعلى الطريقة التي يفرضها دينه. ولم يذكر التاريخ قط أن حاكماً مسلماً عندما فتح بلداً قد هدم كنيسة ، أو أغلق معبداً ، أو حوله إلي مسجد .

   وساوي الإسلام بين المسلمين وبين أصحاب الديانات السماوية الأخرى في القيمة الإنسانية , وفي الحقوق الأساسية التي تكفل لهم السعادة ، وفرض على الدولة المسلمة توفير الحقوق الإنسانية لغير المسلمين ما داموا مسالمين " لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم ، إن الله يحب المقسطين." (الممتحنة 8) وعبر الرسول الكريم عن هذه الروح في المساواة في الإسلام عندما قال عن أهل الكتاب " لهم ما لنا , وعليهم ما علينا " وقال أيضا " من آذى ذميا فأنا خصمه يوم القيامة ." [1]

      كفل الإسلام حرية العقيدة والتفكير والرأي والتعبير قبل أن تكفلها القوانين الوضعية، وقبل أن تتطرق إليها المواثيق الدولية الدولة، حرية بلا أدنى قيود سوى الالتزام بالحدود التي أقرتها الشريعة وعدم التآمر على أمن وسلامة الجماعة. فلكل فرد الحق في أن يفكر ويعتقد ويعبر عن فكره ومعتقده دون أدنى تدخل أو مصادرة من أحد ، ما دام يلتزم بالحدود العامة. ومن حقه بل ومن واجبه أن يعلن رفضه للظلم وإنكاره له ، وأن يقاومه دون تهيب من مواجهة السلطة ، كما يجب احترام مشاعر المخالفين في الدين ، ولا يجوز لأحد أن يسخر من معتقدات غيره ، ولا أن يستعدي المجتمع عليه.[2] قال تعالى " وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ." (الأنعام 108) فمن حق الإنسان في الإسلام أن يختار عقيدته الدينية بلا إكراه، يقول تعالي مؤكدا على حرية العقيدة "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنْ من فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا، أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (يونس 99) ويقول عز وجل " فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر" ، و.."لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من ألغى " ( سورة البقرة 256)،  بل إن من يرتدون عن الإسلام فلا يجوز قتالهم في رأي البعض من الأئمة والمفسرين[3] طالما أنهم لم يقاتلوا المسلمين ولم يعلنوا الحرب عليهم في دينهم عملا بقوله تعالى:  " لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ. إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ "( الممتحنة8-9) لأن هناك نوعين من الارتداد : المرتد الذي يقتصر ارتداؤه على نفسه دون أن يمس المجتمع والدولة في شيء ، هذا ليس في القرآن ما ينص على قتله ، وإنما يتوعده بالعقاب الشديد في الآخرة " وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" (البقرة 217) " مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" (النحل106)  أما المرتد الذي يتجاوز الرجوع عن الإسلام إلي محاربته والتحالف مع خصومه فله حكم الخيانة ويجب قتاله، وقد قاتل الصديق مانعي الزكاة لهذا السبب رغم معارضة عمر لذلك.[4]

    ومما هو جدير بالذكر هنا أن الإسلام نفسه قد كان يعرض نفسه على الناس في دائرة هذا الاحترام لحرية العقيدة . وكانت وظيفة صاحب البعثة لا تعدو الشرح والبيان ، واستخدام اللسان والقلم في تحبيب دينه للناس . صحيح أن القرآن تناول المعارضين له والكافرين بالنقد وبأساليب شتى ولكن لم يكن منها قط أسلوب الإرغام  على قبول الإسلام ، وترك لأصحاب الديانات الأخرى أن يظلوا على ديانتهم الأصلية بلا إكراه ، وكل ما طلبه منهم هو عدم التهجم المر على الإسلام.[5] يقول الكتاب العظيم "وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ." (آل عمران 20) كما كفل الإسلام حق كل الإنسان  في ممارسة شعائر الدين الذين يعتنقه بأمن وسلام , وليس هناك أدل على ذلك من مواثيق التعامل مع أهل الكتاب , ومع غير المؤمنين التي أبرمها المسلمون الأوائل في الفتوحات الإسلامية .

 



32- أميرة فتوح : حقوق الإنسان في مصر المعاصرة , ترجمة : إسماعيل صادق , الزهراء للإعلام العربي , ط1 , القاهرة , 1992 , ص 22 .

[2] - د/ طارق عزت رخا : المرجع السابق ، ص62.

[3] - ممن قال بعدم قتال المرتد: الشيخ محمود شلتوت ، وعبد العزيز البشري ، وراشد الغنوشي ، أنظر تفاصيل ذلك : د/ فهمي جدعان : حقوق الإنسان في الإسلام ، مقال في : حقوق الإنسان في الفكر العربي، ص 211-212.

[4] - د/ محمد عابد الجابري : المرجع السابق ، ص 63.

[5] - د/ محمد الغزالي : المرجع السابق ، ص 89.

  • Currently 55/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
17 تصويتات / 655 مشاهدة
نشرت فى 21 سبتمبر 2011 بواسطة MahmoudMorad

ساحة النقاش

Dr-mostafafahmy

أحسنت قولاً يا أستاذنا الفاضل... وحقًّا ما قلت بأن " الحق والواقع يشهدان بأن الإسلام جاء في الأصل ليضمن الحرية للإنسان كحق من حقوقه الأساسية، بل وجعلها من أهم قيمه " .

MahmoudMorad

سعيد بمرورك يا دكتور مصطفي كما أنني سعيد جدا بتصفح موقعك الفلسفي على نفي الصفحة والله يوفقك دائما لما تحبه وتتمناه

د/ محمود السيد مراد فى 26 سبتمبر 2011

عدد زيارات الموقع

60,748